كيف يتولد العمل

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

العمل قدرة وإرادة


Alamalqudrawaerada.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
الفصل الأول، مصطلحات البحث
الإخلاص والصواب
مصطلحات أخرى للإخلاص
الفصل الثاني
العمل
منطلقات العمل
التسخير
انظروا كيف بدا الخلق
كيف يتولد العمل
تعريف العمل
أركان العمل
الفصل الثالث، الإرادة
مفهوم الإرادة
من أي شيء تتكون الإرادة؟
بعض خصائص الإرادة
الإرادة روح الأمة
الإرادة كقيمة وكصناعة
الفصل الرابع
عمق المشكلة
كيف يحصّل الإنسان القدرات
ملكة تحصيل القدرات
الإرادة كانت قدرة
القدرة الأخلاقية الكامنة
أسلوب آخر لتعريف الصواب
الفصل الخامس
هل عند العالم الإسلامي إرادة؟
عمى الألوان
القدرة والإرادة كشريعة وحقيقة
موقف أهل الدين والسياسة من نقص القدرة والإرادة


2- كيف يتولد العمل؟

وهنا علينا أن ننظر كيف بدا خلق العمل؟ ومن أي شيء يتولد؟ وما أصله؟ ومن أبواه؟ وما تعريفه؟ ..

أ- تعريف العمل:

العمل: حركة بقصد، ولا نسمي الحركة بغير قصد عملاً، فحركة الشمس والرياح ليست عملاً، وغنما جريان مثل جريان النهر: ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم﴾ (سورة يس: الآية 38). ولكن العمل القاصد وعمل المريد وعمل الإنسان، هو الذي يسمى عملاً:

﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ (سورة النحل: الآية 97)، ﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط﴾ (سورة يونس: آتية 4).

فإذا كان تعريف العمل: حركة بقصد، فإننا نستطيع القول:

إن العمل حركة وقصد؛ وبتعبير آخر نقول: هو قدرة وإرادة.

إن الحركة وحدها بدون قصد تكون كحركة الجمادات، التي هي حركة قدرة ولكن لا إرادة فيها، ولا يمكن تصور الإرادة الواضحة إلا في مستوى الإنسان، فإذا نظرنا إلى أعماله الجليلة منها والصغيرة، نراها مكونة من القدرة والإرادة، ولا يتولد العمل لا إذا وجدتا معاً. فالجمادات تتحرك بغير إرادة، ولكن الإنسان لا يتحرك إلا بإرادة، ولا تتصور منه أن يتحر بغير إرادة إلا إذا كان نائماً يمشي.

ونحن لا نستطيع أن نتصور حركة بغير قدرة، فحركة الغصن قدرة لأن القدرة طاقة، فحركة الغصن من الهواء، وحركة الهواء طاقة، وسقوط الورقة من الشجرة قدرة، لأن السقوط لا يتم إلا بفعل الجاذبية، فالجاذبية طاقة، ولكن لا نتصور في حركة الغصن أو في سقوط الورقة إرادة، لأن الغصن لم يرد الحركة، والورقة لم ترد السقوط. ولكن إذا رأينا إنساناً يمشي، فإننا نعرف أنه يستخدم طاقة في مشيه، إلا أننا لا نستطيع أن نتصوره يمشي من غير قصد ومن غير رادة، فهو يمشي إلى شيء يريد أن يصل إليه، ولو من أجل أن يسري عن نفسه ويقطع الملل، أو يحرك أعضاءه، فإن له في المشي قصداً. ولكن لا يمكن أن نتصور المشي بالقصد وحده، فإنه مهما كان يريد المشي، لا يمكن أن يحدث إن لم يكن قادراً عليه، لأن الطفل الصغير لا يستطيع أن يمشي مهما أحب المشي، وكذلك المريض العاجز لا يقدر مهما اشتاقت نفسه إلى السير في الأرض، فلابد لحركة العاقل من أن تتوافر فيها القدرة والإرادة معاً.

