بناء الرشد بالرشد
من Jawdat Said
لقد صار الاهتداء إلى سبيل الرشد مستحيلاً، ودليل ذلك تجارب ما بعد الراشدين إلى يومنا هذا.
أليس في التاريخ عبرة؟ أليس عجيباً ألاّ يخرج منا رجل رشيد، وأن لا يخرج حتى من يبحث عن سبيل الرشد أو من يتساءل: كيف نعيد الرشد؟ لقد صار الرشد عندنا جنوناً، لأن الرشد لا يصنع الإكراه، بل يصنع بتحدي الإكراه باللاإكراه، بتحدي بلال وابن آدم، بتحدي (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) البروج: 85/8.
نحن لا نريد أن نموت بطريق الرشد، نحن لا نريد أن نقابل الغي بالرشد؛ ولكن نريد أن نقابل الغي بالغي أو الرشد بالغي، وهكذا ضيعنا الرشد، واستمر حالنا على الإيمان بالغي والإصرار على مقابلة الغي بالغي، واعتبرنا أن مقابلة الغي بالرشد هو طريق الجنون، والمفارقة الغريبة هي أننا توهمنا أن بالإمكان صناعة الرشد بالغي. لا بل المفارقة الأخفى والأكثر طفولية وضلالاً، هو أننا ظننا أن غينا هو الرشد، وأن غي الآخر فقط هو الغي.
يا من له قدرة على التأمل والتدبر!! تأمل هذه النقطة وتدبرها، وانظر كيف يتسلل الغي إليك في صورة الرشد، انظر كيف يزيَّن لك سوء عملك فتراه حسناً، احذر يا من لا قدرة له على التمييز بين الحسنة والسيئة، وبين الرشد والغي.
هل يمكن أن يخطر في بالك إلى أي درجة التبس الرشد بالغي، بينما يقول تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ)؟
إنه يؤكد أن الرشد قد تبين، فهل تبين لنا الرُّشد من الغي؟ هل لدينا القدرة على سلوك سبيل الرشد؟ هل أصبنا بعجز مفرط وفظيع، وببعد شديد عن سلوك سبيل الرشد؟
إن لدينا شهوة كبيرة، سواء أمكن تحقيقها أم لم يمكن، لسلوك طريق الغي واتخاذه سبيلاً، ارجع إلى قلبك، وأعد النظر فيه، ولا تغرنك كثرة سالكي سبيل الغي، ولا تستخفنك قلة السالكين إليه أو الهاجرين له بتاتاً.
أليس جديراً بنا أن نتوقف طويلاً لنتأمل سبيل الرشد وسبيل الغي؟ أليس واجباً علينا أن نعيد القول فيه ونكرر؟
أحياناً أقوم بتجربة، وهي أنني أعرض طريقاً وسبيلاً نستطيع بها أن نحل مشكلاتنا من غير أن يخسر أحد شيئاً، ويربح الجميع، وأؤكد على أنه سبيل لا يخسر فيه ملك أو زعيم أو صاحب مال أو صاحب أرض، ولا يكون فيه نزاع مسلح على حدود، وأقول: لا توجد مشكلة تستعصي على الحلّ السلمي، ولكنني ما عرضت هذا الأسلوب مرّة إلا ورفض، رُفض الأسلوب السلمي الذي لا يخسر معه أحد من الطرفين شيئاً، لا مالاً، ولا شرفاً، ولا أرضاً، ولا غير ذلك من الأمور المادية والمعنوية التي يمكن عدّها وإحصاؤها، رفض الأسلوب الذي يربح معه الجميع، ويكسبون الإعجاب من المحبين، والتقدير من غير المحبين.
هل الدعوة إلى هذا الأسلوب دعوة إلى الغي أو إلى الرشد؟ أليس رفض مثل هذه الدعوة، وعدم القدرة على تصورها، رفض للرشد وقبول بالغي؟