ماذا فقدنا لما ضاع الرشد؟

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

مداخلة جودت سعيد إلى المؤتمر الثامن للمعارف بين القرن الأول والخامس الهجري


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.

لما تأملت عنوان المؤتمر الثامن:

المعارف بين القرن الأول والخامس "هـ"، حيث بداية الإسلام ودولته العربية في دمشق، وبدء قرون من الإبداع الحضاري استمرت مضيئة في الميادين الاقتصادية والسياسية والعلمية والفلسفية والفنية... إلى الغزو المغولي والصليبي...

تأملت الموضوع، وتهيبت أن أعرض تصوري، ولم أعرف كيف أدخل بحثه لما يحيط به من المسلمات الخاطئة.

كيف نبرز ما يعده الإسلام مقدساً بعد أن ضاع منا أقدس ما يعتبره الإسلام مقدساً عندما تأسست دولته العربية القبلية في دمشق الأموية ثم في بغداد العباسية ثم في القاهرة الفاطمية ثم في اسطنبول العثمانية.

بدءاً من دمشق ضاع منا أقس ما يعتبره الإسلام مقدساً، وهو أن الله واحد أحد. وصار معنى "الله واحد" من أصعب الأشياء، ولا يزال هذا الأمر غامضاً.

وينبغي لنفهم هذا أن نعرف أن القرشيين الذين جاء إليهم الإسلام، وأرسل إليهم محمد (ص)، كانوا يؤمنون بأن الله الخالق واحد. وفي القرآن:

{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض، ليقولن الله} (لقمان، 25).

والمشرك لا يكفر بالله، ولكن يقدم طاعة بعض مخلوقات الله على طاعة الله، لهذا يقول الله عن الوالدين:

{قل تعالوا أتل عليكم ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} (الأنعام، 151)، ويقول في مكان آخر عن الوالدين:

{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (لقمان، 15). ويقول:

{أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى... كلا لا تطعه واسجد واقترب} (العلق، 9-19)، ويقول:

{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء، 48)، ويقول:

{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (الزمر، 65)، ويقول:

{إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان، 13)، ويقول:

{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة، 31)، ويقول:

{وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام، 121)، ويقول:

{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران، 64).

وقال الرسول: "إنما أهلك من كان قبلكم، أنه إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد"، أي لم يقبلوا كلمة السواء، ويقبلون أن يكون بعض البشر فوق القوانين، يسرقون ويقتلون ولا يؤاخذون، هذا المجتمع سيهلك، يقول الله: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص، 59)، هذا هو الشرك الذي يحبط كل الأعمال.

إن الذي يمسك السموات والأرض بهذا النظام البديع هو المساواة بين الجذب والطرد، وإذا اختل، تهاوى الكون أو انفرط، وهذا القانون الذي يحكم نظام الكون هو نفسه الذي يحكم نظام المجتمع، فالمجتمع الذي لا مساواة فيه يتهاوى ويهلك، أو ينفرط ويهلك.

وهذا الذي يجعلنا نقول إننا ضيعنا أقدس شيء في الدين، وهو العدل بين الناس، {وإذا حكمتم بين الناس، أن تحكموا بالعدل} (النساء، 58)، وفي الحديث أن الرسول قال لأبي ذر: بشّر من قال لا إله إلا الله موقناً بها قلبه دل الجنة على ما كان منه (من المعاصي)، وفهم أبو ذر هذا وسأل متعجباً: وإن زنى وإن سرق؟ قال الرسول: وإن زنى وإن سرق. فتعجب أبو ذر وكرر مرة أخرى: وإن زنى وإن سرق؟ فكرر عليه الرسول: وإن زنى وإن سرق. فكرر أبو ذر لرابع مرة وإن زنى وإن سرق؟ فقال الرسول لأبي ذر: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر.

إن فهم معنى التوحيد والشرك شيء عظيم، و{إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان، 13)، وهذا ما قلت عنه أننا ضيعنا أقدس شيء في الناموس كما في الإنجيل أيضاً.

