قضايا إسلامية معاصرة: السؤال الحادي عشر

من Jawdat Said

مراجعة ١٣:٥٥، ١٣ يناير ٢٠٠٩ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث
أسئلــة مـجلــة
قـضايا إسلامية
معــاصــرة


يلح الدكتور محمد أركون على ضرورة ثيولوجيا جديدة للإسلام والدين عامة مثيراً أن هذا الموضوع لم يزل بكراً. كذلك يسخر أركون من الذين يستشهدون بالقرآن حول حكم ما قائلاً: إن هذا العمل يثير كل المشاكل للعبور من العصر الأسطوري إلى العصر العلمي. كيف تقومون هذه الدعوة؟

الجواب: يا سيدي عبد الجبار، إني لأعجب ما الذي جعلك تختار محمد أركون حتى تجعله موضع أحد أسئلتك. إنني لم أبرز في كتاباتي محمد أركون ولم أضعه في سلم أولوياتي وإن كنت قرأته باهتمام وأردت أن أعرف ماذا يتصور هذا الرجل. أول ما تعرفت عليه في مجلة ديوجين التي تصدرها اليونسكو في مقال بعنوان: "الإسلام في مواجهة التطور". وجدت عند أركون شيئاً يدعو إلى التأمل. لم يكن مثل مالك بن نبي، بل كان يسخر من مالك بن نبي ويعتبره أنه لم يعلم الحداثة في أفكاره وتصوراته. ولكن لا حرج، فالمتعاصرون لا قدرة لهم على فهم بعضهم بعضاً. سخريته لا تقلل من قيمة مالك عندي. وأركون ليس فارغاً. إنه يحمل هم المسلمين وربما ساعد إلحاح أركون على ضرورة ثيولوجيا جديدة للمسلمين على أن أتقدم في فهم مشكلة التوحيد، ليس على أساس إلهيات وإنما على أساس أن التوحيد مشكلة اجتماعية وسياسية واقتصادية. وفي الواقع، الرجل لم يقل كلمة واحدة في هذا الموضوع، إلا هذا العنوان الكبير الذي ظل يلازمه ويلح عليه. ولكن شعرت بصدق توجهه. إن علم الكلام وما سماه المسلمون "التوحيد"، والأسلوب الذي بحثوه به لم يكن منسجماً وملائماً لمكانة التوحيد الكبيرة. فالقرآن يعرض كلاً من التوحيد والشرك بتفصيل كبير ويضعهما في مكان مركزي عند عرض النبوات. ونحن صرفنا بشكل عجيب عن هذا الموضوع.

القرآن يهتم بالإيمان والكفر والنفاق، ونحن لم نفهم أثر هذه المفاهيم في حياة المجتمع. وإلى الآن لم نلامس بجدية هذا الموضوع. ولهذا أقول إن ما جاء به الأنبياء لم ينزل بعد إلى الأرض واقعاً، وسينزل في المستقبل وسيبدأ الناس بكشفه. فالناس كشفوا قوانين المادة ولكن إلى الآن لم يكشفوا قانون الإنسان ولا كيف نثير الطاقات الكامنة في هذا المخلوق العجيب القادر على الانتحار إن لم يتمكن من تحقيق ذاته. والإنسان قادر على أن يكون جارحة القدرة الإلهية كما يقول محمد إقبال. والعجيب أن أركون لم يذكر إقبالاً أبداً ولم يشر إليه فيما قرأت له، ولكن لم أقرأ كل ما كتب. قرأت بعض ما كتب قراءات عديدة بكل الجدية والتتبع لأتفهم مصطلحاته وأدواته المعرفية. يشرف أركون أن يضع يده على فكرة الثيولوجيا الجديدة كضرورة.

