مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الرابعة

من Jawdat Said

مراجعة ١٢:٥٧، ١٠ ديسمبر ٢٠١٣ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

مذهب ابن آدم الأول


Mazhabibnadam.jpg
تحميل الكتاب
مقدمات للكتاب
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الأولى
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الثانية
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الثالثة
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الخامسة
مقدمة مذهب ابن آدم الطبعة الرابعة
عناوين
نصوص في مذهب ابن آدم
ملاحظات
نماذج من عمل الأنبياء
عمل القاضي غير عمل الداعي
البلاغ المبين
موقف المسلم من الكفر البواح
تهمة الإرهاب
شبهات حول مذهب ابن آدم
مزايا مذهب ابن آدم
مفاهيم في العمل الإسلامي
خاتمة


(وَإِذْ قَالَ رَبُكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِني جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِي أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ) ] البقرة 2/30 [.

وبعد لقد مضى على الطبعة الأولى لهذا الكتاب ربع قرن كامل وأنا مشدود الأعصاب على مراقبة الأحداث مع أفكار هذا الكتاب، فضلاً عن تبادل الآراء حول موضوعه بشكل جاد أو حاد. ومع ذلك فإن الملاحظات التي وضعتها بعد مقدمة الكتاب لا تزال صادقة على نحو يعدو للتفاؤل أحياناً، وأحياناً أخرى يدعو للأسف من بطء النمو.

وبما أن عابة الأمور التي تشهد على صدق الأفكار وصحة المفاهيم، فإن هذا الربع الأخير من هذا القرن قد أضاف من آيات الآفاق والأنفس على صدق ووجاهة ووضوح هذا الموضوع أكثر مما تراكم خلال التاريخ البشري من ناحية الإنسانية، وأكثر مما تراكم من تجارب من خلال التاريخ الإسلامي من عهد معاوية واستيلائه على الحكم بالقوة وجعله وراثة بالقهر.

والجمهور من المسلمين كانوا دقيقين في الإعراب عن وجهة نظرهم بطريق الرمز، والسكون عن التدخل في التفاصيل، حين طبعوا على جبين التاريخ أن الخلفاء الراشدين أربعة فقط، حيث وصلوا إلى الحكم برضا المسلمين، وكلمة الوصول إلى الحكم برضا الناس أو بقهرهم، إن لم تكن جديدة على الوعي البشري أو الإسلامي، إلا أن ربط هذه المقولة بوصف الخلفاء الأربعة وحدهم بالراشدين، والكفِّ عن إطلاق هذا اللقب عمن بعدهم..

أقول إن هذا الربط شيء جديد على الواعية الإسلامية، وأستطيع أن أقول إنه شيء لم أسمع به من قبل ـ وربما لشدة وضوحه، ومن شدة الوضوح الخفاء ـ. وإن كان المسلمون يعتبرون الشيء الذي لم يُسْمَع به في أسلافهم بدعةٌ إلاَّ أن هذا الموقف الإسلامي ينبغي أن يتزحزح ويتزلزل، لأن ردّ المقولات على أساس أنها لم يُسمَع بها من قبل، فكرة ترد في القرآن على أساس إدانة أصحابها لا على أنها مزيَّة يمتازون بها، وأنها فضيلة إنسانية. والمسلمون قد يقبلون أن يُقال لهم أن وصول الحاكم إلى الحكم ينبغي أن يكون برضا المسلمين لا بقهرهم، ولكن ما يلزم هذا من أن عزله ينبغي أن يكون بواسطتهم أيضاً أقل إدراكاً وتفهُّماً، وإن كان هذا التصور ممكناً أن يدخل في واعية المسلمين وفهمهم وإدراكهم، إلا أنهم يرون أن الطريق إليه كسدود، ولا يمكن الوصول إليه بغير القوة العنف، ولكن لا يشعر المسلم أنه بهذه النظرة دخل في المتاهة التي لا مخرج منها، وسنَّ بذلك سنَّة تمنعه من العودة إلى الصواب. إن هذا الشعور بأنه لا يمكن الوصول إلى الحكم بغير القوة استبعادُ للفكرة الأساسية الإسلامية والإنسانية، وهذا الاستبعاد والإخفاء، والإزاحة لبعض الأمور وإبراز أخرى، مشكلة ثقافية وتربوية لصياغة أسلوب التفكير. تقوم بها كل الثقافات البشرية وأحسنهم طريقة فقط أقلهم استبعاداً وإخفاءً للطرق الأخرى الممكنة. أقول يحتم المسلم بأنه لا طريق للوصول إلى الحكم إلاَّ بالقوة، ويفعل هذا بكل سهولة ويسر، وتسول له نفسه أن هذا العمل ليس بخطيئة كبيرة، وليس منكراً، وأنه يمكن التساهل فيه وتجاوزه من غير حرج، بشرط أن توضع خطة ناجحة ومحكمة لهذا الاقتناص للحكم. وحتى لا يقال ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، ينبغي أن تقول مهما كان هذا القول خافتاً ومستبعداً، وغير مسموع به ولا مُفَكَّراً فيه، وحتى لم يُطرح الموضوع كسؤال، لأن مجرد السؤال عن الشيء والتساؤل عنه يدخله في عالم المفكَّر فيه، وهذا السؤال الذي لم أسمع به في الثقافة الإسلامية هو ما يلي: ما هو الفرق أو ما هي القاعدة التي نميز بها بين الجهاد والخروج في الإسلام؟

هذا السؤال ينبغي أن يوضع في البؤرة، أي ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للوصول إلى الإجابة عنه، لأن المسلمين ينزعجون من هذا السؤال، حيث يؤدي إلى كشف خبيئهم، وأنهم صاروا خوارج ولم يعودوا مجاهدين. وبما أن هذا الموضوع مسكوت عنه سكوتاً مطبقاً في الثقافة الإسلامية المتوارثة، ولأنهم يرون أنه لم يعد في الإمكان ممارسة الجهاد إلا عن طريق جهاد الخوارج، لابد من إثارته من جديد بكل الإلحاح وبكل الوعي واليقظة التامة.