ويمكن أن نقول بكل اطمئنان: إن مشكلة التوحيد والشرك ليست مشكلة سماوية محورها أن مع الله إلهاً آخر، بل إن التوحيد مشكلة أرضية بشرية محورها أن لا يكون أحد فوق تطبيق العدل، ولكن هذا المعنى ضاع مبكراً جداً جداً، وضاع يوم أن صارت الدولة العربية في دمشق ولم يبق من المعالم لفهم وكشف ما ضاع إلا اسم الخلفاء الراشدين، حيث لم يسموا أحداً راشداً بعد ذلك، والتراث الذي نفخر به ونعقد مثل هذه المؤتمرات. إن الثقافة أو التراث الفكري والعملي الذي نعيشه إلى الآن بدأ المسلمون كتابته بعد أن فقدوا الرشد الذي يعني التحاكم إلى العقل وليس إلى السلاح، وهذا الذي سماه المسيح وقال في الإنجيل: ضيعتم أقدس شيء في الناموس، وكل هذه المدونات الإسلامية ما عدى القرآن، لم تكتب إلا في القرن الثالث الهجري، وبدأت الكتابة بكتب أحاديث الرسول، أما الشروح والتفاسير وكتب الفقه الأصغر فلم تكتب إلا بعد ذلك. أما كتب العقائد أو ما سماه بعضهم الفقه الأكبر، الذي هو توحيد الله، فقد صار مهجوراً، والكتابة فيه خطراً، والذين أفتوا بعدم تحقق البيعة بالإكراه منهم من قتل وكثير عذبوا وصار الحديث عن التوحيد مهجوراً، وحتى الأجيال اللاحقة لم يعودوا يفهمون لا إكراه في الدين، وشرّعوا قتل المرتد، واعتبر من قال بمبدأ لا إكراه في السياسة مطارداً بتهمة الردة.

هنا أريد أن أشير إشارة خفيفة إلى المذاهب الإسلامية، الخوارج والمعتزلة والشيعة والسنة، ففي الواقع العملي لم يبق لا سنة ولا شيعة ولا معتزلة، وهؤلاء الأخيرون الموسومون بالمنهج العقلاني أيضاً لم يكونوا اقل تسامحاً فهم الذين كانوا يمتحنون الناس على خلق القرآن مثل ما فعلوا بأحمد بن حنبل. هذه أحداث كبيرة سجلت ولكن لم تسجل تحليلاتها ودوافعها إلى الآن إلا بشكل غامض. ومن هنا يمكن أن نفهم أن المذاهب كلها تحولت إلى مذهب الخوارج فلم يبق مذهب آخر، حيث اقروا أن من تمكن من إعادة الرشد بالقوة يكون مجاهداً ولكن هذا التحول حدث من غير إعلان ومن غير تسجيل في دستور واضح كدستور المدينة الذي كتبه الرسول حين هاجر إلى المدينة ونشأت دولة النبوة والرشد فهذا العهد صار منسوخاً من قبل المسلمين وعلينا أن نذكر الخوارج أنهم لم يكونوا كفاراً لا بالله ولا بالرسول ولا باليوم الآخر، بل كان من صفاتهم أنهم يقومون الليل ويكثرون من صيام النوافل، ووصفهم الرسول في أحاديث الفتن المذكورة في أبواب الفتن بأنهم صوام قوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ويمرقون من الإسلام.

إلى الآن العقل المسلم لا قدرة له على كشف هذا التحول غير المعلن، بل تحول هذا إلى لا شعور فنسي الناس ولم يعودوا يذكرون إمكان إعادة الرشد (أي التحاكم إلى العقل والإقناع) إلا بالإكراه بوسائل القوة، والخوارج هم الذي قتلوا علي ابن أبي طالب اغتيالاً في المسجد عن صلاة الفجر، وكان علي رضي الله عنه قد سئل عنهم: أكفار هم؟ فقال علي: من الكفر فروا، ثم سئل: أمنافقون هم؟ فقال: لا ليسوا منافقين، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، فقال السائلون: فمن هم إذن؟ (والسؤال عن الخوارج) فقال علي: ليس من طلب الحق فأخطأه كم طلب الباطل فأدركه.

نحن إلى الآن لا قدرة لنا على فهم هذا الحوار وأبعاده (المعرفية) الاجتماعية السياسية ونحن نبحث المعارف الإسلامية في هذه المؤتمر الثامن، وكيف ومتى نصير نبحث المشكلات على أساس العقل والعدل والمنطق.