ب- أركان العمل:

نظرنا إلى الموضوع من ناحية البدء، وهو أن العمل يتولد من القدرة والإرادة، ولكن هل يوجد العمل ضرورة إذا وجدت القدرة والإرادة؟ .

إن البحث في هذا الموضوع يوصل إلى أن العمل لابد أن يوجد ضرورة إن وجدت القدرة والإرادة، ويكون على تناسب يوافق نسبتهما ارتفاعاً وانخفاضاً وانعداماً، فإن ارتفعت القدرة والإرادة إلى درجة الكمال، كان العمل في درجة الكمال؛ وإذا انخفضتا انخفض العمل؛ وإذا انخفض أحدهما أو انعدم، انخفض العمل بدوره أو انعدم. وهنا أشعر بضرورة التأكيد على فهم هذا الموضوع، وأن لا نمر فيه بتسليم غير مبالين؛ كأن هذا تطويلٌ لا لزوم له، أو فلسفة لا داعي لها، فلهذا قد يقول القارئ لمَ الإلحاح في هذا الموضوع؟

أجل.. إني ألحّ على نقطة في هذا الموضوع، لأنني أريد أن أبني عليها أشياء هامة، وكيف لا يكون هاماً وأنا أريد أن أبحث من خلاله مشكلة العالم الإسلامي، بل ومشكلة العالم أجمع؟

الأمر جديّ، وأجَدُّ ما فيه أننا ينبغي أن نعلم كيف تبدأ الأمور؟ وكيف تسير؟ بل علينا أن نعلم بدأ الخلق؟ وكيف بدأ خلق الإنسان العجيب المكرم صاحب الشأن من سلالة من ماء مهين؟ إنما بدؤه من ماء مهين، ولكن مصيره إما إلى احسن تقويم؟ وإما إلى اسفل سافلين.

إن مشكلة العالم الإسلامي، تبدأ بكل تواضع من قدرة وإرادة. وكما يبدأ الجنين من تلاقح الحوين والبويضة، كذلك العمل يتولد من تلاقح القدرة والإرادة، فلولا هما لما وجد الإنسان، ولولا هما لما وجد العمل الصالح وقد خلق الإنسان ليعمل صالحاً.. فما أحرانا أن نتعلم أركان العمل الصالح. فإن كان علينا أن ننظر من أي شيء خلقنا؟ ﴿فلينظر الإنسان مم خلق﴾ (سورة الطارق: الآية 5)، فإن علينا أن ننظر إلى هذا الذي يقرر مصيرنا - العل الحسن - وينقذنا من الهلاك إلى النجاة:

﴿تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً؟ ﴾ (سورة الملك: الآية 1،2).

علينا أن نفهم جيداً أركان العمل الصالح وإجادته، وأنه لابد لنا نعرف أولاً وقبل كل شيء أن العمل يتولد من القدرة والإرادة سواء أكان سيئاً أم حسناً، لأن الإرادة هي التي توجه العمل، وليست القدرة، وأن كانت الإرادة تستعين بالقدرة في تنفيذ قصدها، فكذلك تستعين الإرادة بالقدرة في توجيه العمل إلى الأحسن. ولابد لنا أن نحدق في هذه العملية.

هل يوجد العمل كلما وجدت القدرة والإرادة؟ نعم.. إذ لا يمكن تصور عمل من غير قدرة وإرادة، فلا عمل بدونهما، وبوجودهما لا يمكن أن يفقد العمل، وفي هذا يقول ابن تيمية: (الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر، ضرورة). الفتاوى - ج7 - ص 541.

وقبل أن نسأل ما القدرة؟ وما الإرادة؟ علينا أن نتصور جيداً أنه بغيرهما لا يمكن أن يتم أقل عمل، ولا يمن أن نتصور سعي الإنسان بغير هدف، كذلك لا يمكن أن نتصور سعياً بغير قدرة.

