الدين والقانون، قانون النسخ
من Jawdat Said
التاريخ يفرض الهدف والمعنى ، لأن الشيء بدون تاريخ يمكن أن يكون منقطعاً وعبثاً ، ولكن التاريخ هو رؤية الحاضر مع الماضي والمستقبل ، وكل من أمكن أن يرى هذا بوضوح فهو في صلاة وقداسة ، ومنغمس في الوجود ومنجذب ومدفوع ليحقق الأفضل .
إن الإنسان عنده استعداد أن يبذل نفسه وماله في سبيل تحقيق ذاته ، وشوقه إلى تحقيق ذاته لهيب لا ينطفئ . يمكن أن يخطئ الإنسان في فهم حركة الشمس ، ولكنه متمكن من أن يصحح خطأه ، ومكن أن لا يكرر الخطأ ، ويتجاوز الخطأ ، والتاريخ يعلمنا هذا . إنه أستاذ صبور ، والأنبياء أيضاً تلميذٌ نجيبٌ ، وكفءٌ لأن يفهم درس التاريخ وتعاليمه ، وهو في النهاية يستجيب لنداء التاريخ ويتقدم إلى الأفضل ، إلى الاقتصاد والاستثمار ، والأنبياء يكشف قدرته خلال التاريخ .
ويمكن أن نلمح في الإنسان أن استخراج أفضل ما فيه ليس بقهره وإكراهه ، إنه يملك شوق المعرفة ، وعلينا أن نكون حاذقين في استثمار هذا الشوق ، والتاريخ يقدم لنا نماذج من هذا الاستثمار . التاريخ ضد التبذير وضد تضييع الوقت ولا يضيع التاريخ هذا الهدف وهو دائماً في تقدم إليه . ينبغي أن نفهم هذا من تاريخ الوجود ، هذا الذي اقتبسنا تسميته من القرآن حين قال :
( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) ] فصلت : 41/53 [ .
آيات الآفاق والإنسان تفصح عن الحق الكامن فيه ، تراود ذكاء الإنسان وتغري الإنسان أن يقوم بدوره في اختصار الزمن والوصول إلى أفضل مردود بأقل زمن وجهد ، إنه قانون كبير في القرآن : إن ما يميز الحق من الباطل هو :
( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ] الرعد : 13/17 [ .
هذا هو قانون التاريخ وهدفه الذي لم يتوقف خلال التاريخ كله ، وهو أن الأنفع للناس وليس لبعضهم فقط ، هو الذي سيبقى في الأرض ، وهذا القانون هو المرجع الفاصل القاطع الذي لا يرحم المتخلف عنه ؛ إنه سينسخه ويحوله إلى جفاء .
والأنفع للناس ينسخ الأقل نفعاً ، سواء في التقنيات أو الصور الذهنية ، وهذا القانون يكرره القرآن ويقول :
( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ] البقرة : 2/106 [ .
ويؤكد القرآن هذا القانون في الحوار الذي جرى بين إبراهيم وقومه :
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ] الشعراء : 26/69-74 [ .
إن إبراهيم في حواره هذا يطالب بالمردود ، بالنفع الذي يحصلون عليه من هذا الاعتقاد أو السلوك ، وبهذا يمكن أن نعتبر إبراهيم هو (البراجماتي) الأول ، على أساس النفع العام وليس النفع الخاص فقط ، بينما قومه لا ينظرون إلى الموضوع على هذا الأساس بل ينظرون على أساس أن آباءهم هكذا كانوا يفعلون ، والقرآن يبني أحكامه على أساس العواقب النافعة في الحرام والحلال ، فقد ذكر في سبب تحريم الخمر أن ضرره أكبر من نفعه فقال :
( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) ] البقرة : 2/219 [ .
ويذكر هذا السبب بالذات في موضوع التحليل والتحريم فيقول :
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ] الأعراف : 7/157 [ .
والقرآن حين يعتبر التوحيد رسالة جميع الأنبياء وجميع أولي العلم وجميع الآمرين بالقسط من الناس ، يقول على لسان الأنبياء جميعاً :
( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ) ] الأعراف : 7/73 [ .
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ] النحل : 16/36 [ .
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) ] آل عمران : 3/64 [ .
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ) ] آل عمران : 3/18 [ .
هنا نجد أن رسالة الأنبياء ، تحول المسألة اللاهوتية الميتافيزيكية إلى مسألة اجتماعية سياسية في الصميم . وينبغي أن ننتبه إلى هذا الانتقال والتحول باهتمام حتى لا يكون انفصال بين المقدس والدنيوي ، بين الإلهي والبشري ، بين الدنيا والآخرة .
فكيف نفهم ونؤكد أن المسألة الدينية هي المسألة الدنيوية ؟ . إن الأنبياء ربطوا المسألة الدينية بالمسألة الاجتماعية السياسية ، ليعطوا لمسألة العدالة قوة أكبر ، ولكن التاريخ يعلمنا أن مشكلة الإنسان مشكلة رفض المساواة وبمصطلح القرآن ( كَلَمةٍ سواءٍ ) ] آل عمران : 3/64 [ .
إن الذي يرفض كلمة السواء يكون قد وضع نفسه فوق البشر وجعل نفسه إلهاً متعالياً مقدساً يُنْطِقُ الله في القرآن فرعون بهذا التعالي والتأله .
قال فرعون : ( أَنا رَبُّكُم الأَعَلى ) ] النازعات : 79/24 [ .