أنا لا أعرف ماذا كان في ذهن هذا المؤتمر حين وجه لي الدعوة للحضور والمشاركة في أحد محاوره، وقد يُنظر إلى ما أنتجتُ من كتب على أنه غِناءٌ خارج السرب وشاذ لم يقل به أحد، وربما أنا أيضاً لا أحسن عرض هذا المحور الذي يهمني، وأنا لم أوضح ماذا ضاع من الإسلام وماذا بقي.

إن للإسلام مظاهر: النطق بشهادة الإيمان بوحدانية لله، وبالرسالة لمحمد، ثم الصلاة والزكاة والصوم والحج إلى بيت الله الحرام.

أساس الإسلام الشهادة لله بالوحدانية عن فهم وإيقان، أما الصلاة والزكاة والصيام والحج ففروع ومظاهر إذا خلت من التوحيد لم يعد لها قيمة، ومع ذلك، إي مع أن هذه العبادات المفروضة خلت من معانيها أو أقدس معنى فيها، وهو التوحيد الذي هو العدل بين الناس، وأن لا يكون بينهم آلهة بشرية، مع ذلك، فالمساجد لم تعد تتسع للناس في صلاة الجمعة، ورمضان شهر يستنفر الناس في العالم الإسلامي كله، أما الحج فلم يعد من الزحام يتسع للحجاج فحددوا عدد الذين يأتون من كل بلد عند نسبة معينة لا يتجاوزونها، لكنها مفرغة من المعنى، من التوحيد، ومن الاتحاد فيما بينهم، ومع ذلك أيضاً فإن هذه العبادات المفرغة من المعنى هي التي أبقت المسلمين يشعرون بالأخوة وإن كانوا يائسين من عودة الاتحاد فيما بينهم، لأننا نبذنا معنى التوحيد وراءنا ظهرياً.

يقول الله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون} (آل عمران، 187)، ومهما أخذت من ثمن بعد كتمان معنى ميثاق التوحيد، فإنه ثمن قليل مهما كان كثيراً، بل يقول الله: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} (البقرة، 159). وبعد آيات يقول: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} (البقرة، 174). فهل نقول: إنهم كتموا القرآن، أم نقول جهلوا القرآن، أم نقول هجروا القرآن إلى تصورات السلف؟

ومرة أخرى يمكن أن نقول إن المسلمين معتزلةً وسنة وخوارج تحولوا إلى شيعة على أساس التقية، فهناك في القرآن آية تدل على التقية، تقول الآية: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} (آل عمران، 28)، ويقول الله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (النحل، 106).

إن الأمور مختلطة، كيف ذهب الرشد والخلافة الراشدة، وكيف صار المسلمون كلهم على مذهب الخوارج ثم مذهب الشيعة، لم يبق سنة ولا معتزلة، فالخوارج هم الذين يؤمنون بصنع الرشد بالقوة بالإكراه، والله يقول: {لا إكراه في الدين} (البقرة، 256)، لأن الإكراه لا يصنع كفراً ولا إيماناً، ولو قال المرء آمنت مكرهاً لا يصير مؤمناً، وإنما منافقاً كذاباً، وإذا تمكن يتحول إلى خارجي.

هل نحن ليس أمامنا إلا هذين المذهبين، إما مذهب التقية، أو مذهب الخوارج.

هناك مذهب ثالث ضاع مع ضياع الرشد، والرشد هو ما كان عليه الرسول، في البلاغ، يقول الله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة،67)، هذا المذهب الثالث هو الشهادة لله أنه واحد وانه أرسل جميع الرسل والكتب {ليقوم الناس بالقسط} (الحديد، 25)، والناس الذين يأمرون بالقسط هم ورثة الأنبياء.

والقرآن يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد،25)، هذا هو لب الدين وهذا هو توحيد الله وهذا هو طريق الخروج من الشرك الذي يحبط جميع الأعمال بما فيها أركان الإسلام، وفي الأحاديث أن المنافق إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر. والآيات والأحاديث كثيرة في هذا الموضوع. ولما سئل الرسول: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يسرق. ولما سئل: هل يزني؟ قال قد يزني، ولما سئل: هل يكذب؟ قال: لا. والله أخذ العهد: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} (يس، 60).