وأنا أفسر هدفه هذا بأنه تصحيح تصورنا عن الله. إننا لم نعرف الله من خلال خلقه وتاريخ الخلق. والقرآن يذكر هذا حين يقول: "ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين"، ويقول "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية". إن التعرف السنني على الله هو ما ينتظره المسلمون. فالعالم الإسلامي ارتد إلى الأفكار الجاهلية بعد أن فقد الرشد وضاع عنه ما جاء به الأنبياء. فالأنبياء جاءوا بالانقلاب الاجتماعي حسب ما أفهم ولقد شدني هذا المفهوم شداً غير عادي وهو ما جعلني أقدر قيمة ما جاءوا به. أرشد الله العلي القدير، الذي تدخل في إرشاد خلقه، بما أرسل من رسل. فكما لم نتفهم الله كذلك لم نتفهم رسالة الأنبياء وسنكتشفها من جديد وعند ذلك نكون كشفنا أن ما جاء به الأنبياء في وقت مبكر، والذي هو جدير بأن ينسب إلى خالق الوجود، لم نمارسه بعد. والذي يدل على ذلك صعوبة ترك المجتمعات للشرك وانغماسهم فيه وصعوبة فهم التوحيد وغيابهم عنه. فالقرآن يقول عن الجاهلين بأنهم قالوا: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب". ومثله تماماً أن يكون الناس متساوين. "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين"، ويقول: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون". إننا لم ندرك ما جاء به الأنبياء من الانقلاب الاجتماعي والكشف عن السحر العظيم، عن السحر الذي أحيطت بالطاغوت وعاش فيه العالم دهوراً كما عاش الناس وهم يظنون أن الشمس تدور حولهم بينما الأمر بالعكس تماماً. وينبغي أن نكشف المشكلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بهذا المستوى.

1 _ تعالوا إلى كلمة سواء، في المشكلة الاجتماعية

2 _ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، في المشكلة السياسية.

3 _ أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.

إن الكتّاب الاجتماعيين يقولون أن ماركس كشف التلاعب بالاقتصاد ولكن لم يكن ذلك كافياً لأنه كان في حاجة إلى تشريح، لا بل إلى نفخ الروح فيه كي ينبض ويتحرك. يهتم أركون كثيراً بالتصور الأسطوري للعالم. وأنا أحب أن أطلق على هذا "التصور الخارقي" بدل "الأسطوري". لا نتصور أن الله يعمل على أساس السنن بينما الله يقول: "سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا". هذا يعني ثبات السنة وتسخير الكون للإنسان وقدرة الإنسان على كشف السنن وتسخيرها. ومهما ظننا أننا تخلصنا من سيطرة الخوارق نكتشف أننا نستريح إلى فهم كون الله وخلقه على أساس الخوارق وليس على أساس السنن. وهذا هو الذي يجلب علينا المصائب.

يلح أركون على أن نقوم بفصل الدين عن الدولة، وهذا ما يحبط ويناقض دعوته إلى ثيولوجيا جديدة. فالثيولوجيا الجديدة هي التي ستجعل الدين علماً. وهو يلح بنفس الدرجة على الثيولوجيا وعلى فصل الدين، وهذا هو مكان الخلط الذي لم يتمكن أركون من الخروج منه. ومع ذلك لا نقول إنه لا يملك حنيناً إلى التفاهم بين العلم والدين. وفي كتابه الأخير، "نافذة على الإسلام" نجد تطوراً أكبر نحو ضرورة التآلف بين العلم والدين على أساس معرفة جديدة. وينقل في ذلك الكتاب فقرة عن هابرماز، الفيلسوف الألماني، على ضرورة إحياء الميثاق مع الله والذي بشر به الأنبياء: "إن احتجاج المرء على الخيانة ليس فقط احتجاجاً باسمه الخاص، بل هو احتجاج باسم الآخرين. إن كل إنسان حليف بالقوة في النضال ضد الخيانة بمن فيهم من يخون نفسه ويخونني.

إن مفهوم الأمانة لا يمكن التفكير فيه دون ميثاق شامل بالقوة ضد الخيانة".