قيامك لإطفاء المصباح يتكوّن من قدرة وإرادة.. القدرة على أن تقوم وتمد يدك لتضغط على المفتاح، وإرادتك لإطفاء النور سواء كان ذلك لطلوع النهار أم لإرادتك النوم، أو التجربة أو اللعب. إذا تصورنا العمل في مستوى إطفاء المصباح، فانه يحتاج إلى إرادة وقدرة. فكيف نتصور العمل الذي نريد أن ننشئ به مجتمعاً على هدف معين بدونهما؟ !.

إن طبيعة العملين واحدة، وإن تفاوتا في الحجم، فكل واحد منهما يتكوّن من القدرة والإرادة. هنا هدف وهناك هدف، إطفاء المصباح أو إيقاده، إنشاء مجتمع أو هدمه، واليد تمتد حسب أمر العقل لإطفاء المصباح أو إيقاده، وتمتد حسب أمر العقل لبناء المجتمع أو هدمه.

وهنا أريد أن ألفت النظر إلى جانب في هذا المثل: إن الذي يمد يده ليطفئ المصباح أو يضيئه، قد لا يعرف أو لا يتذكر كيف وصل الإنسان إلى أن جعل المصباح بهذا المستوى، وقد لا يعرف كيف اكتشفت الكهرباء، وكيف يسعى أهل الفن إلى تحسين نوع المصابيح والمفاتيح؟ وقد لا يعرف ولا يخطر في باله كيف عاش الإنسان في كهفه قبل أن يعرف النار؟ وقد لا يعرف أنه بوجد الآن من البشر من لم يروا نور الكهرباء ولا مصباحه؟ كما لا يعرف الفرق بين الإنسانيين: الذي لا يزال في الكهف والذي يعيش الآن مع الكهرباء. نعم كان إنسان الكهف يمكن أن يتمتع بضوء المصباح، ولكن لم يكن يقدر أن يصنعه، وهذا هو الفرق بين المنتج والمستهلك.

كذلك قد لا يعرف الفرق بين المجتمع الذي يمنح الضمانات للأفراد الذين يعيشون فيه، وبين المجتمع الذي يترك أفراده لجهدهم الخاص، أو لا نعرف الفرق بين المجتمع الذي يكرم فيه المحسن، ويعاقب المسيء، والمجتمع الذي يَذِلُّ الناس فيه للمسيء ويعاقب المحسن.

وكما نحب أن يكون المصباح المضيء في منازلنا، نحب المجتمع الذي يرتفع فيه قدر الإنسان، ويتعلم فيه أداء واجباته. وكما أنه لا يمكن أن تتمتع بخدمات الكهرباء إلا إذا توفر المهندسون المختصون، كذلك لا يمكن أن نتمتع بحماية المجتمع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إلا إذا توفر خبراء ومهندسون يعرفون كيف ينشأ المجتمع ويؤدي وظيفته ويحافظ على بقائه ونموه.

وأريد هنا أن أبين مستويين من العمل يتولد كلاهما عن القدرة والإرادة. عمل في مستوى إطفاء مصباح، وعمل في مستوى إنشاء مجتمع، أو بتعبير آخر: عمل يتعلق بمستوى المادة (الآفاق)، وعمل يتعلق بالبشر (الأنفس). وللعمل في مستوى الأنفس مستويات أيضاً: عمل في مستوى الفرد كزيارة جار لجاره، وعمل في مستوى المجتمع كالتقاء مجتمع بمجتمع آخر.

