الإسلام السياسي

من Jawdat Said

مراجعة ٢٠:١٣، ٢٥ ديسمبر ٢٠١٣ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح, ابحث

الإسلامُ السياسيّ

قبل نحو عشرين سنةً دُعيتُ إلى ندوةٍ في التلفزيون السوريّ، فقلتُ "إنّ الإسلام من معدن صدقٍ وأمانةٍ ووفاء، والسياسة من معدن كذبٍ وخيانةٍ وغدر. فإذا صارت السياسةُ صدقًا وأمانةً ووفاءً، فهذه هي السياسة الإسلاميّة." وخلال الندوة استشهدتُ بشخصيّتين: رجل دين، ورجل سياسة. رجلُ الدين كان محمد عبده، الذي تورّط في ثورة عرابي في مصر، وعندما فشلت نُفي إلى لبنان، وهناك كتبَ كتابه الإسلامُ والنصرانيّة بين العلم والمدنيّة، ولمّا تعرّضَ للسياسة قال عنها: "لعنَ اللهُ ساس ويسوس وسائس ومسوس وكلَّ ما اشتقَّ منها." وأمّا رجل السياسة فكان محمد علي باشا، الذي سمع عن كتاب الأمير لماكيافيلي، فطلب أن يُترجَمَ له، فلمّا تُرجِمَت الملزمةُ الأولى من الكتاب، قال للمترجم ما معناه: لا تترجمِ البقيّة، فأنا أشطرُ منه!

أحيانًا أقول للناس إنّ رسالة الأنبياء لم تنزلْ بعد إلى الأرض، بل ما تزالُ معلّقةً في السماء؛ ذلك لأنّ رسالةَ الأنبياء هي التنافسُ في استباق الخيرات وخدمةِ الآخر، بينما حوّلها أتباعُهم إلى التنافس في الإيذاءِ ورفضِ الآخر. فالقرآن يقولُ: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقسط" (الحديد:25). ويقول أيضًا: "إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان" (النحل:90). ويقول: "وإذا حكمتم بين الناسِ أن تحكموا بالعدل" (النساء:58)، ولم يقلْ بين المؤمنين أو العرب وإنّما بين الناس. ويقول: "ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم" (فصلت:34). ومعنى هذا أنّ الإحسان صعبٌ، ولكنّ عاقبته تحويلُ الناس إلى أولياء حميمين.

وهناك أمثلةٌ في التاريخ الإسلاميّ تُظهِر خيارَ الإحسان رغم توفّر القوّة. فقد عقد الرسولُ معاهدةً مع قريش بالإحسان في صلحِ الحديبيّة، فوقفتِ الحربُ بين قريش والمسلمين على معاهدةٍ تدوم عشرَ سنوات. هنا كتب الرسولُ إلى زعماء العالم آنذاك، ووضع في كتابه قولَه تعالى: "يا أهلَ الكتاب تعالوْا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبدَ إلاّ الله، ولا نشركَ به شيئًا، ولا يتّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله. فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" (آل عمران:64). "كلمةُ السواء" رمزُها الرياضيّ هو (=)؛ أيْ تعالوا نضع رمزَ "يساوي" بيننا وبينكم؛ فكلُّ ما نعطيه لأنفسنا نعطيه إليكم. أما كلمة "مسلمون" هنا فتعني مسلمين بكلمة السواء، أيْ مؤمنين بالمساواة. ويقول القرآن: "وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها" (الفتح:26). وكلمةُ "التقوى" حين نفهمها ونلتزمُ بها لا يصيبُنا سوءٌ، ولا يبقى لنا عدوٌّ، بل يتحوّل الناسُ إلى أولياء حميمين.

ما زلنا، ببطء شديد، نكتشف هذه الإمكانات في خلقِ علاقاتٍ من نوعيّةٍ جديدةٍ بين البشر. وهذا ٍالذي يجعلني أقول إنّ ما جاء به الأنبياءُ لم ينزلْ بعد من السماء. غير أننا نرى تباشيرَه في الغرب في نموذج الاتّحاد الأوروبيّ، إذ توحّدوا من غير إرسال جيوش، وألغوا حكمَ الإعدام. ونرى أنّ الأتراك جزءٌ من هذه التباشير أيضًا، إذ يقدّمون نموذجًا جديدًا للإسلام السياسيِّ خارج ظلِّ السيف: فقد وصل الإسلاميون إلى الحكم بالديمقراطيّة، فانقلب عليهم الجيشُ، وشنق رئيسَ الوزاء المنتخب ديمقراطيّاً عدنان مندريس، ومع ذلك صبروا على التحدّي الديمقراطيّ ثمانين عامًا، ولم يلجؤوا إلى العنف أو الاغتيال، حتى وصلوا إلى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهوريّة، وقبلوا أن يلغوا حكمَ الإعدام، وأوقفوا الاختلاساتِ وسرقةَ الأموال (لم يكن الأتراك قادرين على دفع فوائد الديون خلال حكم العسكر لعقودٍ طويلة). كما أنهم وضعوا حدّاً للفساد، وقضوا على الديون، وارتفع دخلهم عشراتِ المرّات (يقال إنّ تركيا تُعَدُّ الآن الخامسةَ عشرةَ في ارتفاع الدخل).