ولسنا بحاجة إلى أن نعيد الثناء على الجهاد الممدوح والمرفوع إلى ذروة سنام الإسلام، أقول لسنا في حاجة إلى ذكر وإعادة مقام الجهاد في القرآن وكتب السُّنَّة، فهذا معروف ومشهود ومحفوظ ومعاد ومكرر بما فيه من الكفاية، وكذلك من المعروف ـ ولو بشكل أقل ـ أن الخوارج يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم أكثر صياماً وصلاة من سائر المسلمين، وأن هذا معروف في كتب السُّنَّة، وفي كل كتاب للسُّنَّة يوضع كتاب أو باب للفتن يوصف فيه الخوارج. ومع ذلك لم يبحث أحد من المسلمين القاعدة التي نميز بها بين جهاد الإسلام وجهاد الخوارج، لماذا لم يطرح هذا الموضوع للبحث الجدي؟ ولما أقول لم يطرح ولم يبحث، لا أزعم أني اطَّلعت على كل ما قاله المسلمون في هذا الموضوع، حيث من العسير أن يطَّلع فرد واحد على كل ما قاله المسلمون، على فرض أن كل ما قاله المسلمون في هذا الموضوع، صار مطبوعاً ومتداولاً وممكناً الاطَّلاع عليه، فضلاً عما لا يزال في عالم المخبآت، وفضلاً عما أبيد من أفكار المسلمين بأيدي المسلمين، حيث كانوا يحرقون من الكتب ما لا يحبون أو لا يوافق هواهم، وبأيدي غير المسلمين حيث كانت الكلمة العليا للسيف وليس للفكر والفهم. وإلى أن يأتي الباحثون ليجيبوا عن هذا السؤل باستفاضة، وبتشقيق القول فيه، لا مانع من أن نقول: إن الذي كان يصرف عن هذا السؤال، أن البحث فيه كان يمكن أن يوصل إلى الكشف عن شيء لا نحبه ولا نرغب فيه، وهو أننا صرنا جميعاً خوارج، والخوارج وإن كانوا كسائر الاتجاهات الفكرية مذاهب كثيرة، إلاَّ أنهم ينقسمون إلى فريقين بارزين؛ فريق القَعَدة من الخوارج الذين هم خوارج في الاعتقاد فقط ولا يحاولون أن يمارسوه عملياً، وخوارج عمليون وهم الذين يمارسون الجهاد حسب فهمهم له. ونحن صرنا خوارج، بعضنا خوارج قعدة، والبعض الآخر خوارج عمليون يمارسون جهاد الخوارج.

لاشك أن بحثاً يؤدي إلى أن يكشف لنا أننا خوارج قلباً وقالباً، ومغموسون إلى الأعماق في هذا المذهب، لا يعجبنا ولا نحب أن يذكرنا بذلك أحد، ولا نرغب أن يتناول أحد بحثاً يؤدي إلى أن يكشف وضعنا.

وأنا أشرت إشارتين خفيفتين إلى هذه المشكلة في هذا الكتاب، المرة الأولى في مقدمة الطبعة الثانية التي طبعت في مصر، حين قلت لا يزعج مستيقظاً ولا يوقظ نائماً بأسلوب: « إن أحداثاً جساماً تمرُّ في العالم في صمت، من غير دراسة متعمقة ولا تحليل دقيق لأسبابها وما ينتج عنها، إن عدم تناول هذه الأحداث بالدراسة الجادة لدليل على أن أمراض المسلمين لا تزال تتمتع بحصانة تمنعهم من مواجهتها. وهذا الموقف غير الناضج يكون سبباً في وقوعنا في أخطاء، لم نكن نريدها البتة، كأن نتبنى فكر الخوارج دون أن نقصد إلى ذلك، ومن غير أن يخطر لنا ذلك على بال ».

والإشارة الثانية في خاتمة الكتاب التي أضيفت إلى الطبعة الثالثة في دمشق، هناك فقرة أخرى صغيرة بعنوان (الجهاد والخروج) قلت فيها: « ولكن المشكلة التي ضاعت مفاتيحها وإدراك سننها وشروطها الدقيقة، في خضم الفتن المتتالية، هي تحليل مفهوم الجهاد الذي قام به الرسول ص، واختلاط هذا الجهاد بجهاد الخوارج.. الخ ».

ولكن هنا في مقدمة هذه الطبعة في الإمارات العربية المتحدة، أريد أن أسلط ضوءاً آخر، أرى أنه مهم، مهما كان خافتاً أيضاً، على هذا الموضوع المنسي وغير المسموع به واللامُفَكَّر فيه، بل ربما من المستحيل التفكير فيه في الظروف الحالية، ولنفتح الباب لنجعله ممكن التفكير فيه، نقول الآن ونفتح الخطاب فيه من جديد لأن آيات الآفاق والأنفس هي التي أوجبت العودة إلى هذا الموضوع المستبعد البحث فيه.

الأفكار غير المسموع بها

والأفكار غير المسموع بها يمكن أن تنقسم إلى قسمين:

قسم منها قريب التناول والفهم، وربما نعجب كيف لم يخطر لنا على بال مع وضوحه ووجاهته، وهذا ما يقال عن صاحبه أنه عبقري ومبدع.

وقسم آخر من الأفكار غير المسموع بها، بعيد التناول والفهم ومرعب يزلزل كياننا، ونشعر أنه ينسف أسس تفكيرنا، وينسف الدنيا التي نعيش فيها؛ هذه الدنيا المرقعة، هذه الدنيا التي نعيش في هامشها ككائنات مدجنة، لا يحق لها ولا يُسمح لها أن تُفكر في أنفسها مثل سائر البشر، وعندما أقول ينسف أسس تفكيرنا ودنيانا، أقصد أيضاً أنه ينبغي أن ينسف أسس تفكيرنا وما ينتج عنها من الأوضاع السيئة التي نعيش فيها، لأن أوضاعنا السيئة نتيجة لما بأنفسنا من أفكار وتصورات، فإذا كانت هذه الأوضاع السيئة ينبغي أن تُنْسَف ويحل محلها أوضاع أقل سوءاً، كذلك ينبغي أن يزول ما بأنفسنا من أفكار وتصورات، هي سبب وجود هذه الأوضاع السيئة وسبب بقائها واستمرارها. وهذه العلاقة بين ما بالأنفس من تصورات وما بالواقع من أحوال سيئة مزرية.. أقول هذه العلاقة خفية ومنسية وغير مُفَكَّر فيها بما تستحق من اهتمام، وغير مسموع بها، والبحث فيها لا يكون على مستوى جاد ومُلِحّ، وإنما يذكرها العوام أحياناً تحت عنوان: لم نعد مسلمين إلاَّ بالهوية، أو لَّما يتناولها بشكل غير ملفت للنظر، بعض المصلحين حين يطلق تعبير (المسلمين جغرافياً). وهذه الأفكار المستحيل السماع بها وتناولها على شكل جاد، من يطرحها يقال له أو يمكن أن يقال له: كافر وزنديق بادي الرأي، وإن كانت ستتحول بعد ذلك إلى أفكار ممكن السماع بها. والعلاقة بين ما بالأنفس وما بالواقع مثل العلاقة بين ما لم يسمع به وبين ما هو مستحيل السماع به، تنمو ببطء شديد في العالم الإسلامي، وكأن بين هذين العالمين سد غير قابل لإقامة معابر وطرق مواصلات وتبادل حوار، لإحكام إغلاق السد، وتسميك الجدار، ورفع بنيانه عالياً. هل يمكن أن يطرح سؤال: ما هو الفرق بين جهاد الخوارج والجهاد الذي جاء به الإسلام؟ مثالاً تطبيقاً على العلاقة بين ما بالأنفس وما بالواقع، وبين ما يمكن السماع به وبين ما هو مستحيل السماع به، وهل يمكننا أن نُقَرَّب الموضوع، ونجعل (المستحيل السماع به) من نوع (غير المسموع به)؟ بحيث إذا سمعناه لا يزلزل كياننا ولا يهدم بنيان ثقافتنا. هذا ما نحاول افتتاح باب البحث فيه وإن كنا نترك مسألة توضيحه وبيانه إلى أن يتحول إلى سلوك عملي في واقع المسلمين نترك هذا التوضيح والتحويل إلى الذين يأتون من بعدنا.

