العلاقة بين سلوك الإنسان وما بنفسه

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

من كتاب ((حتى يغيروا ما بأنفسهم))

هنا نستطيع أن نقول إن سلوك الإنسان وأفعاله من عمل الله ، ومن خلق الله ، وهذا القول ليس دعماً لما يسبق إلى الفهم من قوله تعالى : « خلقكم وما تعلمون » الصافات – 96 - .

وما يُذكر حوله من نقاش في علم الكلام ، فيما إذا كان الله يخلق أفعال العباد . ولكن الموضوع الذي نبحثه هو أن سلوك الإنسان أثر ونتيجة . وقد قررنا سابقاً أن نتائج الأسباب إنما يخلقها الله تعالى مباشراً لا دخل فيه لأحد : « يخلق ما يشاء ويختار ، ما كان لهم الخيرة » القصص – 68 - .

إلا أن علينا هنا نأخذ بعين الاعتبار ما أثبته الله للبشر من قدرة على تغيير ما بالأنفس ، وهذا الذي بالأنفس والذي تنتُجُ عنه الأفعال ، هو ما يخضع لسلطان البشر .

لا علاقة بين السبب والنتيجة عقلاً

ومن الملاحظ أنه لا توجد ثمة علاقة بين السبب والنتيجة عقلاً، وإنما المشاهدة هي التي تقر هذه العلاقة. فمثلاً رأينا أن (كذا) ترتب على (كذا) فآمنا به، أما لم ترتب هذا على هذا أو على ذاك بالذات دون غيره؟ فذلك لا طاقة لنا به. ولكن الذي لنا فيه طاقة هو – وذلك بعد أن نعلم أن عمل كذا، أو حادثة كذا ترتب على كذا سبب من الأسباب – أن نتعامل مع هذه العلاقة بحيث نوجهها الوجهة التي تنفعنا، ولا ندعها تأخذ الوجهة التي نتضرر منها.

ومن الناسب هنا أن نعود إلى ما سبق أن ذكرناه، من أمثلة خلق الإنسان، ونبات الزرع … إن الإنسان يفعل سبباً معيناً ينتج منه خَلقٌ من الله، كخلق الإنسان، وثمرة الزرع. كذلك فإن الأفكار التي نضعها في الأنفس، يخلق الله منها أفعالاً. فكما أن لنا قدرة على زرع الأرض زيتوناً ورماناً أو عنباً…. فكذلك لنا قدرة على وضع الأفكار في النفس، والتي تُنتج كلٌ منها عملاً أو سلوكاً معيناً ، كما تثمر كل شجرة ثمراً معيناً. فنحن لنا قدرة زرع ما نشاء من الثمار، ولكن ليس لنا القدرة على أن نجعل شجرة النخيل تثمر بطيخاً، وكذلك الأفكار.

مثال : إن الله تعالى خلق بعض الأجسام ناقلاً للكهرباء، وبعضها عازلاً. وليس مجال البحث هنا لم جعل الله هذه المادة بعينها تنقل دون تلك التي لا تنقل ؟ وإنما البحث هو كيف نستفيد من هذه الصفة للتحكم في الكهرباء . وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال الإنسان ليس السؤال المجدي : لم ترتب كذا عمل على كذا فكرة؟ ولكن المجدي هو أن نسأل كيف نرفع كذا فكرة تُنتجُ كذا عملاً وكيف نضع كذا فكرة في الأنفس لتنتج كذا عملاً . وهذا الذي جعل الله لنا سلطاناً عليه . ولهذا صار الإنسان مسؤولاً عن أعماله .

وبعد هذا نقول : إن سلوك الإنسان وتصرفاته نتيجة لأفكاره ، وبتعبير أدق لما بنفسه ، فإذا تغير ما بنفس الإنسان سواء كان بجهده ، أو بجهد غيره ، فإن سلوكه لا محالة يتغير . وهذا التغيير يمكن أن يصل إلى درجة النقيض ، كأن يتحول الإقدام إلى إحجام ، أو السرور إلى أحزان ، أو أن الإقدام يتحول إلى نوع من الفتور . فإذا رأينا نتائج أعمال المسلمين تعاكس مصالحهم ،فإن ما بأنفسهم عن الموضوع خاطئ ، وينبغي أن يتغير ما بأنفسهم حتى تتغير أعمالهم ، وإذا رأيناهم مترددين في موقفهم تجاه أمر ، فإن ذلك يرجع إلى ما بأنفسهم عن هذا لأمر من القناعة بعدم جدواه ، أو بعدم إمكان الوصول إليه …

ثلاثة أمثلة لذلك

مثال أول :

يحكى أن عملاقاً بلغ من القوة ما يدهش ويحير ، وطبقت شهرته الآفاق ، وترامت أنباؤه حتى وصلت إلى عملاق آخر في بلد قريب، فأحب أن يتعرف على ذلك الذي يتحدث عنه الناس ، فأرسل إليه رسالة لطيفة يطلب وده ويعرض صداقته، ولكن خاب ظنه حين جاءه الجواب القاسي ينهاه عن التطاول فوق مرتبته …..