لقد أثبت الأتراك تمسّكَهم بالديمقراطيّة، وسيقبلون أن يتنازلوا عن الحكم حين يفقدون أغلبيّةَ الأصوات. وهذا نموذجٌ جديدٌ نشهدُه في المنطقة، إذ سيبقون متنافسين في خدمة شعبهم، الذي منه أخذوا شرعيّتهم. ولذلك قالوا لأمريكا حين أرادت أن تمرَّ بجيوشها إلى العراق: "سنستشيرُ الشعبَ الذي أوكلنا بخدمته،" ولم يقبل الشعب ولا البرلمان أن يمرّ الأميركانُ من بلدهم.

إنّ الخوف من الحكم الإسلاميّ في البلاد العربيّة ليس في مكانه. ذلك لأنّ الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات سيسمح للجميع بالتنافس على الوصول، وسيصوّت الشعبُ لمن يخدمُ مصالحه أكثر ويحقّق العدلَ أكثر.

إنّ الدماغ البشريّ هو روحُ الله المنفوخ في الإنسان. إنه الأمانةُ التي عرضها اللهُ على السموات والأرض والجبالِ فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. هذا الدماغ هو الذي علّم الإنسانَ الزراعة قبل عشرة آلاف سنة، واستأنس الحيوان، ودفعه إلى وضع الرموز للأصوات، فابتكر الكتابةَ، وصارت الأفكارُ التي تموت بموت أصحابها خالدةً لا تموت. ولكنّ الورقَ عمرُه ألفُ سنة فقط، والطباعة عمرُها خمسةُ قرون فقط، أمّا الحفظ الإلكترونيّ فمنذ عقود قليلة. هذا الانفجار المعرفيّ جعل الكرة الأرضيّةَ "قريةً عالميّةً."

ولكنّ الرحلة البشريّةَ لم تخلُ من تحدّيات الفكر، ومن تحويل الدين أداةً للأذيّة ولقتل المختلف. فقد أُحرق برونو في ساحةٍ عامّةٍ في روما بمباركة الكنيسة والدولة عام 1600 بسبب أفكاره عن الفلك والدين. وجاليلو أنقذ نفسه من نهايةٍ مماثلةٍ بتراجعه عن نظريّاته في الفلك. وفي العالم الإسلاميّ أُعدمَ محمود طه شنقًا في السودان، ولم يتراجع كما تراجع بعضُ أتباعه منذ خمس وعشرين سنة فقط، إذ كان ضحيّةَ تنفيذ النميري لـ "شريعة الله."

إنّ الذين يخافون من الإسلام السياسيّ لا يعلمون التاريخ والتطوّرَ، وأنّ التحدّيات التي تواجه الإسلامَ هي تحدّياتٌ بشريّةٌ كونيّةٌ. ولهذا استشهدتُ بالأتراك وصبرهم على التحدّي الديمقراطيّ ثمانين عامًا، ولم يقولوا بعد نجاحهم إنّهم سينفّذون التشريعَ الجنائيَّ، وإنّما قالوا نحن ديمقراطيّون علمانيّون، ونؤمن بالعدل والعلم الذي يأمرُ بالعدل والإحسان. وأثبت الأتراكُ عمقَ إدراكهم لقانون النسخ في القرآن في قوله تعالى: "ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها" (البقرة:106).

يقول تعالى: "لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين" (الممتحنة:8)؛ "إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة:9). حين لا يقتل الإنسانُ الناسَ ولا يهجّرهم من ديارهم، فله البرُّ والقسط. ويكرّر القرآن هذا الذي ينهى اللهُ عنه في المجتمع القرآنيّ، ولا يذكر دينَ الإنسان أو اعتقاده ــ أمؤمنٌ هو أم ملحد أمْ يدين بدينٍ آخر. والقرآنُ يقول: "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغي"؛ ولهذا لا يسمح الله لنا بأنْ نؤاخذَ الناسَ على ما في رؤوسهم من أفكار، إنّما يعطينا الحقَّ في مؤاخذتهم إن مارسوا أعمالَ القتل والتهجير إزاء من يختلفُ عنهم في الأفكار والمعتقدات. ومن يمارسُ القتل والتهجيرَ هو الذي يُمنع، ولو كان يصوم ويصلّي ويشهد أن لا إله إلا الله. الإنسانُ لا يؤاخذ على ما يؤمنُ به في الدنيا، وحسابُه عند الله، بل يؤاخذ على أعماله. فبحسب القرآن، من تركَ القتلَ والتهجير فله البرُّ والقسط، بل يحقّ له أن يبتكرَ دينًا إذا استطاع أن يُقنع الناسَ به لا أن يفرضه بالإكراه.