ما هو الفرق بين الجهاد والخوارج؟

هذا السؤال ليس منكراً ولا بدعة، وإن لم يبحثه المسلمون بمواجهة واضحة لا من قبل أهل السنة ولا من قبل الشيعة. وإن كنا نحاول طرح السؤال ثم محاولة الإجابة عليه، ولو بشكل مقتضب، إلا أن البحث في جذور هذه المشكلة يتصل بموضوع آخر، وهو بحث: كيف بدأ خلق هذا الموضوع على مقتضى قوله تعالى: (سِرُوا فِي الأَرضِ فَنظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ) ] العنكبوت 29/20 [، وكيف يزيد في الخلق ما يشاء، فالمعاني أيضاً من المخلوقات التي يزيد الله فيها متا يشاء بواسطة إبراز آيات الله في الآفاق والأنفس حتى يتبين لهم أنه الحق، والذين ينظرون في آيات الله في الآفاق والأنفس، يتبين لهم من معاني آيات الله، في الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ما لم يتبين للذين من قبلهم، وهذه الحالة ربما هي التي جعلت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب حين سئل: « هل ترك لكم رسول الله ص يا آل البيت شيئاً خصَّكم به من دون الناس » فقال: « اللهم لا، إلاَّ أن يكون فهماً يؤتيه الله عبداً من عباده في كتابه … الخ »،أو كما قال رضي الله عنه. وإذا فهم عبد من عباده معنى في كتابه وفق قواعد اللغة، يكون ذلك أسلوباً في إبانة الله سبحانه وتعالى لعباده، مما أودعه في كتابه مما سيظهر ويُعْلَم نبؤه بعد حين. ودلالة اللغة على المعنى قابلة للزيادة فقد زاد الله أيضاً في إدراك معنى اللغة وأبعاد دلالتها ما يشير إليه قوله تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِنَّهُ لَحَقٌ مِثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ) ] الذاريات 51/23 [.

قد تبين ما في اللغة من معنى عميق يزيد في الخلق ما يشاء في رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس. إن هذه البحوث صارت ضرورية لفهم كيف يتم (وَنَسُوا حَظاً مِّما ذُكِّرُوا بِهِ) ] المائدة 5/13 [.

وفهم سنَّة ارتباط اللغة بالمعنى وكيفية خلق المعاني وموتها مع باء الألفاظ، وكيف يحدث التحريف:

(يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) ] المائدة 5/41 [. هذه الدراسات صارت ضرورية لإعادة النظر في المشكلة الإنسانية وفي المشكلة الإسلامية التي هي جزء منها. إن رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس صارت ضرورية لتصحيح المعاني والدلالات على مقتضى قوله تعالى:

(وَلَتَعلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ) ] ص 38/88 [، و (وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعلَمُونَ) ] النحل 16/8 [، و (أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ] البقرة 2/30 [، و (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً) ] الإسراء 17/85 [، و (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) ] طه 20/114 [. ودعاء الرسول : « اهدني لما اختلفوا فيه من الحق ». فالتشبيه الموجود في قوله تعالى:

(فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِنَّهُ لَحَقٌ مِثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ) ] الذاريات 51/23 [، يحمل معنىً عميقاً، بدأت الدراسات اللغوية واللسانيات والسيميائيات وفلسفة الدلالة والرمز، تكشف ما يحمله هذا التشبيه (مِثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ) من معنى عميق، يزيد في الخلق ما شاء، فكلمتا الأرض والسماء مع بقائهما على حالهما في اللفظ فإن معناهما، وما كان يخطر في بال الإنسان حين ذكرهما، قد تغير، ولا يزال يتغير إلى يومنا هذا، فما يخطر في بالنا اليوم ليس ما كان يخطر في بال الناس الذين كانوا يعيشون أيام نزول القرآن، هذا حين ينظر إلى الكلمة المفردة، وأما ما يتغير من معنى الكلمة المفردة حين تضم إلى كلمة أخرى، أو ما تصير تحمل من معنى في سياق الكلام فحدِّث ولا حرج، فمعنى كلمة الأرض حين توضع مقابل السماء أو معها يختلف معناها فتشمل البحار مثلاً، ولكن في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصبِحُ الأَرضُ مُخضَرَّةً) ] الحج 22/63 [، ليس كذلك. بعد هذه المقدمة الطويلة والمختصرة والضرورية والملحة معاً ينبغي أن نعرض السؤال الآتي:

ما الفرق بين الجهاد والخروج؟

نقول: الخروج هو استخدام القوة والعنف للوصول إلى الحكم.

والجهاد هو استخدام القوة بعد الوصول إلى الحكم برضا الناس، لمنع الإكراه في الدين إن لم يكن منعه من ذلك بغير القتال. وقصدي كله تقريب هذا الموضوع إلى الواعية الإسلامية، وليس المهم هنا العبارات الدقيقة والدلالات المتشعبة. إن واقع السيرة النبوية يدل بعمومه دون البحث عن لفظ معين أو دلالة آية من القرآن أو حديث من السُّنَّة. إن واقع السيرة النبوية واقع ضخم كبير، يدل بوضوح بيِّن بليغ، على التزام الرسول ص الجهاد بمعنى الاقتصار على الدعوة إلى سبيل ربَّه، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، حتى وصل إلى الحكم برضا الناس وقناعتهم، واستقبله أهل المدينة بـ (طلع البدر علينا)، وهناك بدأ الجهاد، قتال الذين يفتنون الناس عن دينهم، قتال الذين يُكْرِهُون الناس على الدين، شُرع القتال حتى لا يكون إكراه في الدين (قَاتِلُهُم حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتنَةٌ) ] البقرة 2/193 [، شُرعَ القتال بعد أن وصل الرسول ص إلى الحكم بدون قوة إلا قوة الإقناع وقوة الفكر.