ويمكن أن نلاحظ العمل المتصل بالأنفس من جانب آخر كأن نرى العلاقة بين الأفراد أرفع أخلاقياً من العلاقة بين الدول، فالعلاقة بين الأفراد لا تخضع لقوة العضلات أو المركز الاقتصادي، بينما علاقات الدول لا تزال أسيرة لهذه الاعتبارات، بحيث يصعب أن نرى من يشذ عن هذه القاعدة. هذه أعمال في مستويات مختلفة، ولكن وراء كل منها قدرة وإرادة تتناسبان مع الحجم والنوع، فإذا أردنا أن نؤثر في هذه الأعمال ونوجهها إلى الأحسن، فلابد لنا أن نزيد معرفتنا في القدرة والإرادة؛ وبناء على هذا يمكن أن نتابع القول: هل كلما وجدت القدرة والإرادة يوجد العمل؟ وهل لنا قدرة على صنع الإرادة والقدرة أم لا؟

يمكن القول: كلما وجدت القدرة والإرادة وجد العمل، ولا يمكن أن يظل الإنسان قاعداً مادام قد وجدت عنده الإرادة والقدرة، فهو لا يستقر مادام يرى هدفه ووسيلته. إن الأسلوب العلمي التجريبي يثبت هذه القاعدة، وقد لا أنجح كثيراً في هذه الأمثلة التي أعرضها، بل يمكن للقارئ أن يجد أمثلة أوضح، لأن كل أعمالنا خاضعة لها، حيث يتفاوت الناس في قدرتهم على اختيار المثل الأقرب والأوضح.

وسنرى أركان العمل من خلال عمل معين وهو أداء فريضة الحج:

إن الإنسان - بالنسبة لهذا العمل - لا يخرج عن أربعة أحوال:

1- إنسان لديه القدرة - وسائل السفر من الزاد والرحلة - ولكن لا إرادة عنده للذهاب إلى الحج، فهو لا يمكن أن يستخدم وسائله وقدراته لهذا العمل.

2- وآخر عنده الشوق والاحتراق والإرادة للذهاب، ولكن لا يملك ما يسافر به. وهذا أيضاً لا يتمكن من القيام بهذا العمل لأنه يفقد الوسائل.

3- وإنسان ثالث، ليست عنده القدرة وليست عنده إرادة الحج، بل لا يخطر في باله أن يذهب إلى الحج، وهذا من باب أولى أنه لا يؤدي هذه الفريضة.

4- والرابع متشوق للذهاب إلى الحج (توفرت الإرادة لديه) ويملك الزاد والوسيلة (عنده قدرة)، فهذا لا يمكن منعه من الحج إلا إذا سلب منه أحدهما أو كلاهما. وكذلك الأول والثاني والثالث لا يمكن أن نجعلهم يحجون إلا إذا أوجدنا عنده الأول إرادة، وعند الثاني قدرة، وعند الثالث إرادة وقدرة. ود يتفاوت الناس - تفاوتاً لا يمكن أن يدخل تحت الحصر والانضباط - في درجة ما عندهم من القدرات والإيرادات وما ينقصهم منها، ومع أنه لا يمكن ضبط التفاوت فإننا نستطيع القول: إذا وجدت القدرة والإرادة وجد العمل بحسبهما، وإلا لما احتاج الثلاثة الذين خُلِّفوا أن يتوب الله عليهم فقد جاءهم النقص من الإرادة، إذ لا يؤاخذ المؤمن على العجز الحقيقي عن القدرة إذا وجدت الإرادة - وهذا بحث آخر - وقول الله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين﴾ (سورة آل عمران: الآية 97). يعني أن الإنسان ما دام مؤمناً فينبغي أن تكون له الإرادة، فإذا فقد الإرادة أصلاً فقد كفر، ومن فَقَدَ السبل فَقَدَ أحد ركني العمل، وعمل هذا الإنسان لا يتحقق، ولكن يعذر وهذا أمر آخر أيضاً.

من المثال الذي سقناه آنفاً، علمنا أن العمل يوجد إذا وجدت الإرادة والقدرة، ويفقد العمل إذا فقدتا أهل فقدت إحداها. والمسألة رباعية، واحدة إيجابية وثلاثة سلبية، فعند ما يوجد عمل يعني أنه وجدت قدرة وإرادة، وإن فقد العمل فإحداهما أو كلتاهما مفقودة، وعند هذه النقطة يجب أن نبحث عن الشيء المفقود لنوجد العمل الحسن.