إن أركون يلح علينا أن نقوم بالفصل الذي قام به العالم الغربي بين الدين والدولة. ولكن الأنبياء جاءوا ليأتلف الدين والدولة. وعند أركون بعض الخلط في هذا، لأنه يدعونا إلى مثل الفصل الذي على أساسه بنى العالم الغربي حياته، في حين هو نفسه لا يرتاح إلى ذلك. فهو يدعو إلى معرفة جديدة متطورة تؤلف بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة. ولكن بطريقة أخرى فإن عوام المسلمين أيضاً فصلوا الدين عن الدولة حين تشربوا بعد الدين عن السياسة، فقد فهموا السياسة على أنها بنيت على الخيانة والغدر والانتهازية والتشاحن، بينما الدين على الصدق والأمانة والإحسان والإيثار. فكيف يمكن أن يجتمع الاثنان في أذهانهم ؟

إن الأنبياء جعلوا السياسة أمانةً وصدقاً وإحساناً. إنهم بسطوا سلطانهم الصادق على السياسة الغادرة. وما يعانيه العالم الآن، من الأمم المتحدة إلى أصغر الدول الإسلامية، هو كيف تجعل السياسة صدقاً وأمانة. وربما هذا هو الذي يسوغ لنا حديث الرسول عن الإمارة حين قال لأصحابه: إنكم ستحرصون عليها وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، نعمت المرضعة وبئست الفاطمة. وقال أيضاً، إنا لا نولي من طلب الولاية ومن طلب الولاية وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أعين.

والحاصل إن البشرية تتقدم ببطء شديد إلى الأمانة وإلى السواء وإلى التزام المبدأ من طرف واحد. وستزيد مناعتنا الفكرية ولن يتمكن الآخر من إخراجك من ملتك من ملة الأمانة، إلى ملة الخيانة. هنا كان الفصل بين العالمين: عالم الأنبياء المبني على الأمانة، وعالم الأقوام المبني على الخيانة. والحداثة الآن تراجع نفسها بعناوين جديدة. مثل "ما بعد الحداثة"، وكلمات هابرماز واقتباس أركون وتصيده لهذه الكلمات يدل على أن عالماً جديداً يلوح في الأفق معيداً معه ما كان عيسى عليه السلام حزن عليه حين قال: "ضيعتم أقدس شيء في الناموس"، الرحمة، الأمانة، الإحسان. إن الجهاز الاجتماعي لا يمكن أن يعمل بانسجام مع الخيانة والامتيازات. إن الجهاز الذي يأكله صدأ الخيانة والامتيازات لن يدوم طويلاً، فسيتصدع كما تصدع في حربي الخليج. وإن لم نرجع إلى كلمة السواء فسيكون التصدع أشد وأقسى. إن العالم الذي تصدع لا يمكن التئامه بمزيد من الخيانة للميثاق الذي كتبه الله في قلوب عباده الذين اجتالتهم الشياطين. إننا في عصر عجيب جديد. علينا أن نصرح ونعلن البشارة والإنذار كما فعل الأنبياء. والآن لم يعد يوجد أنبياء وإنما الآمرون بالقسط من الناس والربانيون. فعلى هؤلاء أن يحملوا الأمانة الثقيلة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال. وحملها الإنسان، الذي سيحقق علم الله فيه ويتخلص من الفساد وسفك الدماء، وسيكشف أن بغيه على نفسه. "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم".

حين نرى ما وصل إليه الإنسان الذي كان عارياً يعيش في الكهف سنعرف أن علم الله سيتحقق فيه أيضاً. فالله رد على توقعات الملائكة من فساد الإنسان وسفكه الدماء: "إني أعلم ما لا تعلمون." والإنسان ما يزال يعيش على توقعات الملائكة ولم يحقق علم الله فيه بعد.