إن فكرة (لاإكراه في الدين) لا تزال مشكلة عالمية إنسانية إلى اليوم، لم تقبل بها روسياً ومن كان معها إلا في الأيام الأخيرة حيث اضطرت روسيا أن تقبل هذه الفكرة فكرة (لاإكراه في الدين)، اضطرت أن تقبل هذه الفكرة من دين فُطِرَ الناس عليها. قبلت فكرة (لاإكراه في الدين) مضطرة تحت ضغط نمو الفطرة البشرية، وكما سيقبل سائر البشر الذين لا يزالون يرفضون فكرة (لاإكراه في الدين) سيقبلونها طوعاً أو كرهاً تحت تنامي فكرة (لاإكراه في الدين) في المجتمعات البشرية، لا يقبلونها تحت ضغط القوة المسلحة، ولكن يقبلونها تحت ضغط تنامي فكرة (لاإكراه في الدين) في المجتمعات البشرية. فكرة (لاإكراه في الدين) صارت مطلباً بشرياً عالمياً تُصَدَّرُ بها جميع دساتير العالم، من يلتزم بها ومن لا يلتزم بها. أكرر مرة أخرى إن رسول الله ص لم يصل إلى الحكم بالقوة المسلحة وإنما بقوة الفكرة. انتزع السيادة والسلطة في أقسى بيئة، من غير استخدام القوة. ولكن بعد ذلك استخدمت القوة لحماية حرية الاختيار (وَقَاتِلُهُم حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتنَةٌ) ] لبقرة 2/193 [، والفتنة هي الإكراه في الدين. يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنِينَ وَ المُؤمِنَاتِ) ] البروج 85/10 [، في قصة أصحاب الأخدود. إن الفتنة هي تعذيب الإنسان حتى يترك دينه، أو قتله إذا لم يترك دينه.

شُرِعَ الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

الجهاد هو منع الذي يُكره الناس على دين معين، فإذا لم يمتنع عن هذا إلا بالقوة فنستخدم القوة لا لإدخال الناس في دين ما بالقوة، ولكن القتال والجهاد شُرعَ حتى لا يُكْرِه إنسانٌ إنساناً على الدخول في دينٍ ما بالقوة وبالقهر (أَنُلزِمُكُهُوهَا وَ أَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) ] هود 11/28 [، والمعاني لا تستقر إلا بالتوضيح المستمر ولا تحتفظ بمضائها إلا بإعلانها وعدم كتمانها وإلا بقول الحق وتبليغه دون خشية الناس: (الذَّينَ يُبَلِغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخشَونَهُ وَلاَ يَخشَوْنَ أَحَداً إَلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً) ] الأحزاب 33/39 [.

وعلى هذا نقول: لتحقيق الجهاد بالقتال شرطان، (شرط في المجاهِدِ) و(شرط في المجاهَدِ ضدَّه):

  • شرط المجاهِدِ، أن يكون قد وصل إلى الحكم برضا الناس واقتناعهم.
  • وشرط المجاهَدِ ضدَّه أن يُكِره الناس على دين معين أو يفتنهم عن دينهم، كما كانت قريش وسائر البشر في أنحاء العالم في ذلك الوقت.

وبهذا يكون الإسلام قد جاء بشيء جديد في الحياة البشرية؛ حرية الاعتقاد كما لاحظ ذلك توينبي وأن هذه الفكرة لم تأخذ بها بريطانيا إلا متأخرة، يقول هذا رداَ على المعترضين على مقولته: إن الحضارات التي تمارس العنف تموت وتنقرض، ونفى عن الحضارة الإسلامية أن تكون مبنية على العنف حيث سُمِح للناس بحرية الاعتقاد وقد طوَّل في شرح ذلك في دراسة التاريخ.

فإذا توفر الشرطان جاز الجهاد أو وجب، وإذا أُخِلَّ بشرط منهما يكون قد خرج عن الجهاد. وهذا الفهم ليس صعباً وإن كان جديداً بشكله المحدد أو أسلوب عرضه. وينبغي البحث فيه ولا مانع من الخلاف في الرأي مهما كان ملحاً في تطلب إظهار مزايا أحد الرأيين وضعف الرأي الآخر، فإن هذا الخلاف يمكن أن يكون رحمة بشرط أن لا يصل إلى القتال وإكراه الآخر على قبول رأي معين دون أن تحصل لديه قناعة، فإذا وصل الأمر إلى ها صار الخلاف فتنة وعذاباً وهرجاً وجاهلية يضرب الناس فيها رقاب بعضهم بعضاً، وبهذا الفهم للخلاف تستطيع أن تفهم الخلاف الممقوت والخلاف المنكر، فهو الخلاف الذي يؤدي إلى القتال من أجل الرأي فقط. وأن الخلاف الصحيح والمأمور بحمايته هو الخلاف الذي يتم البحث وإظهار النقص في الرأي الذي عند الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، دون أن يصل إلى السباب والتجريح والقتال، ويمكن أن يُفهم على هذا الأساس قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ] هود 11/119 [، لا يزالون مختلفين، وللخلاف خلقهم، ولكن هذا الخلاف رحمة؛ لأن الخلاف يظهر الحق، وبه يحصل البلاغ المبين، لأن المخالف هو الذي يرى تقائصك التي لا تبصرها أنت، وقد تكون قد زُيِّن لك سوء عملك، والمخالف هو الذي يستطيع أن يُبصِّرك بهذه النقائص، فمن هنا كان القول المأثور رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. وقول آخر ما جادلت أحداً إلا وأحببت أن يظهر الحق على يديه، لأن الهدف الوصول إلى الحق ولا يهم من أي وعاء خرج، وأنت أولى بقبول الحق الذي اهتدى إليه الآخر. ولكن يصير الخلاف نقمة حين يصير هدف كل منهما تصفية الآخر جسدياً. والذي يلجأ إلى قتل المخالف وتصفيته جسدياً يدلل بوضوح على فشله وعجزه فكرياً، وجدير أن ينهزم مهما صار له من صولة وجولة إلى حين.

فهذا قانون الله الغالب الذي سيحكم على الخطأ بالفناء (كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ) ] الرعد 13/17 [.