فصمم على الانتقام لشرفه من هذا المغرور الذي أساء الأدب في رده. فخرج يسعى إليه حتى وصل إلى مشارف أرضه. ولما سمع المغرور وقع أقدام خصمه تهز الأرض خارت قواه وتغير لونه، وأدركت امرأته حاله، فأشارت عليه أن يندس في الفراش، وألقت عليه دثاراً… ولما وصل الخصم الهائج سألها عن الوقح المغرور الذي لا يعرف قدر الناس ، حتى يعرفه نفسه ، ويعلمه كيف يكون جواب الناس.. فطلبت منه ألا يرفع صوته حتى لا يوقظ الطفل النائم، وأشارت إلى قدميه وقد برزتا من تحت الدثار. فلما رآهما، هذا الذي ما عرف قلبه الخوف، صمت قليلاً كأنما ألقي عليه دلو من الماء البارد، ثم قال في نفسه:

طفل…؟! فكيف يكون الأب إذاً…؟! ثم أطلق ساقيه للريح عائداً من حيث أتى.

حين نسمع هذه الأسطورة قد نعرف أنها أسطورة، ولكن مع ذلك نتفاعل مع أحداثها لأن أحداثها خاضعة لسنن نفسية. هذه الأسطورة مخترعة، ولكن هذا الاختراع يدل على المفاهيم التي في نفس مخترعها، سواء كانت قيم هذه المفاهيم سامية أو وضيعة. فبدلاً من أن تُبرز القصة أو الأسطورة خنوع الإنسان للقوة، كان يمكن أن تبرز استعلاء الإنسان بالحق ، كما في قصة السحرة مع فرعون كيف أنهم كانوا يقولون في أول النهار:

«بعزة فرعون إنَّا لنحن الغالبون» الشعراء – 44 .

حتى إذا أتى عليهم المساء رأيتهم يواجهون طاغية الدنيا بقولهم : «لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» طه – 72 .

فالقصة التي ذكرناها تبين الدافع الخلقي لمل بالنفس عند المجتمع، الذي من تراثه هذه القصة، فتبرز روح الاستكبار في مواقف القوة، وروح الخنوع عند الضعف إذ هما متلازمان. أن المستكبر حين يفقد القوة يذل، والإنسان الحق لا يستكبر عندما يملك القوة، ولا يذل عندما يفقدها.

وإذا تذكرنا قصة النبي يوسف عليه السلام ، نجد فيها مغزى رائعاً حيث يمثل الإنسان الذي يملك القوة أمام سلطان الشهوة ، بينما الكتب القصصية في الحضارات الأخرى تدور حول الإنسان الذي تعصف غرائزه بإرادته . لندع هذا ولننظر إلى سلوك الإنسان في الأسطورة التي ذكرناها . إذ المهم في الموضوع : هو خضوع سلوك الإنسان لما بنفسه مهما كان هذا الذي بالنفس . إن الشجاعة والجبن ، والإقدام والهزيمة ، كل هذا يتعلق بما بالنفس ، فإذا تغير ما بالنفس يتغير حالاً سلوك الإنسان ، ولا يعود يملك سيطرة على قواه ، ويخضع خضوعاً مطلقاً لسلطان ما حل بنفسه . فمن يملك القدرة على تغيير ما بالنفس يملك أن يغير ما بالقوم .

ففي الأسطورة غيرت المرأة بذكائها ما بنفس العملاق ، فتغير وضعه حالاً ، كأنما حدث كبس على زر ، فإذا المروحة دائرة ، وإذا الرَّجُلُ يرتجف وهكذا … ويمكن أن يشاهد مثل ذلك في سلوك العالم الإسلامي في كثير من تصرفاته … ولنذكر حادثة أخرى ولكنها واقعية إذ هي من السيرة النبوية الشريفة ، لتعطينا مثالاً حياً عن سلطان الإنسان الذي يملك القدرة على تغيير ما بالأنفس ، فإذا ما بالأقوام يتغير حالاً . مثال آخر :