ليس محمد أركون كما ينظر إليه المسلمون، أنه خارج عن الإسلام وأسير للغرب. فأركون يكافح على جبهتين: مع قومه ومع المستشرقين أيضاً. ويريد أن يقول: إن الإسلام وما جاء به محمد وكل الأنبياء شيء واحد وأن كل الذين يركزون على الفروق -أن المسيح ترك ما لقيصر لقيصر وأن المسلمين ليسوا كذلك- يخلقون نزاعات عشائرية ويركزون على المحلي والخصوصي بدل الإنساني والعلمي والعالمي. ينبغي أن لا نحّقر الشيء الجديد الذي أضافه أركون. إن الإضافات الجديدة والتبشير بعالم آخر أمر مهم. ونحن ينبغي أن نتعامل مع الناس بأن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن تقصيراتهم، ومن منا من غير قصور. علينا أن نقدر ما كافحوا من أجله ولقوا الأمرين من جهات متعددة. "كان عبد القادر الجيلاني يقول: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده وأنا آخذ بيد كل من عثر". إن هذا النموذج هو الذي يجمع الناس نحو الهدف الأسمى وعلينا أن نقدر هذا. وأما قوله من أن من يستشهد بالقرآن يثير كل المشكلات للعبور من العصر الأسطوري إلى العصر العلمي لا يخلو من جانب كبير من الصواب ابتداءً من علي عليه السلام الذي قال: إن القرآن حمال أوجه وكل كلام حمال أوجه ولولا العودة إلى الواقع لما كان للكلام معنىً. والقرآن يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً. والكتاب ككتاب ليس كافياً للهداية. وأنا أشرت سابقاً إلى هذا حين ذكرت من أن النص يخدم ويخون ولا يمكن نقل الخبرة بدون نص ولا فائدة من النص بدون معنى، ولا يمكن تحرير المعنى بدون رجوع إلى الواقع وهناك يتحصحص الحق. فمن هنا كان مرجع القرآن هو النظر في آيات الآفاق والأنفس لأنها هي التي ستصحح فهمنا للقرآن. وبدون ذلك سيكون القرآن بيد كل الأطراف يتلاعب به من يشاء كالذين رفعوا المصاحف على الرماح. والطرف الذي رفع المصاحف لم يكن الطرف الصادق ولا أقرب الناس إلى الحق. وإلى يومنا هذا نقوم بمزايدات للتمسك بالقرآن والنصوص.

كتب السيد حسين فضل الله مقالة عن الوحدة الإسلامية، في المجلة الثقافية الإسلامية التي تصدرها المستشارية الإيرانية في دمشق، لم يذكر فيها آية واحدة من كتاب، ولا حديثاً واحداً ولا أثراً من آثار السلف ولا اسم شخص من آباء التراث، ولكن ذكر في ذلك المقال كلمة "الواقع" ومشتقاتها أكثر من سبعين مرة. وأنا كتبت مقالة حول هذا ونشرت في نفس المجلة.

القرآن لا ينطق بنفسه وإنما ينطق به الرجال. ومن هنا أيضاً قول الرسول أن الناس يمكن أن لا يستفيدوا من كتاب الله، فقال عن اليهود والنصارى أن بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء. ونحن كذلك الآن. إن الوقائع والأحداث وأيام الله هي التي ستصحح فهمنا للكتاب. فالأمل أن تكون الاستفادة في المستقبل من كتاب رب العالمين بشهادة آيات الآفاق والأنفس وعند ذلك سيكف الناس عن تفسيراتهم واحتجاجاتهم وسيسلمون تسليماً.

يقول أركون في آخر كتاب تاريخية الفكر العربي الإسلامي تحت عنوان، "خاتمة في قوة الظاهرة القرآنية": بقي علينا أن نستعرض شيئاً أكثر عمقاً قد يمكننا من تفسير نتائجها وسبب تأثيرها عبر القرون. ثم يقول: "نعم هناك قوة ما تعبر التاريخ والقرون. إنها هنا موجودة دون أن تستطيع رصد مكانها الدقيق في مكان محدد من القرآن أو من كلام المسيح. كيف أمكن لهذه القوة أن تنتج الظاهرة المدهشة: القرآن، والتي انفجرت هنا وليس في مكان آخر. هذا هو السؤال الكبير الجبار الذي ينتظر الجواب. وينبغي أن نجيب عنه بشكل مختلف عما كان قد فعله المستشرقون. إننا فيما يخصنا ندعو إلى افتتاح بحث آخر أكثر اتساعاً يتناول بالفحص العميق كل التاريخ الديني لمنطقة الشرق الأوسط. بهذا العمل نكون قد قمنا بمساهمة فعالة في تقدم وتجديد العلوم الإنسانية، وذلك من خلال النموذج الإسلامي. هذا هو مجال الإسلاميات التطبيقية التي نناضل بكل حماس من أجل تشييد صرحها".

إنني قومت ولم أقوم هذه الدعوة الأركونية.