ولابن تيمية كلام موجز وحسن في هذا الموضوع حينما قال:

« إذا كان الكتاب فوق السيف فهو الإسلام وإذا صار السيف فوق الكتاب فهو المنكر ». أو نحو ما قال، فهذا القول دقيق وناتج عن تعمق في البحث. فإذا كان الحكم للسيف فهو شريعة الغاب، وشريعة الخوارج، شريعة الغاب في المصطلح الحديث الحضاري المدني، وشريعة الخوارج في المصطلح الإسلامي.

وإذا كان الحكم للكتاب فهذا هو الإسلام ويمكن أن يقال بالمصطلح المدني شريعة القانون وسيادة القانون.

وبهذا المعنى يمكن أن يقال إن الخوارج إنما سُمُّوا بهذا الاسم لخروجهم على القانون وخروجهم من الإسلام، كما جاء في الحديث « يمرقون من الإسلام » لا لخروجهم إلى الجهاد كما يريدون أن يَفْهموه ويُفهموه للناس. والرسول ص علَّمنا كيفية الخروج على القانون الظالم، والعرف الظالم؛ ليس بقتله واغتياله، وإنما بعصيانه وعدم طاعته، المتضمن قي قوله ص: « لا طاعة في معصية ».

والخروج على القانون الظالم وعدم طاعته مشكلة إنسانية كبيرة لا تزال قائمة في كل المجتمعات، والناس الذين يطالبون بحرية الرأي لا يفهمون الإسلام، ولا يفهمون ممارسة الرسول ص. إن الرسول ص لو طالب قريشاً بحرية الكلام والدعوة لما سمحوا له. ولكنه ص مارس واجب لدعوة، وليس حرية الدعوة، لأن الطريق الصحيح هو أداء الواجب لا المطالبة بالحق، لأن الواجب به تنزل الحقوق من السماء، إن لم تنبت من الأرض، كما يقول مالك بن نبي.

ولابن تيمية كلمة أخرى بليغة أيضاً حين قال « القتال في الإسلام ليس لأجل الكفر بل لأجل الظلم » لأن الكفر يبقى وله حق أن يبقى بعد الانتصار عليه. إذن فقتاله لم يكن لإزالة كفره وإنما لإزالة الظلم، والظلم أكبر ما يكون في مصادرة الرأي وممارسة الإكراه في الدين.

(وَمَا لَكُم لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِن هَذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أَهلُهَا وَ اجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَليًّا وَ اجعَل لَّنا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) ] النساء 4/75 [.

والظلم ظلمات وإزالة الظلم والتظالم من الأرض مهمة بشرية إنسانية، وهذه المشكلة التظالم، هي الاعتراض الأول على كفاءة الإنسان في استخلافه في الأرض، وهذا هو الاعتراض الذي قامت به الملائكة يوم استُخْلِفَ الإنسان في الأرض فقالوا:

(أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ) فقال الله لهم: (إِنِي أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ) ] البقرة 2/29 [. وإن كنا لا نزال نعيش في توقعات لملائكة، إلا أن علم الله في الإنسان سيتحقق وسيتعلم البشر كيف يتجاوزون التظالم شيئاً فشيئاً وطوراً بعد طور. وإذا كان البشر يتعلمون بالمعاناة ويهتدون بالتاريخ ويصححون أوضاعهم بالنظر إلى عاقبة الأمور، فإن أمر الله لنكون شهداء على الناس هو الذي سيؤهل الإنسان لتجاوز الفساد وسفك الدماء. والله تعالى حين حمى الاختلاف بقوله: (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ] البقرة 2/256 [، وأمر بالسير في الأرض ورؤية الأمم والشهادة على الناس. وإنما أراد، سبحانه، إرساء أسس التقدم البشري، ومصدر التربية الصحيحة، ولكن نحن المسلمين أبعد الناس عن تفهم هذين الأمرين وتأهيل أنفسنا لممارستها. أقول إن هذين الأمرين مصدر التقدم البشري لأنه بحماية الاختلاف والتواصل بين الناس يتحرر الحق: (كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ) ] الرعد 13/17 [.

هذا هو قانون الله الغالب:بالاختلاف يتعمق الصواب وتتهيأ الفرصة لاحتمال ظهور الحقيقة، وبالتواصل يتم اختيار الطريق الناجح ويعم الصواب في الناس، كان هذا يحدث في البشر تلقائياً، ولكن الوعي البشري أخذ يطالهما ويسعى لتنهيجهما. فبدأ البشر يعون أهمية الاختلاف ـ بشرطه الذي سبق أن شرحناه ـ وضرورة حمايته، كما بدأ الوعي يطال أهمية الاتصال البشري، وتبادل الخبرات والمعلومات والعلماء، على أسس منهجية واعية، ومما يتصل بهذا الموضوع بروز أهمية السياحة في العالم، وإنشاء وزارة في كل بلد للسياحة، وإن كنا نحن لا نرى في ذلك إلا الجانب الاقتصادي، إلا أنه يحمل في أعماقه هدفاً إنسانياً كبيراً، وخدمة عظمى لظهور الحقيقة وزوال الأباطيل من العالم.

وأخيراً لا بد لنا أن نتساءل مرة أخرى؛ ما الذي جعل المسلمين لا يفكرون في رؤية الفرق بين الجهاد الممدوح والمرفوع إلى الدرجات العلى، وبين جهاد الخوارج المذموم إلى درجة المروق من الإسلام؟ إن الأمر ليس من الغموض والالتباس حتى لا يمكن فهمه، كما ليس من الصعب أن نرى الفرق بين الانتحار والاستشهاد، وقد تلتبس علينا القرابين البشرية التي كانت تقدم في العهود القديمة، لأن الأقدمين كانوا يزينون لأنفسهم أعمالهم أيضاً، واليوم يمكن أن نعتبر الحروب التي لا جدوى منها قرابين بشرية أيضاً، وممارسة لطقوس فظيعة في سبيل الأهواء والشهوات.