قال ابن قَيِّم الجوزيَّة في زاد المعاد، في حديثه عن غزوة الخندق: «ثم إن الله عز وجل، وله الحمد، صنع أمراً من عنده خذل بع العدوَّ، وهزم جموعهم وفلَّ حَدَّهُم. فكأن مما هيأ من ذلك، أن رجلاً من غطفان يقال له نُعيمُ بن مسعود بن عامر رضي الله عنه، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أسلمت فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لإنما أنت رجل واحد فخذل عنَّا ما استطعت فإن الحرب خَدْعةٌ. فذهب من فوره إلى بني قريظة، وكان عشيراً لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قُريظة إنكم قد حاربتم محمداً، وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا استمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نُعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم قالوا: نعم: إن اليهود قد ندموا على كان منهم، من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم راسلوه، أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت من شوال، بعثوا إلى يهود: إنَّا لسنا بأرض مُقام، وقد هلك الكُراع والخُفُّ فانهضوا بنا حتى نُنَاجزَ محمدا. فأرسل إليهم يهود: إن اليوم يوم سبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإننا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش: صدقكم والله نُعيم، فتخاذل الفريقان».

« ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً » الأحزاب – 25 .

هذا أسلوب في تغيير ما بأنفس القوم في موضوع معين ، ليتغير موقفهم . وكان هذا العمل بإشارة واضحة من الرسول صلى الله عليه وسلم . وكان المنفذ متقناً للعملية مستغلاً للظروف ، ولعلمه بالتاريخ الماضي والحاضر للمشكلة التي يعيشها ، ولاسيما مع صلاته الخاصة السابقة مع الفريقين ، كل ذلك مع تقدير جيد للموقف الذي عليه بنو قريظة وقريش ، مكنه أن يؤثر بما بأنفسهم التأثير المناسب الذي يقتضيه الموقف ، فكان نجاحه بارعاً .

إن قصة نعيم بن مسعود نموذج واضح جداً على استغلال قدرة تغيير ما بالأنفس لتغيير المواقف .

مثال ثالث :

وفي هذا العصر، أخذت العقول البشرية تهتم بهذا الموضوع للوصول إلى نتائج إيجابية بجهود قليلة ، لا تحتاج إلا إلى مهارات في معرفة نفسية الأقوام وتاريخهم ، وما يمكن لن يقبلوه بسهولة ، أو يرفضوه دون تردد ، وتوجيه ذلك كله لصالح المشرف على عملية التغيير.

أجل إن الذين يتنازعون الإشراف على هذا العالم ، وتسييره وفق الجهة التي يريدونها ، أخذوا يولون هذا المجال ما يستحقه من اهتمام.

جاء في كتاب مناهج السياسة الخارجية: «ولكن الدبلوماسية، بما فيها دبلوماسية أمريكا، لا تستطيع أن تفعل شيئاً أكثر من استغلال إرادة رجال الدول الأجانب للتوصل إلى الأهداف. ويجبل على أمريكا لخلق هذه الإرادة أن تستغل جميع وسائل السياسة الخارجية، بما فيها الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية والنفسية».

وجاء في هذا الكتاب أيضاً عن السياسة الخارجية الثقافية والأيديولوجية:

«وتحاول أمريكا بلوغ أهدافها الخارجية بوسائل نفسية، وتبدو هذه الوسائل أقل صلة بالسياسة من الوسائل الاقتصادية والعسكرية. ولكنها لا تختلف عنها في الغاية المتوخاة، فتعمل بأساليب متنوعة بما فيها العلاقات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية لتوسيع منطقة التفاهم…؟ والتأثير على مواقف الأصدقاء والخصوم، أو المحايدين كل على مقتضى حاله، وقلما تحقق هذه الأساليب الآمال المعقودة عليها، لأنها أكثر ما تثير رد فعل عفوي معاكس، ويكون فعلها أقل إذا استعملت بمعزل عن وسائل أخرى، ولكن حرص الأمريكيين عليها يعبر عن رغبتهم في الاهتداء إلى بديل – للأساليب السياسية الصرفة – وتطلعهم لخرق الستائر الرسمية الكثيفة … واستعمال الوسائل النفسية لتكييف مواقف الأفراد والجماعات في البلاد الأجنبية، هو إحدى وظائف الممثلين الدبلوماسيين الأمريكيين في الخارج، والشخصيات المعنية بالسياسة الخارجية في الداخل، وهو أهم وظيفة لوكالة الاستعلامات الأمريكية التي تشرف على صوت أمريكيا، وبرامج انبائية وثقافية أخرى موجهة للشعوب الأجنبية.

ولأهمية هذه الوسائل التي يطلق عليها مجتمعةً اسم « الحرب النفسية » ، أنشأ ترومان مجلساً أعلى للاستراتيجية النفسية مهمته أن يوصي ببرامج من هذا النوع وينسق العمل .

وأدرك ايزنهاور أن الوسائل النفسية تكون أشد فعالية إذا نسقت مع السياسة العامة فحَّول مجلس الاستراتيجية النفسية لمجلس تنسيق العمليات » .