وأنا لا أستطيع أن أوضح، ومنذ ستين سنة أقول: أنا على مذهب ابن آدم الذي قال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين} (المائدة، 28)، ولا أتمكن من توضيح هذا المذهب، وهذا هو المذهب الثالث من المذاهب الإسلامية:

1 ـ الخوارج الذين يحلون المشكلة بالقتل.

2 ـ والتقاة الذين يحمون أنفسهم بالتقية.

3 ـ وابن آدم الذي رفض القتل والقتال، وهو مذهب الآمرين بالقسط من الناس، ومذهب لا إكراه في الدين، ومذهب آل ياسر وبلال بن رباح لم يكن له ذنب غير أنه يشهد أن الله واحد وأن محمدا رسول الله، وما نقموا منه إلا أنه يعلن إيمانه ولا يكتم الحق وهو في أدنى درجات المجتمع ويباع ويشترى ولكن لا يكتم الحق الذي يؤمن به...

هل يمكن توضيح ذلك؟ هل يمكن أن نخرج من مذهب ما بعد الراشدين، نعم يمكن، كيف؟


أولاً علينا أن نفهم معنى ختم النبوة، وعلينا أن نعرف ما يترتب على ذلك. لم يعد يأتي نبي ولا ينزل كتاب، وكانت النبوات تأتي بالمعجزات فألغى القرآن المعجزات أيضاً وسجل القرآن هذا لما قالوا للرسول: {لو ما تأتينا بآية كما أرسل الأولون}، فجاء الجواب: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} (العنكبوت، 51)، وهذا الكتاب كتاب مستقبلي ومرحلة تحول من الخوارق إلى العلم، وجعل القرآن الدين علماً، وكل شيء يصير علماً يصير عالمياً، وسبب بقاء الأديان المتنوعة أنه لم يولد العقل العلمي، ويؤمنون باللاعقل، والمسيح لما قال في الإنجيل أنه سيأتي أنبياء كذبة، في الظاهر كالحملان، وفي الباطن ذئاب، فقالوا: يا معلم كيف نميز الذئاب الخاطفة من الحملان. قال المسيح: من ثمارهم تعرفونهم، هل يمكن أن تجني من الشوك عنباً ومن الحسك تيناً؟ إذن، من ثمارهم تعرفونهم. هذا أسلوب علمي، والقرآن قال، لما ذكر الخيل والبغال والحمير، قال: {ويخلق مالا تعلمون} (النحل، 8)، ونحن نرى ما صنعه مخلوق الله، الدماغ البشري، من وسائل نقل لم يخطر على بال أحد، ما نراه نحن عياناً وصار عالمياً لأنه على أساس العلم، وفي هذا المعنى قال القرآن للإنسان: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الجاثية، 13)، لم يستثن شيئاً، الكون كله مسخر للإنسان بما فيه الإنسان: {ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (فصلت، 35)، هذا قانون إلهي للإنسان حامل الأمانة، العقل الفهم هو ربط النتائج بالأسباب، وهذا المعنى موجود في التوراة في سفر الأمثال: "أنا الفهم لي القدرة، وغلتي خير من الذهب الإبريز والفضة المختارة، وكل الجواهر لا تساوي شيئاً"، وكذلك في الإنجيل قال المسيح لما سأله سائل: "كم مرة يخطئ صاحبي وأغفر له؟" فأجاب المسيح: "لا أقول سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات"، معناه ليس إلا الغفران، وهذا مكرر في القرآن ومصدق للأنبياء والكتب ولكن أهل الأديان نسوا الأنبياء الذين جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخيرات ويتسابقوا إليه إلى التنافس في فعل الشرور والآثام ويتسابقون إليه يقول القرآن: {كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} (البقرة، 213) وأنا أقول: إن ما جاء به الأنبياء لم يتحقق بعد، أي لا يتنافسون في فعل الخيرات والحسنات وإنما لا يزالون يتنافسون في كيف يتمكنون من القتل لا هداية الناس، والمسيح يقول في الإنجيل: "إذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون"، وعن الكتبة والفريسيين القادة العميان، و"إذا قاد الأعمى الأعمى سقط كلاهما في المهوى"، نعم، ماذا أقول، إن الناس يتعلمون من الآلام، فهكذا تعلم الناس فهماً جديداً للأفلاك وفهما جديداً للإنسان، وبالفهم الجديد للأفلاك حدث انقلاب فلكي، ثم حدث انقلاب اجتماعي للإنسان حين كشفوا الديمقراطية. بالانقلاب الفلكي كشفوا أن ما يراه الإنسان بعينه من دوران الشمس والأفلاك حول الأرض خاطئ، فالأرض هي التي تدور حول نفسها كل 24 ساعة، وحول الشمس مرة واحدة في سنة كاملة، وحدث انقلاب اجتماعي حين كشف الإنسان أن الملوك كانوا كبار الحجم مثل الأرض في نظرهم لا نهاية لسلطانهم، وفي حوار إبراهيم مع النمرود الذي آتاه الله الملك فقال: {أنا أحيي وأميت} (البقرة، 258)، والبشر كانوا صغاراً كما يرى الناس الشمس صغيرة، ويرون الشعوب صغيرة أمام الملوك، فلا حول لهم ولا قوة، ومغلوب على أمرهم فصارت الشعوب كبيرة والملوك صغيرة وبقايا رموز لا حول لهم ولا قوة. وهذان الانقلابان الفلكي والاجتماعي صنعهما غير المسلمين وغير المتدينين، صنعتهما العقول التي استيقظت، إن الغرب لم يبتكر وسائل للنقل بدلاً عن الخيل والبغال فقط، بل ابتكروا وسائل لنقل السلطة غير القتل والإبادات، وهذا الابتكار الاجتماعي هو التوحيد الذي جاء به الأنبياء، وضيعه أتباع الأنبياء، وقد قال شوقي عن الملكية الدستورية مخاطباً الملك فؤاد:

زمان الفرد يا فرعون ولّى ودانت دولة المتجبرينا

وأصبحت الرعاة بل أرض على حكم الرعية نازلينا

والديمقراطية ليست كلمة، وإنما مفهوم يتساوي فيه أدنى الناس بأعلاهم في التصويت في الانتخابات. هذه فكرة جديدة ابتكرها الناس على أساس الفهم والعلم، وقد يطلق عليها الجمهورية، وهذه الكلمة أقرب للفهم حيث اتخذها العلماء في حديثهم عن الأغلبية من الناس أو العلماء، أو مثل قولهم "جمهور" العلماء أو الفقهاء أو أهل الذكر، ونحن ضيعنا معنى الأغلبية. والرسول لم يعين نائباً عنه، ولم يجعلها وراثة. لما قال الله لإبراهيم عليه السلام: {أني جاعلك للناس إماما}، قال إبراهيم: {ومن ذريتي}، فقال الله: {لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة، 124)، وفي الإنجيل ذكر هذا وقال لهم لا تقولوا إن إبراهيم أباً لنا إن الله قادر على أن يجعل من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم. هذه فكرة إنسانية كبيرة، كل البشر معرضون للخطأ وخير الخطائين التوابون، والخطأ خسارة، ولا يكرره الإنسان. قال القرآن عن النفس الإنسانية: {فألهمها فجورها وتقواها} (الشمس، 8) والفجور يؤدي إلى الخسارة والخسارة تؤدي إلى اتقائها، فالفجور طريق للتقوى، وفي القرآن: {لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} (السجدة، 21).

ويقول: {لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم} (الشعرا، 201) ونحن نرى الاتحاد الأوربي يتحدون بفضل الديمقراطية والجمهورية أي الأغلبية، وكلما ارتفعت الأغلبية اقترب أكثر إلى الحق، وقانون النسخ على أساس النفع العام {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (البقرة، 106)، ومعنى العدل يفهمه المحرومون وهم كثرة، وليس أصحاب الإمتيازات وهم أقلية.