وطالما اشتبه على الناس نظام مسيرة الشمس والقمر، وكان عندهم الاستعداد لأن يموتوا من أجله، ويموتوا الآخرين في سبيله، وكم من الأوهام لا تزال تسيطر على الناس، وعليهم أن يكشفوها ويتجاوزوها، فإذا أمكن للناس أن يخطئوا هذا الخطأ الفاحش، في أوضح شيء يضرب به المثل في الوضوح، فحري بالإنسان أن يتعلم من هذا التواضع، وأن يستعيد قدرته على التأمل، وإمكانية كشف الخطأ قبل فوات الأوان، لأن خير الخطَّائين الذين لديهم القدرة على التوبة، لا الذين يغلقون القوة الواعية فيهم عن أداء مهمتها في تأمل عواقب الأمور. والذي جعل المسلمين لا يفكرون في الفرق بين الجهاد والجريمة، هو أنهم أصيبوا بداء الأمم من قبلهم، وحين يصف الله الأمم السابقة بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يفقهون، ويقول عنهم صم بكم عمي فهم لا يفقهون، فليس على هذا الخطأ خاص بالسابقين، بل إن هذه حالة إنسانية تُصاب بها الأمم، وهذا ما قاله رسول الله ص: « لتتبعن سنة من قبلكم حذو القذة بالقذة شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه »، وهذا ليس على أساس الحتمية المطلقة، وإنما حتمية السُّنة، في أن يُفْعَلَ في الثاني ما فُعِلَ بالأول، حين تتوفر الشروط نفسها، ومفهوم الاعتبار في القرآن إنما هو لتفادي هذه الحتمية. والقرآن مليء بمثل هذه السُّنن الاجتماعية التي يصاب بها البشر: (وَقَالَتِ اليَهُودُ وَ النَّصَارَى نَحنُ أَبنَاؤُا اللهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ، قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبكم؟ بَل أَنتُم بَشَرٌ) ] المائدة 5/18 [، (وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ، وَقَاَلتِ النَّصَارَى لَيسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ) ] البقرة 2/113[، (وَقَالُوا لَن يَدخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَو نَصَارَى) ] البقرة 2/111 [.

هذه الحالة ليست خاصة باليهود والنصارى، بل هي سنة بشرية، والدراسات الإنسانية بدت تتبين هذه الناحية، ولكن المسلمين يعتبرون أنه محصنون ضدَّ هذه الأمراض، فهم لا يمكن أن يكونوا مثل أولئك الضالين، لأنهم على الحق وليسوا مثل أولئك الضالين، لكنهم لا يتساءلون: إذا كان الأمر كذلك فَلِمَ يعذبهم الله بذنوبهم؟ لماذا ضرب عليهم الذلةَ والمسكنة دون سائر البشر في هذا العالم اليوم؟ وما لم نتساءل عن أشياء كثيرة في ثقافتنا الإسلامية، فإننا لن نقدر على أن نفتح أبصارنا التي أمرنا لنرى ماذا يحدث في العالم. إن ثقافتنا قد أغلقت أبصارنا التي أمرنا الله أن نفتحها ونحدِّق بها، وأن نزيل عن آذاننا الوقر لكي ننصت بها، وعن قلوبنا الاغلاف لكي نفقه بها، فكثيراً ما يقول القرآن عن الناس أنهم يصابون بالفساد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولكن هذه المواضيع صارت من المستحيل التفكير فيها. ولم نعد نرى شأن إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض، ولم نعد نتساءل التساؤل الإبراهيمي؛ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟‍! هل ينفعونكم أو يضرون؟! ليس عندنا تساؤل، وإن حصل تساؤل فليس عندنا جوابٌ إلا جواب قوم إبراهيم: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. إنهم كانوا يرون آباءهم سلفاً صالحاً، ولم يخطر في بالهم القول الكريم: (أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لاَ يَعقِلُونَ شَيئًا وَلاَ يَهتَدُونَ) ] البقرة 2/170 [.

وهنا أودُّ القول بأن تجليات جديدة بدأت تظهر في آيات الآفاق والأنفس، في أسباب المشكلات الإنسانية التي تؤدي إلى الفساد في الأرض وسفك الدماء. كما حدث فيما سبق من الزمان حين ظهرت للناس آيات الله في أسباب الأمراض الجسدية، حين كشفوا الجراثيم واللقاحات والمضادات الحيوية. وباستخدام هذا التشبيه والمقارنة، نستطيع أن نقرب إلى الإفهام الإمكانات المعرفية التي تخص الفكرة والسلوك الإنساني، وما يترتب على جهلنا لها من آلام ومعاناة في العلاقات الاجتماعية، كما كنا نعاني في المجاعات والآلام الجسدية، حين لم نكن نعرف سنن إنتاج الغذاء وسنن أسباب الأمراض. والآن، حين نتعلم سنن أسباب النزاعات والعلاقات المأساوية، سيتعافى الناس من الآلام والدموع والدماء، كما تعافينا من آلام الأوبئة التي كانت تحصد الآلاف المؤلفة.

وينبغي أن نعلم أن الذين يصابون الآن بالمجاعات والأوبئة يُنْظَر إليهم على أنهم جهلة، في حاجة إلى تعليمهم، لا أن هذه الآلام ضربة لازب لا محيص عنها، كذلك الآن الحروب والنزاعات التي تؤدي إلى أن يذوق الناس الآلام والعذابات، ليست ضربة لازبة، وإنما منشؤها الجهل والقذارة الفكرية. إنه لجدير بالتأمل من أصحاب الفكر، ومن كانت له أذنان للسمع فليسمع.

وأريد أن أعقد مقارنة بسيطة بين مشكلات الجسد ومشكلات الفكر والسلوك. فإن الوضع الجسدي كما يمكن أن يراقب بإجراءات مختلفة كي يبقى في وضع صحي، سليماً معافىً، كذلك الوضع الثقافي ونظام الأفكار، يمكن أن يُراقب بمختلف الإجراءات، كي تبقى في وضع سليم معافى، كما ويمكن أن يترك لشأنه دون مراقبة، فيحدث للثقافة، التي هي نظام الأفكار والتصورات الذهنية، خلل يعرضها للأمراض، ويعرض المجتمع إلى أن ينقلب على عقبيه مكبّاً على وجهه.

فلابد هنا من التأكيد والتشديد وتعميق التأمل في أسلوب القرآن، في معالجة مشكلات الفهم والسمع والبصر، فحين يتكلم القرآن عن أمراض القلب والبصر، لا يعني أمراض القلب الجسدية التي تسبب مشكلة كبيرة في نسبة الوفيات، وكذلك لا يقصد القرآن حين يتحدث عن العيون التي لا تبصر أمراض العين الجسدية، وإنما يعني في المستويين: مستوى القلب ومستوى البصر، الأمراض التي تصيب الرؤية الاعتقادية والثقافية ونظام الأفكار وقانون الفهم. إن مجرد الانتباه إلى الأهمية البالغة التي يوليها القرآن لهذا الجانب من الإنسان، يجعلنا نوجه طاقاتنا في الانتباه والتذكر والاعتبار والتحديق، لكشف سنن وسير وعمل نظام الأفكار والثقافة والعقائد والتصورات، التي هي كائنات حية كالجسد الواحد، إذا اشتكى جزءٌ منه اختلالاً تداعى له سائر الجسد بالآلام واختلال الوظائف.

