هل يمكن أن نتبين الرشد من الغي؟

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

جودت سعيد. مقالات ((مجلة المجلة))

أظن ذلك و أطمع فيه كما طمع جلال الدين الرومي أن يقتلع بالإبرة جبل قاف، و لكن ما هي هذه الإبرة؟ و ما هو جبل قاف؟ إبرتي هي آيات الأفاق و الأنفس، أما جبل قاف فهو "الفساد في الأرض و سفك الدماء". إذا غابت عنا آيات الآفاق و الأنفس لن يغني عنا أي شيء، حتى آيات الكتاب لا تعود تجدي شيئاً، لأن مرجع الكتاب آيات الآفاق و الأنفس، فمن أهمل آيات الآفاق و الأنفس، و نفى أن تكون آيات الآفاق و الأنفس تدل على الحق فلن تجدي معه آيات الكتاب، لا الذي نزل من السماء و لا الذي كُتب في الأرض، وآيات الآفاق و الأنفس فيها من القوة ما يرغم الناس على الخضوع مهما تحداها الناس، و عند ذلك سيفهم الناس آيات الكتاب و يتحقق قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).

آيات الآفاق بدأت تتكشف للناس بشكل لا يمكن أن ينكروه، و المسلمون يفرحون بذلك و قد ألفوا كتباً كثيرة في موضوع العلم و الإيمان، و لكن آيات الأنفس -ليس المسلمون فقط بل الناس أجمعين- إلى الآن لا يتقبلونها، فقد قبل الناس جميعاً فهم آيات الآفاق في علم الفلك و أذعنوا له مهما أخذ من وقت، و لكن آيات الأنفس تتلكأ في الظهور و قبول الناس لها، و لكن آيات الآفاق أيضاً في خدمة آيات الأنفس، لأن من أكبر آيات الأنفس هذا الإنسان الملهم للفجور و التقوى، إن إمكانية المجتمع لتحويل النفوس البشرية إلى الفجور أو التقوى -فهي لا تُخلق فاجرة أو متقية- و لكن تُخلق ملهمة التحول إلى أحد الجهتين الفجور أو التقوى، و لكن تحويلها إلى فاجرة مدساة أو إلى متقية مزكاة من صنع المجتمع و سعيه، لأن فاعل إلهام القدرة على الفجور و التقوى هو الله، و لكن فاعل التزكية و التدسية هم البشر، فكل البشر يولدون و هم قادرون على تعلم القراءة و الكتابة، و لكن هذه القدرة لا تتحول إلى واقع إلا بجهود كبيرة من البشر و بوقت طويل -يتسابق الناس في الاقتصاد في الزمن و الجهد و كثرة المردود في هذا المجال- و البشر يتعلمون آيات الآفاق و الأنفس بمعاناة و تأمل و تدبر و تفكر و تذكر و تعقل و هم في تقدم مستمر، حيث يبقى ما ينفع الناس و الزبد يذهب جفاءً، و من آيات الأنفس الكبيرة قدرة الانسان على اكتساب معارف كثيرة تعب فيها الناس الدهور في زمن قليل بواسطة الكلام المنطوق و المسطور، و قد أخذ وقتاً طويلاً حتى صار الكلام المنطوق مسطوراً، و لم يمض على هذا التحول إلا خمسة آلاف سنة فقط، و لكن الورق و الطباعة بدل الكتابة باليد أقل من خمسة قرون، و أما إمكان الحصول على المعلومة فهذا شيء يظهر في آيات الآفاق حيث سيصير ممكناً لكل البشر الحصول على المعلومة إنها آتية لا ريب، فآيات الآفاق ستتغلب على سعي الناس في كتم المعلومة كتم آيات الله في الآفاق و الأنفس .

من طبيعة الناس الاقتصاد في الوقت و الجهد و الزيادة في المردود -التسخير- و الكون كله مسخر للإنسان، هذه الفكرة كنظرية بالغة الاهمية، أما تحويلها الى واقع فهذا يحقق علم الله في الإنسان في امكان الإنسان في التغلب على الفساد في الأرض و سفك الدماء فيها، التهمتين الكبيرتين الموجهتين للإنسان حين كان الإنسان مشروعاً لم يتحقق بعد، و الإنسان حين صار قابلا أن يتعلم و يختصر الزمن في تعلم أشياء كثيرة في زمن اقل، صار الإنسان أمام تحدٍ، كيف نستخرج من الانسان افضل ما فيه؟ كيف يستفاد من الطاقة بدون تبديد؟