الأمور واضحة، وكلما تقدم الزمن تصير أوضح، والله حوّل الأدلة على الحق إلى آيات الآفاق والأنفس، فقال: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت، 53) ومن تعاريف الحق في القرآن: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} (الإسراء، 81) لم يقل: "جاء الحق و(قتل) الباطل" بل مات تلقائياً كما يزول الظلام حين يأتي النور. ويقول القرآن أيضاً {قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (سبأ، 49) وحتى الله هو مصدر كل الحق: {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى} (الحج، 6)، والقرآن جعل حتى الإيمان باليوم الآخر علماً لما قال: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء، 104)، إيمانك يعطيك ما يرجحك، نحن نرى أثر الإيمان في الدنيا قبل الآخرة والقرآن يتحدى: ائتوا بأفضل من هذا، من كلمة السواء، من العدل والإحسان. بالعدل تستقيم الأمور ولكن بالإحسان يتحول العدو إلى ولي حميم، وإن كان الدفع بالتي هي أحسن صعباً فسيسهل حين تنكشف الأمور، بل يصير ذكر سيئات الإنسان، مكروهاً مثل أكل الإنسان لحم أخيه ميتاً، وذلك حين يقول (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)، وحين قيل للرسول: ادع على دوس، قال: اللهم أهد دوساً وائت بهم مسلمين، ومما ينبغي أن نعلم أيضاً أن المجتمع المسلم يقبل الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ما لم يمارس أحد أمرين، قتل الناس وتهجيرهم، فإذا ترك هذين الأمرين فله البر والقسط، ولا يسأل عن دينه يقول الله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (الممتحنة، 8-9).

وقبل هاتين الآيتين آية تقول: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم} (الممتحنة، 7) إن العداوات التي تحصل بين الناس تبلغ إلى درجة من الاستحالة حتى أن الله لا يقدر على تحويل ذلك، لهذا قال الله {والله قدير والله غفور رحيم} (الممتحنة، 7)، وفي صلاة الإنجيل "وأغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر".

ورسولنا أيضاً يقول: "ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً"، والدين إذا صار علماً يصير عالمياً، ولما صار الرعد والبرق علماً أضاء لنا الظلام وبعث الدف في الصقيع وحول الحار إلى بارد، بل نقل الأفكار والصور والكلام بسرعة البرق: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (الفرقان، 33)، والكهرباء صارت علماً وعالمياً واستخداماتها لا نهائية ولن يستغنى عنها الإنسان إلا إذا ابتكر ما هو أنفع وأبقى وأقل كلفة، كيف كان الناس قبل عشرة آلاف سنة، وقبل مئتي سنة، ما كانت الكهرباء قد دخلت في حياة الناس، فكيف سيكون الناس بعد مئتي سنة من الآن؟ بعد ألف سنة من الآن؟ بعد عشرة آلاف سنة، بعد مليون سنة......لا يتصور كيف سيكون البشر

وسيظل يخلق ما لا نعلم حتى اليوم الآخر، وأنا أطمع أن نعلم الأطفال ونبتكر طريقة قرآنية إنجيلية توراتية وعلمية لنفهم الأديان كلها على أساس العلم والتسخير، وعلى أساس علم الله في الإنسان بقوله تعالى في الرد على الملائكة الذين اتهموا الإنسان بالفساد في الأرض وسفك الدماء قال الله: {إني أعلم ما لا تعلمون} (البقرة، 30).

إن الاتحاد الأوربي الذي يصنعونه يقوم على أساس العلم، الربح والخسارة. وماتت الحرب وألغي حكم الإعدام. فإذا فهمنا ما حدث من تغير للإنسان من أكل لحوم البشر، وتقديم القرابين البشرية، وأن الحج هو احتفال بذكرى زوال القرابين البشرية، حتى لا ننسى كيف كنا ثم كيف صرنا، فالإنسان حين يتعلم هذا وتصير الأمهات ينقلن إلى الأطفال هذه المعاني قبل أن ينطق الطفل بلغة لتعرفهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول، هذه العنصريات والسخريات والثورات التي تأكل أولادها كالقطط؛ عندها يصير الإنسان يترفع عنها ويقول هنا الحمد لله الذي بين لنا الطريق للخروج من الظلمات إلى النور ويذهب عنا الخوف والحزن والله يقول لنا: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} (سورة النصر).

الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن على الماضي، والخوف من المستقبل، وينزع الغل من قلوبنا بمعرفتنا وبنشر ما صار من المعارف ليلتقي الناس جميعاً على طريق العدل والإحسان والحمد لله رب العالمين.

إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً

جودت سعيد

بئر العجم 23-1-2009