وأعظم الدراسات الإنسانية الجديدة الآن التي تشغل أذكى الفلاسفة المتعمقين إنما تعنى بهذه المشكلة، فكأن البشر بدؤوا يحسون بأن سلامة الجسد لا تعافي الأمة، إن لم تصحبها سلامة المنهاج الفكري الذي يتكون الإنسان ضمنه.

لا يكفي أن نهتم بتربية الفرد فلا بد من الاهتمام بصنع المناخ الفكري، والبيئة الثقافية التي يتكون خلالها الأفراد، الذين ينتمون إلى تلك البيئة؛ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه. أي يطبعانه ويصنعانه على نمط التصور المعين؛ فهذا المناخ الفكري يؤدي في ثقافةٍ ما دور جهاز المناعة لدى الكائن الحي.

الكائن الحي إذا أضيف إلى جسده عضو جديد غريب، فإنه يرفضه حتى ولو كانت حياة هذا الجسد تتوقف على قبوله، فكأنه يفضل الموت عن أن يقبل هذا العضو الغريب. فلهذا من ينقل إليه قلب جديد لا يعيش أكثر من نحو خمس سنوات إلى الآن، لعد التغلب على عامل الرفض بعد. والجهاز الثقافي الذي تنشأ الأمراض ضمنه يقوم بهذا الدور الرافض، فليس في الإمكان زرع أية فكرة في ثقافة ما إلا ضمن شروط دقيقة.

ويمكن أن نشبه أيضاً الأفكار في ثقافة ما بنظام الجسد. فمثلاً الكليتان تقومان بوظيفة عجيبة؛ فهما تصفيان الدم بحيث لا يسمح بالعبور من خلاله إلى الفرز الخارجي إلا للمواد الضارة بالجسم التي لو بقيت ولم يتمكن الجسم من فرزها وطرحها إلى الخارج لهلك الكائن الحي، وكذلك الأمر في عمل الرئتين، وعمل القلب، وكذلك جهاز المناعة، فحين يكف عن مقاومة الجراثيم الضارة التي تدخل إلى الجسم فإنه يؤدي به إلى الوفاة. وكذلك جهاز الثقافة يقوم بهذا الدور، فإذا اختلت هذه الوظيفة المزدوجة عجزت الأمة عن حلِّ مشكلاتها.

والاختلال الذي يصيب الثقافة يصيب عضواً معيناً ذا وظيفة خاصة، ويمكن أن نجد هذا العضو في الثقافة بوظيفة العلماء المجتهدين، الذين يتمتَّعون بأداء وظيفة الاجتهاد في التخلص من الضَّار وقبول النافع، فإذا لم يوجد علماء أو لم يعد العلماء يقدرون على الاجتهاد المزدوج الوظيفة في القبول والرفض، فإن الأمة التي تفتقد مثل هذا الجهاز تصاب بالتمزق والهوان نتيجة احتفاظها بالأفكار الضارة، وعدم قدرتها على تقبل الأفكار الضرورية لسلامة الحياة. والحديث يقول: « إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ». ومضغة الأمة، التي بها صلاح الأمة وفسادها هم علماؤها. ولكن من الذي يستطيع أن يكشف هذا الفساد. هناك مثل في الإنجيل يقول: إذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون؟

وإذا كان الجسد مريضاً لا يؤدي وظائفه الحيوية، وإذا كانت الأمة مريضة تعجز أن تقف على قدميها مثل سائر الأمم، فإن على ناشئتها أن تكوِّن نفسها جهاز مناعة جديد تعيد الوظائف الحيوية للأمة.

إن الهدف من هذا البحث كله هو إبراز كيف حدث هذا الاختلال في الفهم في العالم الإسلامي، واختلاط الدنس بالمقدس، وما نتج عنه من مآسٍ، وما يزال ينتج عنه، وما سوف يظل ينتج عن هذا الاختلاط بين جهاد الخوارج والجهاد الذي جاء به الإسلام، والذي لم يتساءل عنه أحد.. وهدفي توجيه الأبصار والبصائر للأجيال المتهيئة لتحمل الأمانة فهذا ما يجعلنا نلح ثم نلح في التفكير وإعادة النظر لعل الله أن يهدينا لأقرب من هذا رشداً.

ولكن ألفت الانتباه وأوجه الأنظار للتفكير في هذا الموضوع الذي يعرض عن بحثه المسلمون أشعر أنه من الضروري تسليط بعض الضوء مهما كان خافتاً على جوانب من هذا الموضوع فأقول: إن الشيء الذي يجعلنا نقع في خطيئة الخوارج، أو من الأشياء التي توقعنا في هذه الخطيئة، هو قولنا وتصورنا: أن الذين قتلوا علياً هم الخوارج، لأن علياً رضي الله عنه كان خليفة راشداً لا يجوز قتله، ولكن الذين نقتلهم نحن كفار خارجون عن الإسلام، لهذا فإن عملنا نحن الآن لا شبه عمل الخوارج. ولكن الذي ينساه هؤلاء ويستبعدونه ولا يفكرون فيه ويجعلون التفكير فيه مستحيلاً، هو أن الذين قتلوا علياً رضي الله عنه كانوا يرونه كافراً أيضاً، وأن التخلص منه هو لصالح المسلمين. إذن إن تصورك أن الذي تقتله هو كافر، وقتله في صالح المسلمين، لا يكفي لأن تبيح لنفسك أن تقتله، هذا ما لا يقدر المسلمون على تصوره، وهنا نقطة المتاهة، فإذا كان حُكمُنا عليه بالكفر هو الذي يبيح لنا قتله حسب تصورنا، فإننا ننسى ولا يخطر في بالنا أن الآخر يرانا أيضاً كفاراً ويبيح دمنا، ويرى في التخلص منا صلاحاً للمسلمين. وبذلك حين نصدر على الآخر حكم الإعدام ننسى أننا أصدرنا على أنفسنا حكم الإعدام أيضاً. قف وتأمل هذا جيداً، فإن كنت لم تسمع بهذا من قبل، فإن عدم سماعك به من قبل آبائنا الأولين، ليس معناه أن تحكم عليه سلفاً بالخطأ، وأنه ليس جديراً بالتفكير فيه ملياً، ولا يكفي القول لو كان هذا صحيحاً لفهمه آباؤنا الأولون. إن هذا الاستبعاد لهذا التصور هو الذي جعلني أقول سابقاً في خاتمة هذا الكتاب:

« إن هذه السُّنة التي نشأ المجتمع الإسلامي الأول عليها – أعني أسلوب الرسول ص في منع العنف قبل أن يصل إلى الحكم بغير عنف – إن هذه السُّنة هي التي تقطع تسلسل الخطأ، بحيث لا يسوِّغ إزالة الخطأ بالخطأ. إن الذين لا يهضمون هذه الأفكار ولا يراعونها ويتجاوزونها في نظراتهم المستعجلة سيفاجؤون بما لم يحتسبوه.. سيفاجؤون بأن الحكم الذي كانوا يظنون أنه شفاء من كل داء، إنما هو مرآة تعكس سيئات المجتمع على أتم بشاعته وعنفوانه.. وسيتبين لهم أن هذا الأسلوب الذي استخدموه مع مخالفيهم في الرأي، سيرجع إليهم، وسيوجد في الأمة من لا يرضى عن سلوكهم، ولو كانوا في عدل علي، ورحمة عثمان، رضي الله عنهما. إذن للخروج من هذه المتاهة لا بد لنا أن نرجع لنفهم السبب الحقيقي في نهي القرآن عن العنف حين قال: (كُفُّوا أَيدِيَكُم وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) ] النساء 4/77 [.