وقال : ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ] القصص : 28/38 [ .
وقال : ( لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ ) ] الشعراء : 26/29 [ .
وهدد فرعون للسحرة الذين آمنوا بموسى .
وقال : ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ] طه : 20/71 [ .
وفي حوار إبراهيم مع فرعون عصره :
( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ] البقرة : 2/258 [ .
فلهذا كانت رسالة الأنبياء جميعاً هي الدخول في عبادة الله والخروج من طاعة الطاغوت ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ] النحل : 16/36 [ ، ادخلوا في طاعة الله واجتنبوا الطاغوت ، وإلى يومنا هذا ، فالمشكلة هي نفس المشكلة حيث بعض البشر لا يقبلون كلمة السواء ، وبعض البشر يقبلون طاعة الذين يرفضون كلمة السواء ، وبعبارة أخرى ، بعض البشر يؤلهون أنفسهم ، وبعض البشر يقبلون هذا التأله ولا يرفضونه . إن رسالة الأنبياء كَسَرت هذه العلاقة ، وفَرَضت الخروج من هذه الازدواجية التي تتكرر ، ويكون ذلك بتبادل المواقع ، مستكبرون ومستضعفون ، والعلاقة بينهما عنيفة ، علاقة قوة قهرية ، قوي يفرض ألوهيته بالقوة وضعيف يخضع للقوة ، شريعة القوة هي شريعة الغابة ، شريعة الكائنات قبل الإنسان . وعند هذه المشكلة وصلنا إلى لب العلاقة بين الدين والقانون ( اسم وعنوان مجلة الحقوقيين في أمريكا ) .
إن إضاءة هذه العلاقة وإزالة اللبس فيها لها أهمية لحل المشكلة الإنسانية أو وضعها في طريق الحل ، والأسماء جاؤوا لحل هذه المشكلة ، والتاريخ يقدم أيضاً حله ، فإذا أمكن جعل التعاون بين الحلين ، ونكون قد أعطينا قوة دافعة للحركة الإنسانية لحل معضلتها الكبيرة ومرض الحضارات كلها ، وشفائها من الفصام النفسي وقد قرب ميلاد المعافاة والخروج من الأزمة ، كيف سنجعل علاقة بناءةً وشفاءً للقلوب ، وليست علاقة معاناة وهدم وإعاقة ؟ نعم مهما كان فهم الموضوع صعباً فإن التقدم والتطور متسارع .
يصف المسيح ، صعوبة الطريق الذي يؤدي إلى الحياة إذ يقول : « ما أضيق البابَ وأكربَ الطريق الذي يؤدي إلى الحياة » .
المسألة ليست مسألة لاهوت وإنسان ، بل المسألة اجتماعية ، ظلم وعدل ، مساواة وامتيازات ، آلهة أرضية ترابية وعبيد يستعبدهم جَهلُهُم ، ومعلمون غير واثقين من علمهم ، لا يقومون بتلقيح عقول الناس بالمعرفة فيعطونهم المناعة من الاستعباد . إنَّ الأمر كما قال عيسى عليه السلام : « إذا كان النورُ الذي فيك ظلاماً فالظلامَ فيكَ كم يكون » .
يمكن أن نقول إن المشكلة ليست في الطواغيت المستبدين والعبيد المستذلين ، بل في المعلمين ( أولو العلم ) المستقيلين المتبلدين ، الذين لا يثقون بقوة ما عندهم ، أو الذين يخافون من قوة الجسد ولا يعرفون قيمة قوة المعرفة . هل يمكن أن نقول بلغة العصر : إن المشكلة مشكلة مثقفين وليست مشكلة السياسيين ؟ هل حقاً بدأ المثقف يطرح المشكلة بهذا المستوى حين بدأ يتحدث كالغشيم عن ( المعرفة والسلطة ) ، هل لنا حق ببحث هذه المشكلات ؟ هل لنا حق في إزعاج راحة المثقفين الذين يبرؤون أنفسهم بإلقاء اللوم على السياسيين الذين يخدمون أصحاب الأموال ، وعلى الناس العاديين الذين يجهلون حركة الآلة الاجتماعية ، وعلى المسيطرين على الإعلام الذي يسد منافذ الفهم عند الناس ، وعلى إقناعهم بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، فعلى من تقع المسؤولية ؟ وهل يمكن أن تكون هناك مسؤولية بدون سلطة ؟ وما السلطة ؟ وكيف كانت السلطة خلال التاريخ ؟ هل يمكن أن أقول مُذَكِّراً بما بدأت به هذه المقالة من أن تطور الجهاز العصبي عند الإنسان ، وإمكانية نقل الخبرة بالرمز ، أوجد في الأرض نائب الله أو خليفة الله الذي يمكن بواسطته أن يتدخل الإنسان بقدرته على المعرفة في صنع مصيره ، في سفر التكوين حين تحدث عن خلق آدم :
« وقال الرب الإلهُ هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخيرَ والشرَ » تكوين (3 : 23 ) .
إنه أكل من شجرة المعرفة إنه يريد أن يأكل من شجرة الحياة ، يريد الحياة إلى الأبد والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ، ويأكل ويحيا إلى الأبد ( ولهيب سيف متقلب لحراسة شجرة الحياة ) هذا الذي قال عنه عيسى عليه السلام :
« ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة » متى ( 7-14 ) .