فلمن يتساءلون: هل يجوز للمختلف عنّا أن يرشّحَ نفسه لرئاسةِ الدولة، نقول: نعم له الحقّ. فلينجحْ في الانتخابات، وليأخذْ الأصوات. ويحق ذلك أيضًا للمرأة، التي أُبعدتْ عن السياسة وصناعة القرار في عصورٍ قُدّستْ فيها العضلةُ والقوّة. في السابق كان يُعطى لمن معه حصانٌ في الحرب حصّتان: للحصان حصّة، وللفارس حصّة (وبعضهم يقولُ ثلاث حصصٍ لجدوى الحصان في الحرب). ولكن ما زلنا لم نفهم كيف نظّمنا علاقاتنا الإنسانيّةَ بناءً على مبادئ القوّةِ والعضلة، لا العقل. والشاعر قال قديمًا: "كُتب القتل والقتالُ علينا/وعلى الغانيات جرُّ الذيول." والآن، حسب الإحصاءات العالميّة، فإنّ النساء في الدراسات العليا في معظم الاختصاصات أكثرُ من الرجال. والله تعالى يقول: "واذكرن ما يُتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة إنّ الله كان لطيفًا خبيرًا. إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعدَّ الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا" (الأحزاب:34-35). ويقولُ الله: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب" (الزمر:9). ويقول: "ونريد أن نمنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين. ونمكِّن لهم في الأرض ونري فرعونَ وهامانَ وجنودَهما منهم ما كانوا يَحْذرون" (القصص5-6)

في عام 2005، في برنامج "الشريعة والحياة،" قلتُ إنّ الخوف من الإسلام السياسيّ له علاقةٌ بالخوف من الحرب، التي ما يزال العالمُ كلُّه يقدّسها لا الإسلاميّون فقط. لكنّ الحرب ماتت منذ أُلقيت القنبلةُ النوويّةُ على اليابان لأوّلِ مرّةٍ في التاريخ ولآخر مرّةٍ أيضًا، لأنّ القنبلة النوويّة أوصلت الجميعَ إلى طريقٍ مسدود. أنا أرى هذا ضمن آياتِ الآفاق والأنفس التي يطلبُ القرآن أن نراها. فاليابانيون، بعد استسلامهم، صاروا قوّةً عظمى من غير حربِ تحرير. وفي المقابل، نرى سقوطَ الاتحاد السوفييتيّ وهو متخمٌ بالقنابل النوويّة. وهذه أحداثٌ فيها من العبرِ ما لم يرها الذين من قبلنا.

أوّلُ كتيّب لي في شبابي كان عن التخوّف من الإسلام، وعنوانُه: لِمَ هذا الرعب كلُّه من الإسلام؟ وذكرت فيه أقوال المتخوّفين من عودة الإسلام، كما هو الحال الآن حيثُ ما يزال العالمُ يعيش صدى هذه التخوّفات، ليس فقط من طرف غير المسلمين، بل داخل البلادِ الإسلاميّة نفسها وتجاه "الربيع العربيّ." ولهذا سارعتُ بعد خروجي من السجن لأول مرّةٍ إلى العملِ على كتابٍ سمّيته مذهب ابن آدم الأوّل: مشكلةُ العنف في العمل الإسلاميّ (1966). وبعده بعشرين سنة كتبتُ كتابًا بعنوان كن كابن آدم، لأنّ قصة ابن آدم مذكورةٌ في التوارة والقرآن كمحورٍ مركزيٍّ في بنيتهما الأخلاقيّة. في هذه القصّة، نجد خطابَ القاتل والمقتول، ونجد استغناء المقتول عن الدفاع عن النفس لأنّه الخطوةُ الرئيسةُ للحرب، بينما الأنبياءُ جميعًا قالوا لأقوامهم "ولنصبرنَّ على ما آذيتمونا" حتى يقنعوا الناسَ بشريعة العدل والإحسان لا شريعة الدفاعِ والقوّة. بل القرآن يقول: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا"؛ أي لمّا نلتزم بقوانينه يدافعُ الله عن موقفنا. العدل في الحكمِ والإحسان في المعاملة. وكنتُ قلت إنّ هذا الكتاب للإعلان لا للإقناع. والآن عندي هاجسٌ لأكتبَ كتابًا بعنوان الإسلام يجبُّ ما قبله، والديمقراطيّةُ تجبُّ ما قبلها.