انظر إلى التفاسير تر أن المفسرين لا يستحضرون هذا المعنى الذي نبحثه، ولا يستحضرون الشرط الذي جعلناه أحد الشرطين لحصول الجهاد؛ وهو شرط من يجاهِد ويحقِّق الجهاد، أن يكون قد وصل إلى الحكم برضا المجتمع. إن الذين يفتنون لأنفسهم بالقتل بناء على فتوى أخرى بالكفر مخطئون فهذا التسلسل الخاطئ لا يكفي لأن تسوِّغ لنفسك الحكم بالكفر ثم تنتقل منه إلى الحكم بالقتل.

وأنا لا أقول عجباً إذا قلت إن هذا الموضوع سينال من الاهتمام في المستقبل، أكثر بكثير مما أوليته في هذا الكتاب، ولاسيما حين يصير الحكم للمسلمين، كما نرى تباشيره في الحركة التي يسمونها الصحوة الإسلامية، والتغيرات العالمية، فلا بد للذين يستقبلون الأيام القادمة من أن يتأملوا هذه النقطة بالذات، حتى لا يرجع المسلمون يكفِّر بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وأن يصبر الذين يرون الأخطاء ولو إلى درجة الكفر، وأن لا يصدروا حكم الموت على معارضيهم، وإنما عليهم أن ينكروا الخطأ ويقنعوا الناس بما يرونه صواباً، وحين يفعلون هذا يكونون قد خرجوا من الدائرة المغلقة التي عاش فيها المسلمون حين لم يتحاكموا إلى البلاغ المبين، وتحاكموا إلى السيف في الظلام الدامس.

إن عدم فهم هذه الأمور بعمقها هو الذي يجعل العالم الإسلامي، آخر من يضطر أن يقبل بفكرة الوصول إلى الحكم برضى أهل الحلِّ والعقد بمصطلح المسلمين، وبالديمقراطية في المصطلح الحديث. وينبغي أن نعلم أن الديمقراطية لن تحل المشكلة الإنسانية، مادامت المجتمعات الإنسانية جاهلة، وما دامت المجتمعات تظن أنه يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، مع وجود حق الفيتو لأحدٍ في العالم.

إذن علينا أن نعلم أن العلم هو الذي يرفع الدرجات، وأن الجهل هو مصدر كل الشرور. والقرآن حين يأمر بالسير في الأرض والنظر إلى ما حدث للأمم الخالية وما يحدث للأمم المعاصرة إنما يأمر بأهم مصدر للمعرفة وأساليب التربية في الحياة البشرية. والذين لا يفعلون هذا سيظلون يُلْدَغون من الأحجار، والذين لا يسيرون في الأرض، ولا ينظرون ماذا حدث للعالم، سوف لن تبكي عليهم السماء والأرض، وإن أمر الله لم يتوقف، وسيظل هناك بشر آخرون، يكونون شهداء على الناس، ولا يدعون شيئاً يفوتهم مما يحدث في العالم، فكما شبابنا الأذكياء يتنافسون في تعلم مشكلات الجسد، فيساهمون في تخفيف الآلام، فإنهم إذا توجهوا لتعلم السُّنن النفسية والقوانين الاجتماعية والكشوفات في العلوم الإنسانية، وفهموا المغزى العميق لقوله تعالى: (بَل أَنتُم بَشَرٌ مّمَّن خَلَقَ) ] المائدة 5/18 [؛ فهناك سنتعافى في علاقاتنا البشرية ومهماتنا الإنسانية. ونضع مهمة هذا التوجه أمام شبابنا المتحرق ابتغاء مرضاة الله، ونرجو أن لا يطول الانتظار.

ولا يسعني أن أختم هذه المقدمة، دون أن أشير إلى أن علم الله في خليفته في الأرض، بدأ يبرز أمام وعي الإنسان، وبدأت الحروب تفقد آلهتها، ولم يعد لعبادها ذلك الحماس، وبدأ يظهر للبشر أن الحرب لم تعد الوسيلة التي لا بد منها للحياة البشرية، بل إنها لا تليق بالحياة البشرية، ولم تظهر هذه الرؤية بوضوح إلا في هذا القرن، حين وقفت آلة الحرب المدمرة لتقول بوضوح للإنسان: إن لم تكف عن ممارسة هذا الطقس الفظيع فسأدمرك. وهذا صار واضحاً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..

وفي عام 1988 لو كان هناك متبصرون بعمق،لأعلنوها عيداً للبشرية، كما المسلمون يحتفلون بعيد الأضحى إحياءً لذكرى استبدال القربان البشري على يد أبي الأنبياء عليه السلام، فإن عام 1988 عام بدء تدمير الأسلحة النووية، وهذا فيه تباشير انتهاء الحروب من العالم، وما يحدث من حروب هنا وهناك ما هي إلا الحشرجة التي يمارسها من يلفظ أنفاسه الأخيرة.

لاشك أن مذهب ابن آدم الأول صار نهاره قريباً، وبدأ فجره

يبزغ، وخيره سيعم في العالم وسيصل الناس إلى المدى الذي يقول فيه الإنسان للآخر: لئن بدأت الحرب، ولئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربَّ العالمين.

وكما أبطل على يد إبراهيم القربان البشري، فإن القرآن كان قد قلص جناحي الحرب، حين جعلها لحماية حرية الرأي فقط، وحين أعلن أنه (لاإكراه في الدين)، وبشر بعد السَّلام.

إن العالم حامل ببذرة السلام، وهو قريب المولد، وأنا أؤكد هذا مع كل الضجيج الذي يملأ الآذان بطبول الحرب، والذي لم يعد له بريق بل قد أصابه القتام.

والله يدعو إلى دار السلام ويهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السَّّلام.

(وَلتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ)

22/11/1990

جودت سعيدمحمد