إن سبب الفساد في الأرض و سفك الدماء هو أن يظن الانسان في هذا الانسان أن افضل أسلوب و منهج لاستخراج افضل ما بالإنسان بتخويفه وتهديده و إكراهه و ليس بإقناعه و جعله يفهم و يرى عواقب السلوك عواقب التربية، و تحويل الانسان الى احسن تقويم أو تحوله الى اسفل سافلين. إن سبب كل الفساد في الأرض هو عدم فهم الانسان من قبل الانسان، فلهذا تبدد الطاقة و المادة الخام العظيمة بالفساد، في تحويل الإنسان الى التدسية و الفجور و الغي بدل تحويله الى التزكية و الى احسن تقويم و الى الرشد، و من لم يتمكن من هذا التحول فلا يلومن إلا نفسه لأن المشكلة عنده، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و الشيطان و البشر المفسدون في الأرض سيتبرؤون منا و سيقولون لم يكن لنا سلطان عليهم إلا أن دعوناهم فاستجابوا لنا، (و قال الشيطان لما قضي الأمر ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و ما انتم بمصرخي) لا أنا يمكن أن أنقذكم و لا انتم يمكن أن تنقذوني، و يقول المفسدون في الأرض -و في لغتنا الحاضرة المستكبرون في الأرض أو المستعمرون- (إذ تبرأ الذين اُتُبِعُوا من الذين اتَبَعُوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب و قال الذين اتَبَعُوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم)

إن سبب الفساد في الأرض و سفك الدماء هو ظن إن استخراج افضل ما بالإنسان بإكراهه و ليس بإقناعه فانتشار هذا التصور خلال التاريخ كان سبب الفساد في الأرض، حيث جهل الانسان طريق الصلاح و الفلاح، إن الانسان جهل طبيعة الانسان خلال التاريخ فكان الفساد و سفك الدماء، و لم يستفد من قدرة الكلام و التسمية التي يمكن بواسطتها القضاء على الفساد و سفك الدماء، لهذا قال الله للملائكة الذين اتهموا الإنسان بأنه سيفسد في الأرض و سيسفك الدماء كان جواب الله (إني أعلم مالا تعلمون) (و علم آدم الأسماء) إن القدرة على التسمية و نقل المعلومة بالاسم بالكلام بالرمز هذا هو وسيلة الإنسان في التغلب على هذه التهمة، و يمكن أن يفهم الإنسان هذا من آيات الآفاق و الأنفس ليجده بعد ذلك في آيات الكتاب بكل الوضوح و الجلاء و البيان، إن ظن أن الإنسان يمكن أن يعطي بالإكراه أكثر مما يعطي بالإقناع -هذا الظن و إن كان طاغياً باغياً- يسد علينا المنافذ إلا أننا يمكن أن نكشف في آيات الأنفس و وقائع التاريخ أن الإنسان يمكن أن يعطي بالإقناع ما لا يمكن أن يتصور إمكان استخراجه من الإنسان بالإكراه، وهذا ما جاء به الأنبياء و جَهِله العالم إلى الآن من العلاقات الأسرية إلى العلاقات الدولية العالمية، إنها مبنية على التهديد و الإكراه و ليس على الإقناع و الإرشاد، و نحن يمكن أن نفهم أن الإيمان الذي يأتي بالإكراه لا يكون إيماناً و لا الكفر الذي يأتي بالإكراه و التهديد كفراً و كذلك السياسة التي تأتي بالإكراه و القمع لا تكون رشداً و إنما غياً و بغياً و تسلطاً لهذا جاء في الكتاب (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) كان ذلك تعظيماً للإنسان و تكريماً لبني آدم.

هل تبين الرشد من الغي؟ نعم تبين الرشد من الغي فإن الذي يأتي بالإكراه لا يمكن أن يكون رشداً و إنما غياً و بغياً يجعل الناس منافقين كذابين متملقين هل آيات الآفاق و الأنفس دلت على أن الإكراه في الدين و الاعتقاد لا يمكن أن يؤدي إلى دين أو اعتقاد، إن تطور آيات الآفاق في العالم اضطرهم إلى أن يعترفوا بلا إكراه في الدين في دساتيرهم، و لكن هذا التطور أدى إليه قانون أن الزبد يذهب جفاءً و ما ينفع الناس يمكث في الأرض، إن لا إكراه في الدين نفى و استبعد العنف وسيلة الإكراه و كل أدواته، أن يكون له وجود في الدين و في الاعتقاد و في السياسة، إنه نفى الإكراه و استبعده، و نحن حين آمنا بدور الإكراه في الاعتقاد نبذنا الرشد و دخلنا في الغي و لم يعد هناك أمامنا أي طريق للرشد لأن كل الطرق سدت أمامنا إلا طريق العنف، و صرنا نخاف من الرشد و من اللا إكراه من أنه سيأتي علينا بالخراب، و نفعل هذا باسم الله و باسم رسله و باسم كتبه و باسم التقدمية و باسم العدل و باسم حماية المقدسات فهل تبين الرشد من الغي؟ أم صرنا من الذين قال الله عنهم و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا)