رياح التغيير

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

تحوي الصفحة النص الكامل للكتاب، وهي صفحة لا تزال قيد التحرير

المجلس السادس

القرآن والعلم

الاثنين: 26 ذو القعدة 1413 هـ / 17 أيار 1993م


الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.

تمهيد:

لقد شرحنا في مجلس سابق ؛ الفرق بين كل من الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضّالين، وقلنا إن الضّالين هم الأكثرية (بَلْ أَكْثرُهُمْ لا يَعْلمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرضُونَ) ] الأنبياء: 21/24 [، وما لم يصل العلم إلى الضّالين ؛ فسيتحول بعضهم إلى مغضوب عليهم، لأن الجهل يؤدي إلى العداء والإنكار، والمؤمن إن لم يكن نموذجاً حسناً للآخرين ؛ فسيكون حاجزاً لهم عن الدخول في الإيمان، من هنا كان دعاء إبراهيم والذين معه (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ] الممتحنة: 60/5 [.

إنَّ كل ما قررناه بشأن معاني الآيات الكريمة ؛ لا يعدو أن يكون فهماً أدت إليه معلوماتنا، ولا نقول إنه تفسير نهائي أبدي، من هنا كان كبار المفسرين من السلف يقولون بعد عرضهم للآراء العديدة في الموضوع: والله أعلم بمراده..

وعلي كرَّم الله وجهه حين سُئل: هل ترك لكم رسول الله  شيئاً خصَّكم به من دون الناس؟ قال: « اللهم لا، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً من عباده في كتابه »(1). فالعبد المؤمن الذي يعرف آيات الآفاق والأنفس، ويَشهد على الناس، وينظر في كتاب الله ؛ يستطيع أن يفهم في كتاب الله ما يفهمه السابقون، والمستقبل سوف يكشف عن معانٍ عظيمة، قال تعالى: (فَانْظُرُوا) ] العنكبوت: 29/20 [ إلى الماضي والحاضر، و (انْتَظِرُوا) ] الأنعام: 6/158 [ المستقبل، و (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ] ص: 38/88 [، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ] التوبة: 9/32 [.

العلم سبيل الرشاد:

لا زال أكثر المسلمين يظنون أنهم إذا امتلكوا القوة ؛ فيجب عليهم أن يقتلوا المخالفين لهم، وهذا مغروس في أعماقهم جميعاً: المتعلمين منهم والعوام. وحين قلت: إن الجهاد لم يشرع لاستئصال الكفر، لأن الكافر - وإن انتصرت عليه - له الحق في أن يبقى كافراً.. حين قلت هذا تعجب الناس كثيراً، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عمق الجهل لديهم، وشدة بعدهم عن المعرفة. والخوارج قديماً كانوا على هذه الشاكلة، كانوا يصلُّون كثيراً، ويصومون كثيراً، ويخافون الله خوفاً شديداً ؛ لكنهم كانوا جاهلين، فلم تغن عنهم صلاتهم ولا صيامهم شيئاً، ولم تمنعهم من الوقوع في الأخطاء الجسيمة، فقتلوا علي بن أبي طالب، وسفكوا دماءً حراماً، وكذلك تفعل الأمم الجاهلة بالراشدين من خلفائها.

وما لم تكن الأمة راشدة ؛ فلن تستفيد من الخليفة الراشد فيها، لذلك كانت الخطوة الأولى هي تربية الأمة وتعليمها حتى لا يبقى فيها أحداٌ يجهل القرآن والإسلام، فلنبدأ من المسجد، ولنعلم آيات الله، فقد قال : « ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم الرحمة، وغشيتهم السكينة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده » (1)، فلنتدارس القرآن، ولنتعلم معانيه، ولنقل: هذا فهمنا والله اعلم، وإذا جاء فهم أفضل فسنترك فهمنا ونتبعه (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) ] القصص: 28/49 [.

الود بعد العداء:

يقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر لنا إبراهيم والذين آمنوا معه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ، وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ] الممتحنة: 60/6 [، إن إبراهيم والذين اتَّبعوه قدوة لكم إن كنتم تريدون الله واليوم الآخر، ومن يُعرض عن طريقهم فإن الله هو الغني الحميد.

ثم يقول: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ] الممتحنة: 60/7 [، لقد نزلت هذه الآية عند فتح مكة، يوم لم تكن الجزيرة العربية تدين بالإسلام، وقد بشَّر الله فيها المؤمنين بأن المستقبل يحمل في طياته تغيراً في العلاقة بينكم وبين أعدائكم الحاليين، لتصير علاقتهم بهم علاقة مودَّة، يذكر الله هذا الأمر في وقت لا يتصور فيه أحد أن يتحول هؤلاء الناس من أعداء إلى أحباب.

ونحن اليوم نظن أن الله لن يغير علاقتنا بأعدائنا، وأنه لن يجعل بيننا وبينهم مودة، لكننا لو بذلنا جهودنا في هذا السبيل، وصرنا في مستوى هذا التحول ؛ فسيتحول الآخرون من العداوة إلى الحب، وسينتشر هذا الدين مرَّةً أخرى في هذا العالم الذي باتَ مشتاقاً إليه، وإلى إنسانيته وعدالته، ولن ندرك حاجة العالم إلى هذا الدين إلا إذا درسنا أحوال المجتمعات المختلفة وفلسفاتها، وشاهدنا تلك العبثية التي انتشرت في العالم، وذاك الإفناء والقتل للمخالف في الدين والمذهب، كما يحدث في البوسنة، إننا لا نتصور أن يصير بين هؤلاء أية علاقة ود، وما ذلك إلا لتقصيرنا وعدم فهمنا لكتاب الله، فكتاب الله يحدد بوضوح الصفات التي إن وجدت في شخص ؛ فلا حرج علينا أن نبادله الودّ فيقول: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ] الممتحنة: 60/8 [، فهو هنا لم يذكر نوع دينهم،ولم يشترط أن يكونوا متدينين غير ملحدين، لكنه قال: يشترط فيهم ؛ أن لا يُكرهوا أحداً على معتقدهم، وأن لا يُخرجوا أحداً من وطنه بغير ذنب، والإذن بالقتال إنما جاء للذين ظُلموا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) ] الحج: 22/39-41 [.

أما الذي لا يجوز لنا أن نبادله الود فيقول عنه الله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) ] الممتحنة: 60/9 [، فإذا مارس أحد الإكراه في الدين، والإخراج من الديار، فإنه يُقاتل سواء أكان كافراً أم مسلماً، ومن لم يمارس هذين الأمرين، وقَبِل العيش بصدق وأمان في المجتمع، يشاركه أفراحه وأتراحه، فليس لنا عليه من سلطان.

العلم بين البداوة والحضارة:

لقد أنتجت خلال تجاربي الحياتية، وقراءاتي اليومية ؛ فهماً يجمع آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس في هذا العصر، وإنه ليسرني أن تفهموا ما أقول، حتى وإن رفضتم أفكاري وأقوالي. افهموني ثم ارفضوني، لكن المشكلة هي الرفض قبل الفهم.

إن لكل إنسان صفات حسنة، وصفات سيئة، وقد ذكر الله في القرآن الأعراب فبيَّن أن لهم صفات سيئة فقال: (الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً، وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ) ] التوبة: 9/97 [، وقال: (وَمِنْ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ] الممتحنة: 9/99 [، وقد نهى رسول الله  الإنسان أن يتبدا، أي أن يعيش في البادية دون الحضر، لأن حياة التنقل لا تساعد على اكتساب العلوم والمعارف، ولا تزال الدول التي ينتشر فيها البدو تعاني جداً من أجل إيصال العلم إليهم.

إن هذا النهي من رسول الله  عن العيش في البادية ؛ يدلُّ على أهمية العلم والتعليم، وقد سمي عصر ما قبل الإسلام بالعصر الجاهلي لأنه لم يكن فيه علم، لذلك فالأعراب أجدر أن لا يعرفوا حدود ما أنزل الله، فهم يعيشون في وضع يجعلهم أشداء غلاظاً، ومع ذلك فإن لهم أخلاقاً كريمة، كالشهامة والنجدة والكرم وإغاثة الملهوف، وحتى الصعاليك كانوا يسرقون ليطعموا الضعفاء، ورسول الله  إنما بُعث ليتم مكارم الأخلاق. ومن هنا كان تعليم القرآن فريضة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاعِنُونَ) ] البقرة: 2/159 [، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَاَلاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ) ] الأحزاب: 33/39 [.

نشر العلم أولاً:

إننا بحاجة إلى تبليغ آيات الله، وإلى تعليم القرآن ؛ لأن كثيراً من الناس أصبحوا لا يميزون بين الحديث والحكمة والآية القرآنية، وقد تلوت مرَّة قوله تعالى: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) ] النمل: 27/34[، فسألني بعض الناس: هل هذا قرآن؟!!.. (وَقَالَ الرَّسُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) ] الفرقان: 25/30[، ورسول الله  يقول: « أشراف أمتي حملة القرآن »(1)، ويقول: « خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه »(2).

إذن فالخطوة الأهم هي أنه علينا أن نقوم بإعادة تعليم القرآن، وأن نمسح بتعليمه الأمة جميعاً ؛ نساءً ورجالاً، حتى يفهموه، فأنا لا أطلب من جميع الناس أن يصيروا فلاسفة يعلمون ما حدث في الصين، وما حدث في اليابان أو الهند، ولكن على الجميع أن يَعلموا القرآن، وأن يَفهموه وفق ما فهمه العلماء.

لقد كان رسول الله  يقدر العلم، ومن تقديريه للعلم أنه كان يزوج المسلم على ما معه من القرآن، أي على أن يُعلَّم زوجته ما يعلم من القرآن، وفي القرآن قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) ] آل عمران: 3/79 [.

وقد ورد في الحديث أن رسول الله  صلى مرةً ثم التفت وقال: « أيكم يودُّ أن يذهب إلى بطحاء ويأتي بناقة عشراء من غير مأثم ولا قطيعة رحم؟ »، قالوا: كلنا يودُّ ذلك، قال: « لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يُعلَّم آية من كتاب الله خيرٌ له من ناقة عشراء، ولأن يغدو إلى المسجد فيعلم أو يعلَّم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين عشراوين »(1).

مقارنة النص بالواقع:

إذا تعلَّم المرء عدَّة سُور ؛ يسهل عليه تعلُّم باقي السُّوَر، ومهمة من يقرأ القرآن من أوَّله إلى آخره أن يتتبع موضوعاً معيناً في كل الآيات، وأن يقارن القرآن بالواقع ليرى كيف يتحقق وعد الله ووعيده، فعندما يذكر الله عاداً وثمود وفرعون يقول: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) ] المرسلات: 77/18 [، وهذا يعني أنكم سترون بأعينكم ما نفعل بالظالمين، (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ] الفجر: 89/6-14 [.

إن سقوط الاتحاد السوفيتي دليل حيٌّ على هذه الآيات، وسقوطه أعمق من سقوط عادٍ وثمود، فهو يملك من الصواريخ والرؤوس النووية ما يدمر الكرة الأرض\ية عدة مرات، والاتحاد السوفييتي لم يهلك بالصاعقة ولا بالزلزال ولا بعدوان خارجي ؛ بل تحلَّل داخلياً، فهلك هلاكاً مريعاً، ألم ترَ كيف فعل ربُّك بالاتحاد السوفييتي؟! هذا الهلاك ؛ من آيات الله في الآفاق والأنفس، فالذين يجبرون الناس على الكفر، وينفون المخالف في الفكر إلى سيبيريا ؛ هذه عاقبتهم، وهذا مصيرهم.

وقد نبَّه الرئيس الأمريكي كلينتن شعبه إلى أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط لأن خارجياً غزاه، لكنه تحلَّل داخلياً فسقط، وقال لهم: إن الولايات المتحدة أيضاً إذا تحلَّل شعبها فستسقط.

وأنا أقول: ونحن المسلمين أيضاً، لن نرث أرضهم وحضارتهم لمجرد أننا مسلمين بالاسم ؛ بل سيسلط الله علينا من يسومنا سوء العذاب ويستعمرنا، إلى أن نطبق أوامر الله ؛ في النظر، والشهادة، والسَّير في الأرض، وتحصيل العلوم.

تبليغ رسالة الإسلام:

لقد تغير العالم، وتبدلت فيه أساليب المواجهة بين الناس، لكن المسلمين لا زالوا يظنون أن السلاح هو الذي سوف ينصرهم، ولذلك فهم يشترون الأسلحة ويحاولون صنع القنبلة النووية، وكأنهم يروا كيف سقط الاتحاد السوفييتي، تلك القوة العظمى، وكيف يفككون الآن ترسانته النووية.

وحتى الذين يملكون القنبلة النووية، لا يستطيعون استخدامها، لأنها لن تدمر طرفاً واحداً بل ستدمر جميع الأطراف.

والإسلام، الذي يحلم البعض بنشره عن طريق القوم وتجهيز الجيوش ؛ ينتشر بقوته الذاتية، ويدخل فيه الناس من الشرق والغرب بالرغم من ضعف أهله، وبالرغم من أنهم فتنة للذين كفروا ؛ يحجبونهم عن هذا الدين وينفِّرونهم منه.

لقد دخل في الإسلام عدد من كبار المفكرين والعلماء كروجيه غارودي، فكيف لو كنا نتحقق بالإسلام، ونجعله واقعاً يتحرك في الأرض.

إن القرآن رغم مرور أربعة عشر قرناً من نزوله، والمسلمون معرضون عنه أيما إعراض (وَقَالَ الرَّسُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) ] الفرقان: 25/30 [.

إن علينا أن نعود إلى آيات الكتاب الكريم، وان نبدل أوقاتاً طويلة حتى نفهم معنى آيات الله في الآفاق والأنفس، لنرى كيف يمكن تبليغ رسالة الإسلام في هذا العصر، فرسول الله  لم يكن يملك أجهزة اتصالات متطورة ؛ كالفاكس والفيديو والتلفزيون والأقمار الصناعية، هذه الأجهزة التي نملكها ونستطيع بواسطتها أن نبلغ رسالة الإسلام إلى العالم كلِّه.

أمراض القلب وأمراض الجسد:

فيما مضى من الزمان ؛ كان الوباء يحصد ملايين الناس، ومرت القرون وعانى الناس من ويلات الأمراض، إلى أن اكتشف الإنسان علاجاً يمكنه أن يقي الناس من الأوبئة والأمراض، فتعافت الأجسام، وطالت الأعمار.

لكن القرآن نبَّه ومنذ القديم إلى نوع آخر من الأمراض، وهو مرض القلب، ولم يكن يقصد به: الجلطة القلبية، أو السكتة القلبية، أو تضخم الشرايين، بل كان يقصد أمراض الحقد والكراهية والحسد والنفاق والظلم، وكلها من الجهل، هذا ما قصده حين قال: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً) ] البقرة: 2/10 [.

إن أمراض القلب هذه ؛ لم تحظَ بما حظيت به أمراض الجسد من الرعاية والاهتمام حتى الآن، والسبيل الأمثل للتخلص منها هو نشر العلم والمعرفة، وتعليم القرآن، فالإنسان لا يصبح مجرماً، أو مُدمن مخدرات إلا إذا كان جاهلاً، فبالعلم نزكي أنفسنا، وبالجهل ندسيها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ] الشمس: 91/9-10 [، فالإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ؛ يمكن أن يردَّ إلى أسفل سافلين، والفساد الذي يتلبس فيه الشباب اليوم ؛ سببه أنهم بعيدون عن المسجد، وبعيدون عن العلم.

إننا لم نستخدم المسجد الاستخدام الأمثل، بل جعلناه مصدراً للفتنة، ومأوى للخارجين على القانون، وكان بإمكاننا أن ندخل من خلاله إلى قلوب الناس، وأن نعلمهم أمور دينهم ودنياهم.

القرآن وآيات الآفاق والأنفس:

الجهل هو الذي يدفع الكثير من المسلمين إلى الاعتقاد بجواز إكراه الناس على الإيمان، وجهلُهم بآيات الله في الآفاق والأنفس ؛ هو الذي جعلهم في مؤخرة الأمم، وإذا أردنا أن ندخل - كمسلمين - العصر ؛ فعلينا أن نتجاوز أفكار السابقين، وألا نقف عند فهمهم للنصوص ؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون آيات الله في الآفاق والأنفس، ولم يستطيعوا فهم قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ] العنكبوت: 29/20 [، لذلك لم يسر أحدٌ من المسلمين لينظر كيف بدأ الخلق، أما الآن، ومع تطور آيات الآفاق، وتأثير ذلك على آيات الأنفس، فقد أصبح لهذه الآية مدلولات كبيرة، فكما كان البدوي ينظر إلى فم الشاة فيعرف كم عمرها، كذلك العالم المختص اليوم ينظر إلى الجبل وإلى الحجر وإلى الشجرة، فتحدثه بأخبارها، وتنبئه بتاريخها.

ولقد زلزلت الأرض زلزالها ؛ بإعلان (كوبرنيوكس) أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، وتغيرت مفاهيم الناس التي ورثوها من آلاف السنين، وتحقق قول الله تعالى: (وجَعَلْنَا الشَّمسَ عليه دَلِيلاً) ] الفرقان: 25/45 [.

التغيير بالعلم وليس بالثورة:

إننا لا نزال نظن ن خلاصنا لا يكون إلا بالثورة، ولكنني أقول: إنه لا خلاص لنا إلا بالعلم.

لقد كنت في القاهرة حين قامت ثورة عبد الناصر ضد الملك فاروق، كان ذلك في 22 حزيران (يونيو) من عام 1952، في ذلك اليوم كنت أقرأ في دار الكتب المصرية، وأثناء ذلك كان الموظفون يتهامسون فيما بينهم ويقولون: قامت ثورة ضد الملك.. وكذا …، وأنا أدخل وأخرج وأقول في نفسي: كم من الكتب هنا؟ أنا بحاجة إليها لأقرأها لنحل مشكلاتنا …

كنت أشعر تماماً أن العلم هو الذي يمكننا من تغيير واقعنا وحلِّ مشكلاتنا، أما الناس فقد فرحوا بقدوم عبد الناصر، وتفاءلوا به كثيراً، وانتظروا منه أن يغيِّر كل شيء في حياتهم، لكنه جاء وذهب ولم يستطع تغيير شيء ؛ بل نصب المشانق، وقتل الكثيرين، وخاض في اليمن حرباً لا طائل منها، وتراجعت بعد ذلك دعوات القومية العربية، والاشتراكية أيضاً.

إن هذا الأسلوب لم ولن يحقق شيئاً، لكن الأسلوب القرآني الذي يدعو إلى نشر العلم والمعرفة هو الأجدر بأن يتبع، وهو الأبقى والأنفع، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) ] آل عمران: 3/187 [، فالله - سبحانه وتعالى - أخذ منا الميثاق والعهد أن نبيِّن للناس وأن نعلمهم، ولكن كيف نبيِّن للناس وكيف نعلمهم ؛ ونحن لم نتبيَّن ولم نتعلَّم بعد؟!! من هنا كان اهتمام الإسلام بالعلم، فبدأت رسالته بكلمته (اقْرَأْ) ] العلق: 96/1 [، فبالعلم فقط نتبيَّن آيات الله في الآفاق والأنفس، وبالعلم نكتشف قوانين الكون، وقوانين الحياة التي تتحقق في كل أمة وفي كل مجتمع..

الإنسان ورحلة التسخير:

مرَّ على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه يستخدم الحيوان، وكان يعتمد إذ ذّاك على عضلاته فقط، وذلك قبل عشرة آلاف عام، ثم استأنس الحيوان، فركب الفرس وغيره، ثم سخَّر الطاقة، وصنع السيارة والطائرة والصاروخ، وأصبح النفط مصدراً أساسياً للطاقة، فاشتد التنافس للحصول عليه، ومع ازدياد الحاجة إلى الطاقة ؛ أخذ الناس يبحثون عن البدائل الممكنة للبترول، فاكتشفوا أن بإمكانهم أن يحولوا المادة إلى طاقة نظيفة، وإذا تمَّ لهم ذلك ؛ فستتغير أشياء كثيرة، حتى قيم الناس فإنها ستتغير، ولعل الناس - بعد استعمال هذه الطاقة، لا يتسابقون لجمع المال..

وتسخير الكون للإنسان لا زال في بدايته (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ] الجاثية: 45/13 [، والسُّخرة معناها: الخدمة المجانية، وسيأتي اليوم الذي نستطيع فيه تسخير كل ما في الكون لصالح الإنسان..

الإسلام وصناعة الإنسان:

إن صناعة رجال أحرار كبلال الذي كان يُعَذَّب لأجل إيمانه فيقول أحد أحد، صناعة مثل هذا الرجل ليست معجزة، وبإمكاننا أن نخرِّج الملايين من أمثال بلال، وحتى من أبسط الناس، وإذا كنا لا نفعل هذا الآن، فلأننا لم نمارس سنة رسول الله  الذي قال فيه الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ] الأحزاب: 33/21 [.

فرسول الله  لم يكن يتخذ من المال مقياساً يقيس به حضارة الإنسان، وقد قال لأصحابه الذين لا يجدون ما يأكلون: « والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم »(1).

أما العالم اليوم ؛ فإنه يقيس التقدم بمقدار دخل الفرد، وبمقدار استهلاكه، وهذا مخالف للقرآن الذي يقول: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ ولا أَولادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) ] سبأ: 34/37 [، وقد عاب القرآن على الذين يقيسون الناس بمقياس المال فقال: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً، وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِاْلأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ، لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) ] القصص: 28/79-82 [، وليس هذا لإبعاد الناس عن الدنيا وامتلاكها، بل هو كما يقول إقبال:

وترى الدنيا انطوت في كفه ليس منها ذرة في قلبه

وفي الحديث أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله  فرآه ينام على حصير ق أثَّر في جنبه فقال: يا رسول الله أتنام على الحصير وكسرى وقيصر ينامون على الدمقس والحرير؟ فقال الرسول : « أفي شكٍّ أنت يا بن الخطَّاب، هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الآخرة »(1).

عمر هذا الذي سمع هذه المقالة من رسول الله، لم يفهم منها أن يترك الدنيا لهم، ولكنه فنتح البلاد، وانتزع ملك كسرى وقيصر، وصارت بلادهم تحت حكم العدل، فلم ينم على الدمقس والحرير ؛ بل ظلَّ ثوبه مرقَّعاً، حتى إنه حين جاءته كنوز كسرى وقيصر بكى وقال: عصوا الله فانتزع منهم الملك، وإذا عصينا سينتزع منا، إنه يفهم سنن الكون وحركة التاريخ، وإذا كان عمر نموذجاً حصل في التاريخ مرّة، فيمكن أن يتكرر مراتٍ أخرى، وقانون الله ستحقق في كل زمان ومكان، والناس الذين يقدمون أفكاراً صحيحة، ويدعون إليها بشكل صحيح سيجدون نتائج طيبة، وسيستجيب الناس لهم (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًاً) ] الإسراء: 17/81 [، لم يقل جاء الحق وقَتل الباطل ؛ بل قال زهق الباطل، أي مات لوحده، وأما الذين يعيشون حياة الذُّلّ مهانين مسحوقين ؛ فما ذلك إلا لبعدهم عن الحق.

ولا ينفعنا أن نجأر إلى الله بالدعاء على أعدائنا ؛ بل علينا أن نتعلم سنن الله وآياته في الآفاق والأنفس، لنعرف الحق فيحققه الله على يدنا (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، ولا أدلَّ على ذلك من نهي الله لنبيه أن يدعوا على أعدائه، وذلك في الحادثة التي قُتل فيها أربعون صحابياً على يد قبائل رعل وذكوان ؛ فغضب رسول الله ، وظل يقنت في الفجر ويدعو على رعل وذكوان بالهلاك، إلى أن أنزل الله قوله(1) (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) ] آل عمران: 3/128 [، فواجب الرسول هو أن يدعو ويستقيم، أما تحويل القلوب إلى الإيمان أو إنزال العقاب والهلاك ؛ فإنما هو شأن من شؤون الله لا يشاركه فيه أحد.

ربط القرآن بالعلم:

علينا أن نُسخِّر الكون، وأن نوظَّفَ القرآن والأحاديث توظيفاً ينقل المسلم من ظلام الجهل إلى نور العلم والسننية، فحديث جبريل الذي فيه يسأل رسول الله  عن الإيمان فيجيب: « أن تؤمن بالله، وملائكته … »(1)، معنى الإيمان بالله: إدراك سننه، وليس معناه التسليم دون علم.

لقد حاولت أن أوظف قصة إبراهيم في سورة الممتحنة توظيفاً جديداً، وفي المستقبل يجب أن نوظِّف أسماء الله الحسنى، بأن ننقل المسلم من مجرد ترديد الاسم إلى العيش مع مضمون الاسم ومعناه العميق، ليربطه بالكون والحياة، فالله تعالى أمرنا أن نجعل من التوحيد علماً فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) ] محمد: 47/19 [.

إننا لا نستطيع أن نرى الله، لكن يمكننا أن نرى مخلوقاته، ولذلك لا نستطيع أن نعرف الله إلا من خلال مخلوقاته، فهذا الدماغ العظيم خلقه الله تعالى، فماذا خلق الذين من دونه:

وفي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ الوَاحِدُ

والإنسان الذي وصل إلى عصر العلم ؛ لم يعد يحتاج إلى نبي جديد. والأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً ؛ إنَّما ورَّثوا العلم.

الجهاد بين شريعة الإسلام وشريعة الغاب:

إن للجهاد شروطاً، وغن علينا أن نؤكد عليها دائماً، لأن الرسول  الذي قال: « يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه وحامله وراميه »(1)، هو الذي قال في مكان آخر: « اكسر قوسك واقطع وتره، واضرب سيفك بالحرَّة »(2).

فإذا رفعنا السلاح بدون تحديد للشروط، فإننا سنتحول من الشريعة الإنسانية المجتمعية التي تقوم على القانون، إلى شريعة الغاب والطغيان.

وإذا أردنا أن نطبق الجهاد الإسلامي ؛ فعلينا أن نتبين شروطه من خلال القرآن والسنة وسيرة الرسول  كي يكون جهادنا في سبيل الله حقّاً، وقد قال محمد إقبال:

مَنْ لِغَيْرِ اللهِ سَلَّ المُغْمَدَا سَيْفُهُ فِي صَدْرِهِ قَدْ أُغْمِدَا

ورسول الله  قال في حجّة الوداع: « لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض »(1).

إشكالات تحلها المعرفة:

إننا نستطيع أن نبين أموراً لم يستطع السابقون تبيينها، وسيستطيع الذين يأتون من بعدنا أن يبينوا من المعاني ما نعجز عن فهمه نحن الآن.

ولن تحل تلك الاشكالات التي تثار هنا وهناك في العالم الإسلامي ؛ إلا بالرجوع إلى الواقع، وإدراك علوم الآفاق والأنفس، فقديماً قام نزاع بين بعض المسلمين وبين المعتزلة حول موضوع رؤية الله عز وجل، ورسول الله  حين سُئل هل رأيت ربك؟ قال: « نور أنى أراه »(2)، فتنازع الفريقان هل يُرى الله أم لا يُرى؟

أنا أعتقد أن هذا الخلاف ليس هاماً، لأننا حين نرى آيات الله في الآفاق والأنفس ؛ فسنعرف عظمة الله، رأيناه أم لم نره.

والناس الذين يتقاتلون في سبيل الحصول على الطاقة، حين يكتشفون أن البترول ما هو إلا نتيجة تأثير الشمس، الذي حول الكائنات العضوية إلى هذه المادة، وينظرون بعد ذلك إلى الكمية الضئيلة التي ترسلها الشمس إلى الأرض أمام الكمية التي تسقط في باقي أرجاء المجموعة الشمسية، سيجدون أن نزاعهم على هذه الحفنة من الطاقة نزاع سخيف، إذ إن إمكانيات الحصول على الطاقة إمكانيات هائلة، يستطيع الإنسان أن يسخرها في المستقبل، كما سخرنا في عصرنا أشياء لم يكن بإمكان السابقين تصورها …

والحمد لله ربِّ العالمين


المجلس السابع

الإسلام وقضية المرأة

الاثنين: 3 ذو الحجة 1413 هـ / 24 أيار 1993م

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.

تمهيد:

بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة؛ عن مشكلات الدعوة وعن علاقة المسلمين بغيرهم، انتقل إلى الحديث عن مشكلة تسود الأوساط الاجتماعية جميعها في ذلك الوقت، وهي مشكلة المرأة، ومشكلة المفاضلة والتمييز بينها وبين الرجل.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا. ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أَولادَهُنَّ، ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) ] الممتحنة: 60/10-13 [.

مكانة المرأة في العصور القديمة:

مشكلة المرأة في هذا العصر غدت من المشكلات الهامة ؛ لأن التغيرات التي حدثت في العالم أثَّرت في هذا الموضوع، فقد انتقل الإنسان من حياة البداوة إلى عصر الزراعة، ثم دخل مرحلة الصناعة، والآن يدخل عالم المعلومات.

ففي عصر الزراعة كان دور المرأة دوراً ثانوياً، وصحيح أن الحياة لا تستمر بدون المرأة ؛ لكن مكانتها كانت متأخرة عن الرجل. والإسلام، في بداية دعوته، أعطى المرأة مكانة مساوية لمكانة الرجل، وقد قال عمر في هذا: « لم نكن نعدُّ النساءَ شيئاً حتى أنزل الله فيهنَّ ما انزل وأعطاهنَّ ما أعطى »(1).

إن عطاء المرأة في العصور القديمة هذا الدور المتأخر أمر طبيعي ؛ لأن الأمر في دور البداوة وفي دور الزراعة والحراثة واستئناس الحيوان، كان راجعاً إلى القدرات العضلية ؛ التي كان يتميز بها الرجل عن المرأة، وخاصة حينما كان الأمر يعتمد على الحرب، ومعلوم أن قدرة النساء في الحرب لا توازي قدرة الرجال، ودورها لا يتعدى الأمور الثقافية والأيديولوجية.

المرأة بين الجاهلية القديمة والجاهلية الحديثة:

الإسلام وإن جاء - كما يقول محمد إقبال - في عصر ما قبل العلم، إلا أنه بَشَّر بعَصرِ العلم، وكذلك فهو - أي الإسلام - وإن جاء في عصرٍ لا قيمة فيه للمرأة ؛ إلا أنه جاء بنقلة كبيرة في موضوع المرأة.

وموضوع المرأة يتعلق بعادات اجتماعية كثيرة كانت تسود في الجزيرة العربية ؛ كالعار، والسبي. والقرآن ذكر لنا حال الذي يبشَّر بالأُنثى فقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) ] النحل: 16/58 [، كانوا يتشاءمون من الأنثى، وقد نقل عنهم الكثير من الأقوال والأشعار التي تدل على استيائهم، والقرآن سجَّل هذا بشكل واضح وفاضح (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ] النحل: 16/58-59 [.

وإذا كان هذا حال الجاهلين ؛ فنحن أيضاً إذا دخلنا إلى أعماق القلوب اليوم فسنشعر بمقدار الدونية التي ننظر بها إلى المرأة، فنحن إلى الآن لا نستطيع أن نستبشر بالمولود الأنثى كما نستبشر بالذكر. وما نتحدث به شيء، وما وقر في قلوبنا شيء آخر، وإزالة ما في قلوبنا في غاية الصعوبة بالرغم من أننا نقرأ كلام الله ونسمعه، وإذا قبلنا حكم الله ؛ قبلناه على مضض كما نقبل الموت الذي لا مفرَّ منه، وإلى الآن نتعالى على المرأة في أعماقنا، وبعضنا يشعر بأن نصف الميراث كثير على المرأة، وحتى المتدينون في كثير من الأحيان لا يعطونها شيئاً.

والجاهلي قديماً قال في المرأة: « والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرُّها سرقة »، إنها لا تستطيع ردَّ العدوان، وإذا أنفقت عليها شيئاً أعطته إلى أولادها الذين لا ينتسبون إليك لأنهم أبناء الأباعد، ومما قالوا:

بنونا بنو أبناءنا، وبناتُنا بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعد

والمرأة التي لا تلد الذكور كان يهجرها زوجها أو يتزوج عليها.

ربما يكون هذا متناسباً مع ما كانت عليه المرأة التي لا تشارك في الحروب، ولا تساعدها عضلاتها على مجاراة الرجل في أعماله، أما اليوم فقد اختلف الأمر، لذلك فموضوع المرأة في هذا العصر من المواضيع الهامَّة، والتي ينبغي أن نجد حلولاً إسلامية لها.

المرأة في عصر المعلومات:

وفي مجال التعليم كانت المرأة في الدرجة الثانية، ولا تزال نسبة أساتذة الجامعات من النساء نسبة بسيطة جداً، بالرغم من أنه قد مرَّ أكثر من سبعين عاماً على تأسيس الجامعات في بلادنا، ولعل المستقبل يحمل معه تقدماً للمرأة في موضوع العلم والمعرفة ؛ ففي الدراسات العليا الآن نجد أن النساء لهن حظ أوفر من الرجال، وهذا سيؤدي إلى مشاركة أكبر لهنَّ في صناعة المجتمع، وسيقل العنف في العالم ؛ لأن العنف كان مرتبطاً بالرجال.

لقد استُغلت المرأة - في عصر الصناعة - في العمل أبشع استغلال، أما الآن - مع عصر المعلومات - فقد تغير الوضع، فالولادات التي كانت تشغل معظم وقت المرأة قلَّت، وفي المستقبل ربَّما تقلُّ أكثر، إذ إن تزايد السكان الآن يسبب مشاكل عديدة في بلاد كالصين التي حددت النسل، ولم تسمح بأكثر من ولادة واحدة أو ولادتين أو ثلاثة، وكثرة العدد لا تغني عن النوعية، ورسول الله  قال: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها »، فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: « بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل … »(1). وأظن أن رسول الله  لن يفرح بالغثاء الكثير، وإذا كنا نذكر حديث: « تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة »(2)، فيجب أن ندعوا إلى زيادة في الثقافة والعمل! ليرتفع مستوانا، فلا نكون غثاءً كغثاء السيل.

المرأة في زمن رسول الله :

ثقافتنا الموروثة لا تحترم المرأة ولا تعدل معها، وتغلب عليها المفاهيم الجاهلية، والخطأ منها اكبر من خطأ الرجل في نظر المجتمع، وإن كان الله ساوى بينهما في الجزاء.

إذن، مشكلة المرأة ليست متعلقة بالنصوص، وإنما متعلقة بالواقع الاجتماعي، وبمستوى العلم والمعرفة في المجتمع (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ] الزمر: 39/9 [.

فالمرأة حينما تبقى في البيت ؛ ليس لها إلا أن تغسل وتنظف وتخبز، ولا يكون لها رأي أو فكر، ولكن مع تطور الحياة، وزيادة وقت الفراغ، وانتشار التلفزيون والفيديو والصحافة، وتطور الطاقة، فإن هذا كله قد جعل للمرأة دوراً آخر متنامياً.

لقد ذكر القرآن من النساء امرأة عمران، قال تعالى: (إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ: عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ  فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً، وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً، قَالَ يَا مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا؟! قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ] آل عمران: 3/35-37 [.

لقد عايش الإسلام تلك الأجواء، التي تشد المرأة إلى الوراء، وأعطى دفعات قوية باتجاه التغيير نحو الأفضل، لكن رَفْع المستوى بشكل جذري لا يمكن أن يحدث في وقت قصير، وقد ذكر الله الذكور والإناث على حد سواء فقال: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ] الأحزاب: 33/35 [.

وأول الشهداء في الإسلام امرأة، وفي الحديث أن رسول الله  كان يقيل عند أم حَرامٍ، فاستيقظ مرَّةً وهو يضحك، قال: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: « ناسٌ من أُمَّتي عُرضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر. ملوكاً على الأسرة. أو: مثل الملوك على الأسرَّة، قال: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: « أنت من الأولين »(1).

إن مجرد قول أم حَرَام: ادع الله لي أن أكون منهم ؛ يدل على أن الأرضية الثقافية والرؤية النوعية التي كانت سائدة زمن رسول الله  كانت مختلفة كل الاختلاف عن رؤيتنا وثقافتنا هذه الأيام، ولعله لا يخطر في بال أحد منا أن يقول مثل هذا القول، أو أن يجيب بمثل جواب رسول الله ، والعجيب أن هذه المرأة ركبت البحر في زمن عثمان، وكانت مع الجيش المسلم المتوجه إلى قبرص، وهناك توفيت، وإلى اليوم لا زال قبرها معروفاً في قبرص، وقد شاركت المرأة الرجال الذين هاجروا إلى الحبشة في هجرتهم.

الوعي واليقظة مع الصدق والأمانة:

كانت المرأة في الماضي - كما هي اليوم - تستخدم لأغراض التجسس، وقد مرَّ معنا مثال على ذلك في قصة حاطب بن أبي بلتعة، لذلك قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن)، امتحنوهن فربما تأتي المرأة مهاجرة لا لأنها تريد الدخول في الإسلام ؛ بل لأمر آخر، وربما أتت لأجل التجسس، فاحتاطوا للأمر وادرسوا الحالة بحذق ومعرفة، ولكن (اللهُ أعلَمُ بإيمَانِهِنَّ)، وفي الحديث قال : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه »(1)، فعلينا أن نكون واقعيين عمليين، كما قال عمر رضي الله عنه: « لست بالخبِّ ولا الخبُّ يخدعني »، وأن نتعامل مع الإنسان بصدق واحتراز، وبعد ذلك لن يضرنا شيئاً: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ] آلا عمران: 3/120 [، فإذا كنا واقعيين وعمليين ؛ فسنستطيع حلَّ كل ما يعترضنا من مشكلات، أما عندما لا نكون كذلك، ولا نكون متقين ؛ فستنقلب كل الأمور ضدنا - كما هو الحال اليوم - وحتى ما يدبره الأعداء لنا، لن يضرنا مع الوعي، بل سينقلب عليهم..

وفي السيرة النبوية ذُكر أن أناساً كانوا يأتون إلى رسول الله ، وقلوبهم مليئة بالشَّر، وما إن يروا تجليات الصدق من رسول الله وأصحابه، حتى يتحولوا من الشَّر إلى الخير، فالصدق يدعم صاحبه بقوة لا نهائية، ويزيد فرص النصر أضعافاً مضاعفة. ونحن حين نكون صادقين نكسب مكاسب كبيرة، لكن العالم الإسلامي لا يستطيع أن يصدق ولا يستطيع أن يصبر.

إذن، فكيف نكون صادقين؟ وكيف يثق بنا الآخرون؟ كيف نجعلهم في مأمنٍ من أن يصيبهم منا شرٌّ أو غدر؟ كيف نجعل العدو يثق بنا؟ ونحن لا يثق بعضنا ببعض.

إن التعامل مع الجميع: الأولياء والأعداء ؛ بالصدق والاستقامة والعدل، والقسط، والإحسان ؛ هذا التعامل يحوِّل العدو إلى وليٍّ حميم، والدفع بالتي هي أحسن، يجعلهم أولياء حَميمين، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ] فصلت: 41/34 [.

قد يستطيع الآخر أن يخدعنا، وان يمثل دوراً لا يؤمن به ؛ لكن الصدق يتغلب على الخداع والتمثيل، فإذا أردت أن تدخل إلى قلب الإنسان وأن تستولي على مشاعره، وتلوي عنقه ويده إلى الحق، وتسخره وتستولي عليه ؛ فكن صادقاً معه، وتعامل معه بالبراءة الطفولية، على أن لا تكون منفعلاً بل، واضحاً صادقاً محترماً كريماً.

المرأة والبيئة الاجتماعية:

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).

اتفق المسلمون وقريش في صلح الحديبية على إعادة كل من يأتي من قريش مؤمناً مسلماً إلى المشركين، والقرآن هنا يأمر المسلمين بألا يعيدوا المرأة المؤمنة التي تأتي من قريش. وقد ورد في السيرة أن امرأة هاجرت إلى المدينة مؤمنة بعد صلح الحديبية، فأنزل الله هذه الآية لكي لا يردوها إلى المشركين كما ردّوا أبا جندلٍ، ففي ذاك الجو كان وضع المرأة مختلفاً عن الرجل، فلا ينبغي التقيد بحرفية الكلمات، ونحن اليوم، بالرغم من أننا نتقيد بالكلمات، لا نستطيع أن نخرج من قلوبنا أنه إذا بُشِّر أحدنا بالأنثى يَسْوَدُّ وجهه، والعالم الغربي الذي نقول عنه: إنه كافر ؛ ليس مثلنا، وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى لا يظلُّ وجهه مسودّاً، وليس ذلك لأنهم أصبحوا مسلمين، لكن بيئتهم وصلت إلى درجة يشعرون فيها بشيء من الكرامة والحق الإنساني لكل من الذكر والأنثى.

الإسلام والعدل:

بعد ذلك يعلل الله سبحانه وتعالى الأمر الذي وجهه إلى المسلمين بعدم إعادة المؤمنات المهاجرات إلى الكفار فيقول: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ).

هنا يذكر الله حكماً تشريعياً وهو تحريم زواج المؤمنة بغير المؤمن، والدين الإسلامي قسمان: قسم العقائد الإيمانية والعبادات، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وقسم يحتوي على أحكام المعاملات بين الناس، وهو قائم على المصلحة والمنفعة والعدل، وقد استنبط ابن تيمية وابن القيم قاعدة هامة ضابطة في موضوع المعاملات فقالا: « الواجب ما كان نافعاً دائماً أو غالباً، والمحرَّم ما كان ضارّاً دائماً أو غالباً »، فالنافع في الإسلام واجب ممارسته، وشريعة الله تقوم على العدل والقسط، وكلما استطعنا الوصول إلى العدل أكثر، فإننا نقترب من أوامر الله اكثر: « فحيثما وجد العدل فثم شرع الله »(1).

هذا الفهم يضع أمامنا حلولاً لكثير من الأشياء التي تبدو متناقضة، فالرِّق، الذي كان جائزاً في تلك الأيام، حين استطاع الناس التخلي عنه، وجب عليهم إلغاؤه، وحين ألغي لم يشعر المسلمون أن شريعة الله نقضت، وأنا أقول بأن قضية المرأة لا تجدي معها كثرة الكلام، إلا إذا تهيأت الظروف الملائمة، وبما أننا لم نتمكن من إيجاد هذه الظروف فلا زلنا على المبدأ الذي يقول:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتُنا بَنوهُنَّ أبناء الرجال الأباعد

إنهم يقولون هذا ويحبون الذكر أكثر من الأنثى، ولكننا نجد في واقعنا الاجتماعي، أن من يكبر في السّن ويعجز عن القيام بخدمة نفسه، فإن ابنته ترعاه وتعطف عليه أكثر من ابنه، فيتمنى لو كان عنده بنيَّة واحدة بدل أبنائه العشرة ؛ الذين ينصرف كل واحد منهم إلى هموم أسرته وعياله، ناسياً أبويه.

إذن، الظروف هي التي تقلب الأمور، ولذلك يجب علينا أن نتعمق في نظرنا إلى التاريخ، وقانون الله أن الأبقى هو الأنفع: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) ] الرعد: 13/17 [.

وقوله تعالى: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، من الشرائع والمعاملات، والشريعة مبنية على العدل، وعلى سلامة المجتمع، وكلما تحقق العدل وسَلِم المجتمع فإن شريعة الله تتحقق، لأن الله يأمرنا بالعدل المطلق مع الأصدقاء ومع الأعداء، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ] النساء: 4/58 [، وإذا استطاع الإنسان أن يتعامل بالإحسان فإنه أقرب إلى الله وأفضل، وبعض الأحكام ربما تتغير كما تغير حكم الرِّق الذي كان جائزاً ثم حُرِّم، لقد تغير الحكم في موضوع الرِّق بالرغم من أن نصوصاً قرآنية تتحدث عنه وتتعامل معه كأمر واقع وغير محرم.

لكن حكماً آخر كقتل المرتد لا يتعامل المسلمون معه بواقعية، ولا يجرؤون على إلغائه بالرغم من أنه ليس في القرآن نصٌّ يأمر بقتل المرتد، والواقع أن المسلمون لا يرتدون، وهذا الحكم الذي يتمسك المسلمون به، ويدرسه الطلاب في المدارس والمعاهد وكليات الشريعة ؛ ليس في القرآن، ولا في الأحاديث الواضحة الصريحة الصحيحة نصٌّ عليه.

إنهم لا يتعاملون مع النصوص بعمق وفهم، ولا يتعاملون مع الواقع أيضاً ؛ لكنهم يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ] الزخرف: 43/23 [.

ونصوص القرآن بمجموعها تضع دستوراً عاماً للتعامل مع الآخرين كقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ] الممتحنة: 60/7 [، وقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ] البقرة: 2/256 [، فالمعاملات في الحرب والسلم، وفي موضوع الرجل والمرأة، وفي غير ذلك، كلها مبنية على العدل، و « حيثما وجد العدل فثم شرع الله ». وهناك مشكلة كبيرة في تحويل بعض حالات الطوارئ إلى دستور عام، وهذا باب مهم ينبغي بحثه.

ثقافة القتل وثقافة العفو:

في بعض الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية، يطبَّق حكم القصاص، فولي المقتول يعطى الحق في أن ينفذ القتل قصاصاً أو أن يعفو، وفي الغالب لا يعفو، بل يطبق القصاص فيقتل قاتل وليه، وربما ينتظرون أعواماً طويلة، حتى يبلغ ابن المقتول، لكي يستشار في القتل أو العفو، وقد ربِّي الإنسان هناك على أن يتلمظ لقتل الجاني، يقتل كثيرون من الذين لم يعفُ عنهم أولياء المقتولين في الساحات العامة قصاصاً.

والإسلام ليس فيه أن قتل القاتل واجب وإنما يعطي الحق لوليه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً) ] الإسراء: 17/33 [.

وفي حادثة جرت في السودان، اقتحم بعض الفلسطينيين فندقاً، وقتلوا بعض النزلاء الإنكليز، ولأن الحكومة هناك تطبق الشريعة الإسلامية ؛ أرجعت أمر القصاص أو العفو إلى أولياء القتلى من الإنكليز وقالوا لهم: إن الحكم يرجع إليكم، فما كان من هؤلاء الإنكليز إلا أن عفوا عنهم.

والعفو في الإسلام ليس فرضاً، ولكنه مستحب ومرغوب به، وقد ورد أنه « في يوم القيامة ينادى: ألا ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح »(1)، وورد في صحيح مسلم عن علقمة بن وائل أنَّ أباه حدَّثه قال: إني لقاعدٌ مع النبي ، إذ جاء رجل يقود آخر بِنسعةٍ فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي. فقال رسول الله : « أقتلته؟ » فقال: إنه لو لم يعترف أقمتُ عليه البيَّنة. قال: نعم قتلته. قال: « كيف قتلته؟ »، قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبَّني فأغضبني. فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النبي : « هل لك من شيء تؤدِّيه عن نفسك؟ » قال مالي ملٌ إلا كسائي وفأسي. قال: « فترى قومك يشترونك؟ » قال: أنا أهون على قومي من ذاك . فرمى إليه بنسعته. وقال: « دونك صاحبك » فانطلق به الرجل فلما ولَّى قال رسول الله : « إن قتله فهو مثله » فرجع. فقال: يا رسول الله إنه بلغني انك قلت: « إن قتله فهو مثله » وأخذته بأمرك. فقال رسول الله : « أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ » قال: بلى، قال: « فغن ذاك كذاك » قال: فرمى بنسعته وخلى سبيله »(1). هذا الحديث موجود، ولكن المسلمين لا يذكرونه، لذلك تعمقت ثقافة القتل، وعدم العفو في نفوس الناس، ففي بعض البلدان الإسلامية ربما ينتظرون ثمانية عشر عاماً لتنفيذ القصاص، ومن قتل وليه قبل ثمانية عشر عاماً لا يعفو عن القاتل، بينما الإنكليز عفوْا عن القَتَلة الذين لا ينتمون إلى دينهم، ولا إلى عرقهم، ولا إلى وطنهم، فالأمر إذن يعود إلى الثقافة وليس إلى الشريعة، ونحن إذا أردنا أن نتدخل علينا أن نتدخل في الثقافة، لا أن نتدخل في أصل الحكم، فنربي الناس على التسامح، ونعمق ثقافة العفو - التي حثَّت النصوص عليها - عند الناس

فإقامة العدل والإحسان أولاً، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ] النحل: 16/90 [، وإذا كان الإحسان غير مفروض علينا ؛ فإنه مرغوب ومستحب ومندوب، ومن يتعامل بالإحسان فإنه موعود من الله بالأجر والثواب العظيم.

تتغير الأحكام بتغير الأزمان:

كثيرة هي المواضيع التي ينبغي أن نعيد النظر فيها، لأن النظرة الحالية إلى الدين الإسلامي نظرة غير واقعية، ولا تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة التي طبق فيها الإسلام في عهد الرسول ، فالله - سبحانه وتعالى - حين يقول: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) يتعامل مع الأحوال الموجودة في ذلك الزمان، فإذا تغيَّر المجتمع ولم يعُد الناس يحتقر بعضهم بعضاً لأجل هذه الأحوال: فلا حاجة إلى بقاء الأحكام المتعلقة بها، إذ العدل أن أُعاملك كما تعاملني، وان أحترمك كما تحترمني.

ولعلَّ الكفَّار في أيامنا هذه يحترمون الذين يخالفون دينهم وفكرهم أكثر مما نحترم نحن المخالفين، والله سبحانه قال: (ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ] الأنعام: 6/108 [.

الشُّحُّ قديماً وحديثاً:

يقول الله تعالى: (وآتُوهُم ما أنْفَقُوا) فإن أنفق الذي لا يحلُّ لها، المالَ عليها، أو أعطاها شيئاً، فأعيدوا له ما أنفقه، ولا يأخذْكم الشُّحُّ فتأكلوا حقهم، والقرآن ذمَّ الشُّح فقال: (وَأُحْضِرَتْ الأنفُسُ الشُّحَّ) ] النساء: 4/128 [، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ] العاديات: 100/8 [.

وانتشار الشُّح قديماً كان أكبر منه اليوم، لأنه عندما يكون الفقر شديداً يكون الشُّح أكثر، وفي المستقبل ربما تتغير الأمور، وأحياناً نسمع عن الطاقة النظيفة الرخيصة، فتستخدم لتسيير الآلات، وللتدفئة، وإذا حصل هذا فسيتغير التاريخ كله، ولا قدرة لنا الآن على تصوُّر ما سيحدث، وسوف لن يأكل الناس التراث أكلً لمّاً، ولن يحبّوا المال حبّاً جمّاً، أما قديماً فقد كانت الطاقة عزيزة، والحصول عليها في غاية الصعوبة. كانت الطاقة طاقة العضلات، عضلات الإنسان، ثم استخدمت عضلات الحيوان، ثم البخار والفحم، ثم البترول والغاز، ثم الطاقة الشمسية …

والحروب التي يشعلها العالم الغربي - كحرب الخليج - من أجل الطاقة ؛ لن يعود لها مبرر حين تصير الطَّاقة رخيصة..

إذن، أمام الإنسان مجالات واسعة، وهو مكرم عند الله كرامة تدعو إلى الخشوع والاحترام والقداسة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ) ] الإسراء: 17/70 [، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ] الجاثية: 45/13 [.

لا إكراه في الزَّواج:

ثم يقول الله تعالى: (ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ] الممتحنة: 60/10 [، فإذا أرادت المرأة أن تذهب وهي متزوجة ؛ فلا ينبغي أن نجبرها على البقاء، لأنه إذا كان (لا إكْرَاهَ في الدِّينِ) فلا إكراه في الزواج بدايةً، ولا إكراه فيه استمراراً، فلها أن تنفصل، ولكم الحق أن تطلبوا ما أنفقتم عليها.

وفي الحديث أن امرأة تزوجت رجلاً فأعطاها حديقة له، ثم طلبت الانفصال عنه، فقال لها رسول الله : « أتردِّين إليه حديقته؟ » فقالت نعم، فطلَّقها منه(1).

هذا الحكم من العدل، وحيثما تحقق العدل فثم شرع الله، وحيثما تحقق الإحسان فهو الأفضل.

(وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ] الممتحنة: 60/11 [، فإن ذهب بعض أزواجكم إلى الكفار، ثم تمكَّنتم منهم، فأعطوا من أنفق على زوجته بالقدر الذي خسره، ولتكن تقوى الله رائداً في كل ما تعملونه.

مبايعة النَّبي  للنَّساء:

ثم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ] الممتحنة: 60/12 [.

يخصُّ الله النساء هنا بالمبايعة، وقد ورد أن النَّساء أتين إلى رسول الله  وبايعنه، وحضرت هند بنت عتبة، وحين قال لهن رسول الله : « وأن لا تزنين » قالت هند: أو تَزني الحرَّة، وحين قال: « وأن لا تقتلن أولادكن »، قالت: ربَّيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً.

وقد حصل نزاع كبير حول الكيفية التي بايع فيها رسول الله  النَّساء، فبعضهم قال: بايعهنَّ بيده، وبعضهم قال: وضع على يده ثوباً وبايعهن، وبعضهم قال: أمسكن بطرف ثوب، وبعضهم قال: بايعهنَّ بالكلام فقط.. الأقوال التي وردت كثيرة ولا حرج، إذا كان بايع بأيٍّ منها، وكل واحد يدعم ما يراه الأصحُّ..

وقد ورد أن رسول الله  حين بلغ إلى قوله تعالى: (ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وكان قد نهى عن النياحة، قالت له امرأة: اِئذن لي أن أنوح على فلان لأن أهله ساعدونني في الجاهلية، فأذن لها عليه الصلاة والسلام(1).

المعروف العام والمعروف الخاص:

وقوله تعالى: (ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) تضعنا أمام سؤال: ما هو المعروف؟ المعروف على عدة مستويات، فهناك معروف على مستوى العالم كلّه، وهذا من الفطرة البشرية، وتوجد أمور من المعروف ضمن ثقافة معينة، ومثال المعروف الخاص بثقافة معينة، قوله : « إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا »(2)، فالإنسان الذي اعتاد على ارتكاب الكبائر يقسو قلبه فلا يبالي بها، أما الإنسان الذي لم يعتد عليها ؛ فإنه يشعر بأن ما فعله كبير وخطير.

إذن، المعروف معروفان: معروف عام، ومعروف ثقافي خاص ببيئة من البيئات، والعرف معتبر ومحترم ما لم يؤدِّ إلى عدوان على الآخر أو تضييع لحقٍّ من الحقوق، وربما يختلف الناس في التقدير، ففي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) ] الفرقان: 25/67 [، فالذي يراه بعض الناس إسرافاً قد يراه آخر تقتيراً، وقد قيل: « لا سرف في الخير، ولا خير في السِّرف »، وحين تصدقت إحدى نساء النبي  بالشَّاة ولم تُبقِ إلا الذراع، وقالت: يا رسول الله ذهب كلّها إلا الذراع، قال لها: « بل بقي كلُّها وذهب الذِّراع »(1)، فهناك معروف عام وكبير وأنثربولوجي عند الإنسان المرتبط بالتاريخ والعواقب، ومعروف آني يخصُّ حياة الناس في لحظة من اللحظات، أو ثقافة من الثقافات.

خاتمة سورة الممتحنة:

وفي آخر الآيات يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) ] الممتحنة: 60/13 [.

وهنا يختم الله السورة كما بدأها، ففي أوَلها يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ..) ثم قال في وسطها: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ)، وأتبع ذلك بتحديد الذين يجوز لنا أن نبادلهم الودّ وأن نحسن إليهم (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ …).

وهنا نأتي إلى نهاية تأويل سورة الممتحنة التي بدأنا بها قبل عدَّةِ مجالس، ونفتح باب الحوار والمناقشة.

الحوار مع الحضور:

س1: يقول الله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ] الإسراء: 17/31 [، هل المقصود هنا النهي عن قتل الأبناء دون البنات؟ وماذا يفعل العالم اليوم مع هذا الانفجار السكاني الهائل؟

الجواب:

لا يفرِّق القرآن بين البنت والصبي، وكلمة أولاد تشمل البنات والبنين، وقد كان الجاهلي يقتل أولاده: إما خشية العار بالنسبة للبنات، أو خشية الفقر، لكن الإسلام جاء وجعل الحياة الإنسانية مقدسة، فلا ينبغي أن تزهق لاعتبارات اقتصادية، فالإنسان يموت موتاً طبيعياً لا قدرة لنا على دفعه، ولا يحقُّ لنا أن نتسبب له بالموت بدعوى الرحمة أو الشفقة.

أما موضوع الانفجار السكاني ؛ فنحن لا نستطيع أن نتكلم فيه، فمثل هذا الموضوع يجب أن ينظر إليه الأخصائيون ليجدوا له الحلول، وقد كان الناس قديماً يصابون بالأمراض الفتَّاكة، لجهلهم بقواعد الصحة، وتنشب بينهم الحروب، وتفتك بهم المجاعات، كل ذلك كان يؤدي إلى قصر متوسط العمر للإنسان وقلَّة الكثافة السكانية.

أما الآن فإن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية، وذلك مع انتشار الوعي الصحي ووسائل العلاج، ولكن هذا ترافق مع تقدم زراعي وصناعي جعل المساحة التي كان يحتاجها الفرد الواحد ليلبي حاجاته الغذائية تتناقص، وأصبحت المساحة نفسها تنتج ما يكفي العشرات أو المئات، والأرض لا زالت قادرة على استيعاب البشر، فإذا أوصل هذا التسلسل إلى مرحلة ملأ فيها الناس الكرة الأرضية فلا حرج، فالله سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض، فلّيبْنِ الناس مستعمرات كونية في الكواكب الأخرى الكبيرة …

إذن، القرار في مثل هذا الموضوع يعود إلى أهل الاختصاص: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ] النحل: 16/43 [، والصينيون يقولون إنَّ التحديد الصَّارم للنسل أمر ضروري لهم.

لقد نهى القرآن عن القتل، وأقول: حتى لو وصل عدد الناس إلى حّدٍّ لا يمكن معه تأمين الحياة لكل الناس ؛ فإنه لا يجوز قتل الإنسان، فليمت موتاً طبيعياً إننا عاجزون عن إنقاذه وإسعافه، أما أن نقول: إنك ستموت أو تتسبب بموت غيرك ولذلك نريد قتلك ؛ فهذا محرَّمٌ في الإسلام.

والذين يقتلون أولادهم في الغالب يقتلونهم: إما لتخفيف الأسرة، أو للتخلص من نتائج العلاقات الجنسية المحرَّمة.

س2: لقد أباح الإسلام للمسلمين أن يتزوَّجوا الكتابيات، فلماذا لم يُبح للمسلمات الزواج من الكتابي؟

الجواب:

الإسلام يعترف بجميع الأنبياء ويحترمهم ويقدسهم، فإذا صار أهل الكتاب يعترفون بمحمد  ويحترمونه ويقدسونه كما نقدس أنبياءهم فالأمر قد يتغير.

وفي هذا الواقع الذي نعيشه، هذا الزواج غير وارد، لكننا نقول: ربما يأتي وقت يتغير فيه هذا الحكم.

إن علاقات البشر واتصالاتهم ربما تغيِّر هذه الأمور، فالعشائر إلى الآن لا يقبلون تزويج بناتهم خارج العشيرة، وأولاد العم يعدُّون بنات عمهم حقاً لهم، وقصَّة المحيَّرة معروفة، هذه الأمور من العادات، وحينما يصير العدل والإحسان ستتغير، إنها تشبه موضوع الحكم، فما دامت مبررات وجود نموذج ما للحكم موجودة ؛ فسيبقى هذا النموذج قائماً.

س3: يقول بعض الناس ؛ يجوز الكذب على الزوجة في الإسلام، فهل هذا صحيح، وهل هناك كذب مباح؟

الجواب:

ورد أنه « ليس الذَّاب من قال خيراً أو نمى خيراً يريد أن يصلح بين الناس »(1)، فإذا قلت كلمة أو ضخَّمت معنّى ؛ لأجل الإصلاح بين الناس فهذا مباحٌ، لكننا نستخدم الكذب لعكس هذا، نستخدمه لنفسد بين الناس لا لنصلح.

أما أن تكذب على زوجتك بحيث لا تثق بك ؛ فهذا ليس كذباً مباحاً، وأرجو ألا نخلط في هذا الموضوع، إن الكذب على الزَّوجة جريمة ؛ لأن أكثر الناس ثقة بك زوجتك، فكيف تكذب عليها بحيث تفقد ثقتها بأحاديثك.

إننا نسيء إلى الله ورسوله إذا نسبنا إليهما جواز هذا الكذب.

ثم إن لك أن تجتهد في الموضوع، وبعد ذلك تتحمل عواقب خطئك، ولسوف تعاقب على هذا الخطأ، وستكذب زوجتك عليك كما تكذب أنت عليها، وليس لك الحق في أن تطالبها بالصدق إن كنت تكذب، فالعدل واجب، وعليك أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.

وحين أجاز الله استخدام التقية - وهي نوع من الكذب - فقال: (إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) عقب ذلك بقوله: (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ) ] آل عمران: 3/28 [، فقد حذرنا من التمادي في التقية بعد أن أباحها. والتقية: هي إظهار الإنسان عكس ما يُبْطن.

وقديماً كانت عوامل الإيمان هامة جداً في موضوع النَّصر أو الهزيمة، والكذب كان جائزاً لتضليل العدو، وللحفاظ على السِّرية، فرسول الله  كان يخفي عليهم المكان الذي يريد أن يتوجه إليه للقتال، لقد كان الكذب في هذا الأمر يؤدي دوراً نافعاً فكان جائزاً، وحين جاء عمار إلى رسول الله  وهو يرتعد خوفاً وأخبره بأنه أجبر على أن يذكر رسول الله بسوء وأن يذكر لهم آلهتهم بخير، قال له : « كيف تجد قلبك؟ » قال: مطمئنٌ بالإيمان، قال: « وإن عادوا فعُدْ »(1).

س4: سمعت منك ما يدل على انك تربط بين ثورة المعلومات وبين انتهاء الحرب وبطلان السلاح، ولكنني لم أفهم ما كنت تعنيه، فاطلب منك التوضيح في هذا الأمر؟

الجواب:

في كتاب بعنوان (اليابان تقول لا للذين هزموها في الحرب العالمية الثانية) يقول المؤلف (شنتارو إيشهارا): إن سباق التسلح بين أمريكيا الاتحاد السوفييتي لم يقف لأنها اقتنعتا بضرورة إزالة الخطر النووي من العالم، بل لأن رقائق الكمبيوتر التي تسجل عليها المعلومات والتي تمنح الصواريخ دقَّة في الإصابة ؛ كانت هذه الرقائق من صنع اليابان، والصواريخ الأمريكية كانت تصيب أهدافها مع احتمال أن تخطئ بخمسة عشر متراً، والصواريخ السوفيتية تصيب مع احتمال للخطأ يقدر بستين متراً، فلو أعطت اليابان الرقائق التي تعطيها لأمريكا للاتحاد السوفييتي فإن هذا سيزلزل ميزان القوى، لذلك تفاوض الجانبان لإنهاء هذا السباق.

لكنني أقول: عن التنافس في إصابة الهدف لم يعد يحل المشكلة، وهذا الياباني لا يزال يفتخر بشيء فات أوانه، وهذا الشيء الذي يفتخر به لا يقدر على إزالة المشكلة الإنسانية والعالمية.

إن العالم اليوم يتألف من فريقين، يرمز إليهما ولدا آدم: أحدهما قال: (لأَقْتُلَنَّكَ) ] المائدة: 5/27 [، والآخر قال: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) ] المائدة: 5/28 [. وإذا كان يصعب على الناس أن يقبلوا ابن آدم الذي رفض القتل ؛ فمصيرهم إلى التيه، لأن كل الناس حينما يتأكدون بأنه لا يمكن أن ينتصر أحد من الفريقين في الحرب، سيقولون: لا للحرب، وكل من عنده يقين أنه لا يخرج من الحرب منتصراً ؛ يقبل بالتحاكم، ويقبل العدل، بل يقبل الأقل من العل.

لكن الذي يستطيع أن يقول: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) سيكسب المعركة في النهاية، وما لم نفهم هذا الشيء سنظل نركض في متاهةٍ، وقد ورد الأمر بأن نكون كخير ابني آدم في أحاديث صحيحة، لكن المسلمين تجاهلوها، وظنُّوا أنَّها للتَّبرُّك وليست للاحتجاج والتمسك بها والعمل على مقتضاها.

يجب علينا أن ننهي التلاعب في مثل هذا الموضوع وفي مثل هذه الأحكام، وما نرفضه اليوم لا مفرَّ منه في النهاية، وإن لم نقبله طوعاً فسنقبله اضطراراً.

والإنسان الذي يفقه تعاليم الإسلام ويتعمق فيها ويعرف التاريخ ويعرف ما يجري حوله من أحداث ؛ سوف يكون احتمال الخطأ في اجتهاده أقلَّ بكثير، ويكون عدلاً غير منحاز، لأن الإنسان الذي يعرف أنه ينحاز إلى عشيرته، حين يعرف هذا تصير إمكانية انحيازه أقل، ويصبح خطؤه هامشياً. وكلما ازددنا علماً نقترب من الصواب أكثر، لذلك يجب أن ندخل عصر المعلومات، فعصر المعلومات هو الذي سيلغي الحرب، فكما ألغي الرِّقُّ وذهب إلى غير رجعة، فكذلك الحرب ستذهب في المستقبل، بعد مئة سنة أو مئتين، نعلم هذا حين نتصور حال العالم قبل مئة سنة أو مئتين.

س5: هنا يأتي سؤال، تُرى ما هي علاقة انتهاء الحرب باختراع القنبلة النووية؟

الجواب:

لقد غيَّرت القنبلة النووية الأوضاع لصالح ابن آدم الذي رفض القتل، وأرجو من الشباب أن يفكروا في هذا كثيراً ؛ لكي لا نخدع، فنحن نعيش مرحلة خضرمة ومرحلة انتقال، وأكثر دولنا لا تزال تعيش عصر ما قبل القنبلة النووية، ويظنون أن القنبلة النووية سوف تُستخدم لإبادتهم، ويخافون لذلك، وأمريكا تستغل هذا الخوف لديهم لتسيطر عليهم، لكن إذا وصلنا إلى وعي حقيقة القنبلة النووية، فإن أمريكا لا تستطيع أن تتعامل معنا كما تتعامل الآن، فأمريكا وروسيا لا تتعاملان فيما بينهما كما تتعاملان معنا.

إن الحرب ستتحول إلى نوع من أنواع الشرطة لنجدة المعتّدي عليهم، أما الحرب التي يقصد منها أن ينتصر فريق على فريق فقد انتهت وفات أوانها حتى في بلادنا، لأن الأقوياء يتدخلون لينصروا من يشاؤون ويهزموا من يشاؤون، لأن منابع السلاح التي ترفد الطرفين من عندهم.

إننا لا نعي حقيقة السلاح النووي، ولا نعرف ما يسمى بالشتاء النووي، ولا ما سيؤول إليه العالم إذا استخدمت القنبلة النووية، لذلك لا زلنا نعيش العنتريات،ونشتري الأسلحة ن ولو كنا نفهم، ما اشترينا سلاحاً يضرنا ولا ينفعنا.

إن قوة الشعوب تقف في وجه أي محتل، فأمريكا لم تستطع أن تحتل لبنان في وقت لم يكن فيه للبنان حكومة ولا جيش، وهذا الشعب الذي يقتل بعضه بعضاً استطاع أن يجبر الجيش الأمريكي على الانسحاب، فانسحب بالرغم من انه يملك القنبلة النووية، إنه لا يستطيع أن يستخدمها.

يجب أن نقاتل أمريكا، لكن ليس بالطائرات ولا بالصواريخ، بل بطريقة أخرى، بطريقة الشعب اللبناني والشعب الصومالي(1)، لا بطريقة الجيوش النظامية التي نسخ مفعولها.

إن المثقفين في العالم الإسلامي لا زالوا عاجزين وكالعجائز يقولون: ربّنا خلِّصنا من هذا العدو، أما أن يحضروا العالم ويكتشفوا موازين القوى فيه، ويدعوا الناس إلى الحقائق، فما من أحد منهم يفعل ذلك، لذلك نعيش المأساة ونسبح في الردى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) ] فصلت: 41/23 [. كأن الله لم يضع لهذه المشكلة حلاًّ فهم لا يعلمونه! إن الله وضع حلولاً تأتينا بالمكاسب وبأقل الخسائر أو بدون خسائر.

كنت أبحث مع أخي هذا الموضوع، فوصلنا إلى أن المثقفين لاستكبارهم وظنهم انهم يفهمون كل شيء، صار عندهم مناعة ضدَّ فهم مثل هذه المواضيع والاعتراف بها، بينما الإنسان الفطري حين تحدثه يفهم عليك، ويصدم بفهم المثقف.

إن العامي يرى التلفزيون ويشاهد الأحداث فيه، ويسمع تصريحات وأقوال الزعماء، ونحن يجب أن نعطيه الدليل: هذا حدث في لبنان، وهذا حدث في اليابان، وهذا حدث في العراق.

والمسلمون لازالوا يكررون التجارب ولا يستفيدون منها، فإيران ربما تقع في حرب مع مصر، والسعودية ربما تقع في حرب مع إيران.

إننا نستطيع أن نُفَهِّمَ هذه الخرافات للإنسان العادي، فنبحث معه ونأخذ منه ونرد عليه، وكما قال عيسى عليه السلام: « يا ربِّ لك الحمد أن فهَّمت هذا للأطفال، وقد عجز الحكماء عن فهمه »، والأنبياء حين جاؤوا كان أول من يؤمن بهم المستضعفون، أما أصحاب الامتيازات والمثقفون فإنهم لا يتنازلون ولا يعترفون لأنهم يمكن أن يخطئوا.

وحين يصير لدى المثقف قدرة على الاعتزال أو الاستقالة ؛ فسيصير لدى السياسي القدرة نفسها، فالسياسي حفيد المثقف وابنه، والعلاقة بينهما علاقة جدل أيضاً، لكن المثقف هو المؤثر الأكبر، كالعلاقة بين الإنسان والحجر المشقوف ؛ فالإنسان حين صنع الحجر المشقوف زادت فعاليته، وحين صنع السيارة زادت سرعته، لكن السيارة لم تصنع الإنسان بل حلَّت كثيراً من مشكلاته، فالإنسان هو الأول.

أنت ابدأ بالمثقف، وأنا ابدأ بالعوام، وكلانا يعمل، على أنني لا أهمل المثقفين بل أتحدث إليهم، لكن أملي فيهم أقلُّ، وكلما تعاملت معهم أشعر بأن لا قردة لهم على أن يفهموا، بدليل أنه لم يعلن أحد منهم إلى الآن إننا لسنا بحاجة إلى شراء الأسلحة وتضييع الأموال عليها، إنها لا تغني عنا شيئاً.

لكن الكبْر الذي يصاب به كثير من المثقفين يحجزهم عن الفهم، « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبَّةٍ من كَبر »(1).

س6: هل من فرق بين مصطلحي الإيمان والإسلام؟

الجواب:

حين سأل جبريل رسول الله  عن الإيمان، لم يتضمن جوابه ذكراً للأحكام الشرعية، وقد بحث المسلمون في الفرق بين الإسلام والإيمان، وكان مما قالوا: « إذا أطلق الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أطلق الإسلام فإنه يتضمن الإيمان ».

لكننا إذا درسنا استخدام المصطلحين في القرآن نجد أن بينهما فرقاً، فمثلاً في قوله تعالى: (قَالَتْ الأعْرَابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ] الحجرات: 49/14 [، هنا نجد فرقاً بين المعنيين، وكذلك في حديث جبريل حين جاء ليعلم المسلمين أمر دينهم فرَّق الإيمان عن الإسلام، وإبراهيم قال الله عنه: (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ) ] الحج: 22/78 [، والإسلام مصطلح يدخل فيه التشريع أيضاً وفي الحديث يقول : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده »(1)، أما في حديث جبريل فقد ذكر فيه الأركان الخمسة، فالإيمان غير الإسلام، وما نقوله ليس نهاية ما يقال، بل يجب أن نتعمق في معنى الإيمان والإسلام والمعاملات، حتى يتوضح الفرق بينهما كما تتوضح أقسام الخلية تحت المجهر، ويساعدنا على ذلك فهم المجتمعات، فكل مجتمع له عقائد وله عبادات وله معاملات، ولكل مجتمع صلاة: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ] النور: 24/41 [، (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) ] الأنفال: 8/35 [، وفي بعض المجتمعات يعتبرون الدبكة أو الغناء صلاةً مع ما يرافق ذلك من موسيقى، ونحن ننكر المعنى القبيح ولا ننكر التغني بالصوت الجميل كما فعل المسلمون بالقرآن والأذان.، ونستمع إلى المؤذن ذي الصوت الجميل ونخشع وننصت له.

إذن، كلٌّ له صلاته، وكلٌّ له تسبيحه، وكل له شريعته، وكل له غناؤه، وكل له عقائده، ويستطيع العالم الاجتماعي الذي يدرس ما في النفس، ويراقب سلوك الإنسان ويحلله تحليلاً دقيقاً، يستطيع لأن يفرز هذه الأشياء، ويفهم النصوص وفق هذا الفرز.

والصلاة الإسلامية صلاة عجيبة، يقف الإمام ويجهر بقراءة القرآن بصوت خاشع وينصت الجميع إليه.

هلك اليونان والرومان قدماً، وفراعين الزمان

وهدى الإسلام ما زال على قمة الدهر يدوي بالأذان

وباعتقادي أن الذي أبقى الإسلام غنما هو العبادات وخصوصاً صلاة الجماعة وصلاة الجمعة، هي عبادات لا عطلة فيها، وكلَّما اجتمع نفرٌ من الناس وجب عليهم أن يقيموا هذه العبادات.

ومع الأسف الشديد فإن المسلمين لم يدرسوا العبادات على أساس علمي، وقالوا: هذا خارج عن العلم والعقل والمنطق، وهي للتعبد فقط، ولم ينظروا إلى فوائدها وآثارها.

إن العبادات تنتج أشياء كبيرة فكيف نقول إنها غير معقولة، ولكن المستقبل سيحمل معه علوماً في هذه الأمور عظيمة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ] ص: 38/88 [، والدراسات النفسية والاجتماعية لم تبدأ بعد..

س7: تحدثت في مجالس سابقة عن معنى الله وأننا ينبغي أن نعرف معنى الله، فكيف نعرف الله وكيف نعرف معنى الله.

الجواب:

ذكرت هذا حين شرحت قوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) ] الممتحنة: 60/4 [، وأرجو أن تتنبهوا إلى كلمة: حتى تؤمنوا بالله وحده، ما معنى الله؟ (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) ] آل عمران: 3/154 [، حين نفهم الله على النموذج الجاهلي ؛ يكون ق\فهمنا فهماً جاهلياً، وحين نعرف سنن الله في الكون وآياته في الآفاق والأنفس نقترب من النموذج الصحيح، ونقترب من الله.

فإذا أردنا أن نتعرف إلى الله ينبغي أن ننظر إلى مخلوقات الله ونرى سنة الله في الكون.

وفي الآيات التي شرحناها قبل قليل، حين تحول الخطاب الإلهي من التوجه إلى المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا، إلى التوجه إلى النبي: يا أيها النبي، فإن هذا يدل على أن هاتين الآيتين فيهما أحكام كبيرة جداً.

ففيهما المبايعة، الميثاق، العهد، الوعد، الأمانة، وفيهما الالتزام الذي يعني أن يثبت الإنسان على مبدأ ويلتزمه ولا يغيره.

وهنا أقول: ينطبق على الالتزام قانون الله الأبدي: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) ] الرعد: 13/17 [، فإذا جاء ما هو أنفع ينبغي أن نتعاهد عليه.

وقد عاهد رسول الله  الناس الذين بايعوه على القول بالحق حيثما كانوا، وان لا تأخذهم في الله لومة لائم. وأعظم ما في المبايعة هو التعاهد على أن لا يخون أحدنا ضميره فيقول ما لا يعتقد، ولكن إذا تعرضت أرواحنا للخطر، فإن فضل الله ورحمته واسعة ؛ فقد أجاز لنا أن نستخدم التقية فنقول ما لا نعتقد، وهذا لا يُبيح لنا أن نجعل حياتنا كلها كذباً وباطلاً، فإذا كان الكذب جائزاً في بعض الأحيان، فهذا لا يعني أن الكذب يمكن أن يصير دستوراً للحياة.

إذن، الكذب حالة طوارئ، ولكن العالم الإسلامي يعيش حالة طوارئ مستمرة ولا تقتصر هذه الحالة على الأوقات التي تحدث فيها الأزمات أو على الحدود التي تقع فيها التوترات.

وما دمنا على العهد والسلام ؛ فالواجب الوفاء وعدم الكذب، أما في حالة الحرب فلا يشترط أن نقول الحق، فالحرب خدعة مادامت المواجهة بالقوة قائمة، أما أن أخرق العهد ؛ فللطرف الآخر عندها أن يفعل ما يشاء من قتل وتدمير وتخريب.

لكن الإسلام دعا إلى السلم والى الالتزام بالعهد والميثاق، وإلى عدم المشاركة في الجريمة، وإلى التزام الحق والصدق من جانب واحد، وسيضطر الآخر ولو بعد حين إلى أن يقبل بالسلام.

س8: ما معنى الجهاد في الإسلام وهل يقتصر على القتال في سبيل الله؟

الجواب:

تسمى صيغة الجهاد في اللغة بصيغة المفاعلة، والجهاد لغة معناه بذل الجهد في سبيل الوصول إلى هدفٍ ما، ولذلك فهي تشترك مع كلمة الاجتهاد في الأصل.

وقد ورد استعمال كلمة الجهاد بهذا المعنى في الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى: (تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) ] الفرقان: 25/52 [، أي جاهدهم بالقرآن وبما فيه من حجج. ويقول عن الأبوين اللَّذين يحملان ابنهما على الكفر بالله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) ] لقمان: 31/15 [، لا يدل لفظ الجهاد هنا على القتال مطلقاً، بل هو بمعنى بذل الجهد لتجاوز الصِّعاب، والجهاد العظيم والأول والأكبر هو الجهاد بالقرآن ؛ بالفهم وبالعلم، وبه يكون تغيير ما بالأنفس الذي هو أساس كل تغيير، فهل في معنى الجهاد في الإسلام ما يسير إلى الإسلام؟

قد يكون الجهاد محاولة للسلام، لأنه ليس من الضروري أن يكون لجهاد قتالاً، فالمعنى الأول يتلخص في بذل الجهد لتجاوز الصعوبات والوصول إلى الأهداف.

وهناك معنى آخر للجهاد: وهو القتال، وحين يراد هذا المعنى في النص القرآني، فإنه يأتي بلفظ (القتال)، والجهاد العسكري في القرآن شُرع للدفاع عن النفس أو لدفع الظلم، وأول آية أذنت للمسلمين بالقتال علَّلت هذا الإذن بأنهم أخرجوا من ديارهم وأوطانهم بسبب معتقدهم فقط، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) ثم يتابع فيقول: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) ] الحج: 22/39-40 [، فلولا الجهاد لهدمت دور العبادة لليهود والمسيحيين والمسلمين.

إذن، فالجهاد في القرآن وفي السُّنَّة يستعمل بالمعنيين: العام والخاص، وفي اللغة العربية أيضاً يستعمل بالمعنى الأصلي: وهو بذل الجهد، وبالمعنى الاصطلاحي السياسي: وهو القتال. والمعنى الأخير أقرب إلى مفاهيم الناس هذه الأيام، وهو المعنى الوحيد للجهاد في الغرب، خصوصاً في وسائل الإعلام.

ومن ظن أن الجهاد في كلامنا في الوقت الحاضر يعني فقط المعنى السياسي القتالي فقد أخطأ، فالكلمة تستعمل بالمعنى الأصلي، وبالمعنى الاصطلاحي، والذي يحدد المعنى المراد هو سياق الكلام، والجهاد القتالي وظيفة المجتمع الذي صنع جهاز اتخاذ القرار، أي وظيفة الإمام الشرعي، وليس وظيفة الأفراد والدعاة الذين يدعون إلى صنع الأمة والمجتمع.

والحمد لله ربِّ العالمين


المجلس الثامن

مفاتح التأويل

الاثنين: 10 ذو الحجة 1416 هـ / 31 أيار 1993م


الفهم القرآنيُّ المعاصِرُ:

عشت في هذا العالم الكبير ؛ الذي تزداد معرفتنا به يوماً فيوماً، وعايشت قضايا ومشكلات العالم الإسلامي، ووصلت إلى أفكار ومعلومات، أجد لزاماً عليَّ أن أُبَلِّغها للناس، كما أن عليهم أن يتعلموا وأن يستمعوا ويقارنوا بين الأمور.

ولن تصلح حالنا إلا بكتاب الله ؛ نتلوه وندرسه ونحفظه، فأعظم واجبٍ علينا اليوم هو أن نتعلم كتاب الله، وأن نبلِّغ رسالته، وأن نتلوه حقَّ تلاوته.

والبداية ينبغي أن تكون من إعادة الصِّلة بين المسلم وكتابه، لتنشأ بينهما علاقة حميميةٌ متينة.

وإذا كان الله قد وعد بحفظ هذا الكتاب من التحريف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ] الحجر: 15/9 [ ؛ فإنه تعهَّد أيضاً بأن يستخلف في الأرض قوماً يؤمنون بهذا الكتاب، ويفهمونه حقَّ الفهم، ثم يطبِّقونه تطبيقاً صحيحاً.

لقد أتعبتُ نفسي خلال خمسين سنة ؛ لأجد طريقة نفهم من خلالها ديننا وإسلامنا وقرآننا ؛ فهماً يتوافق مع هذا العصر، وينسجم مع آيات الله في الآفاق والأنفس، وهذا أقدس واجب ينبغي النهوض به، وأشرف عمل يمكن أن نَستنفز قوانا لأجله.

بَينَ التَّفكيرِ والتَّقليد:

إنَّ من يسعى إلى فهم وتأويل القرآن الكريم ؛ عليه أن يتزوَّد قبل ذلك بمفاتيح تمكِّنه من الخوض في معانيه والغوص في أعماقه، وعليه أيضاً ألاَّ يعتمد على فهم السَّابقين، لأنَّهم تلقَّوا القرآن في وقت لم تكن الإنسانية فيه قد بلغت من العلم ما يعرِّفها بتاريخ الإنسان، ولم يكن الناس يعرفون طرف الأرض التي يعيشون عليها، ولا متى بدأت مسيرة الإنسان فوقها.

على هذه الأرضية المعرفية بنى السَّلف فهمهم للقرآن وللحياة، وهي أرضية تختلف كل الاختلاف عن الأرضية المعرفية لهذا العصر، والقرآن حذَّرنا تحذيراً شديداً من تقليد الآباء، وعاب على المشركين احتجاجهم بآبائهم فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ) ] البقرة: 2/170 [، ويحذِّرنا أيضاً من اتِّباع الزعماء والكبراء: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ، وَقَالُوا: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيراً) ] الأحزاب: 33/66-68 [، هذا ما يقوله كتاب الله الذي نتلوه ونتدارسه فيما بيننا، فإذا تلقيتم أفكاري وآرائي فلا تقبلوها تقليداً، إلا أن تتثبتوا من صحتها، فربما أكون مصيباً، وربما أكون مخطئاً، فإن أصبت فمن الله وبفضله، وإن أخطأت فمن نفسي وأوهامي، وقد قال الله تعالى: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) ] الإسراء: 17/36 [، ولن يغني عنك من تتَّبعه يوم القيامة شيئاً: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ] عبس: 80/34-37 [.

آياتُ الكِتَابِ وآيَاتُ الآفاقِ والأنفسِ:

لقد فسَّر السابقون القرآن وفق عصرهم، لكن القرآن يأمرنا ألاَّ نقفَ عند مفاهيمهم وآرائهم، ويقول لنا: افتحوا أسماعكم وأبصاركم، وانظروا في السموات والأرض: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ] فصلت: 41/53 [، إنه تعالى لم يقل: سنريكم بل قال: (سَنُرِيهِمْ) أي أن المستقبل هو الذي يحمل في طياته الفهم الجديد للقرآن.

إن أجدادنا لم يكن لديهم من التطور ما يستطيعون به أن يدركوا آيات الآفاق والأنفس، فما المعنى الذي كانوا يحملونه للسماء؟ وكيف كانوا يتصورون الأرض؟ وإذا كان الله يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فهذا يعني أن فهم الحق مرتبط بفهم الآفاق والأنفس.

ومما أوصل العالم الإسلامي إلى هذا الوضع المزري ؛ إنما هو الفهم القديم الذي يتعلَّقون به، فوقائع اليوم لا يمكن مواجهتها بعقلية الأمس، ولا يمكن للمسلمين أن ينهضوا إلا إذا استوعبوا العصر وفهموا القرآن.

لقد أقلقني هذا منذ نصف قرن، فحين قرأت قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ] العنكبوت: 29/20 [، تبين لي أن معرفة بداية الخلق ليست في الكتاب ؛ بل هي في الأرض، وأمَّا ما في الكتاب ؛ فهو الأمر بالسَّير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق.

والخلق لم ينته بعد، بل يزيد الله فيه: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) ] فاطر: 35/1 [.

إننا إن لم نفهم هذه الأشياء فسنصير سخرية للآخرين، وإذا فهمتُ شيئاً وقلته لكم فأخذتم به تقليداً ؛ فلن يفيدكم أيضاً، ففكروا وتفهَّموا ولا تقلّدوا.

إنَّ المسلمين لا يريدون أن يسيروا في الكون، ولا أن يروا آيات الآفاق والأنفس، ولا أن يبحثوا في كيفية بدء الخلق ؛ ولذلك فكل الاكتشافات والآيات الكونية جاءت على يد غير المسلمين، من الذين ساروا في الأرض، والذين نظروا كيف بدأ الخلق.

إن القرآن مصدر طاقة هائلة، ولذلك علينا أن نعيد صلتنا به، وأن نبني علاقتنا معه على أسس راسخة قائمة على الفهم والعلم، كي يتحقق وعد الله لنا، وكي ننجو يوم القيامة، وعلينا أن نعيد النظر في تصورنا لله وللكون وللقرآن، ولن يتم لنا ذلك إلا برؤية آيات الآفاق والأنفس ؛ التي ستقلب تصوراتنا لمعاني الأرض والسماء والإنسان والله، فمعرفة الله لا تتآلى إلا بمعرفة جيدة لمخلوقاته وقوانينه التي خلق الكون على أساسها.

وقوانين الله لن تبالي بنا إذا أعرضنا عنها، وسيصيبنا الله بالبأساء والضراء إذا خالفناها، لذلك لابد من النظر في الكون، ومعرفة التاريخ، والتعرف على القوانين الصارمة التي تحكم حياة الإنسان.

القرآنُ بَينَ الْحاضِرِ والمستَقبلِ:

يتعامل المسلمون اليوم مع القرآن تعاملاً فردياً، فهم يلجؤون إليه فقط ليقرؤوه على الأموات، ولا يدرسونه يتعامل المسلمون اليوم مع القرآن تعاملاً فردياً، فهم يلجؤون إليه فقط ليقرؤوه على الأموات، ولا يدرسونه، وحتى بعض العلماء ينظرون إليه نظرة خرافية، وكثير من المسلمين الذي يسمَّون محمد وأحمد وخالد ومصطفى ؛ لم يقرؤوا القرآن ولو مرَّة واحدة، ولا يعرفون ما فيه، وقد يكونون أساتذة في الجامعات، والسبب في ذلك أن الذين يتمسكون به موضع سخرية من العالم ؛ لجهلهم ولرفضهم للعلم ونتائجه ومكتشفاته.

إن العالم يتطور بتسلسل عجيب، وبخطوات متقاربة، فالله سبحانه وتعالى قال في سورة النَّحل: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ] النحل: 16/8 [، فقد ذكر وسائل النقل المعروفة في تلك الأيام، وترك المجال واسعاً للمستقبل، وقد رأينا بأعيننا ما لم يكونوا يعلمون من وسائل الاتصالات والمواصلات، والمستقبل سيأتي بما لم نتصوره نحن أيضاً، والكون لا يزال يخلق، ويُزاد في خلقه، وينسخ منه ما بطل مفعوله، كما نُسخ استخدام الخيل والحمير والبغال.

والمفسِّرون القدماء لم يستوعبوا هذا، وكانوا يرون أن يوم القيامة قريب، وأنَّ كل يوم أفضل من الذي يليه إلى يوم القيامة، والتفاسير مليئةٌ بهذه الأساطير المأخوذة من الإسرائيليات، حتى إن الإنسان العادي الذي لم يدرس العالم المعاصر ؛ لا يستطيع أن يتفهم مثل هذه الأشياء ويضيع في لججها.

سُنَّةُ التطوُّر التَّاريخي:

حين أمر الله المؤمنين بالقتال قال: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) ] الأنفال: 8/60 [، لكن رباط الخيل نُسخ، ولم يعد أحد يستعين به في القتال، وجاءت من بعده وسائل أخرى ونسخت أيضاً، لكن المسلمين لا يتدبرون هذه الآية ويترددون في فهمها: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) ] الأحقاف: 46/26 [، ((إِنْ هُمْ إلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ] الفرقان: 25/44 [.

إنَّ هذا الكتاب حقٌّ، ويأمرنا بالحقِّ، ولكننا أعرضنا عنه وتجاهلناه، فلم نعِ حديث الأرض التي تزلزلت وبدأت تُحدِّث بأخبارها وأسرارها.

والإنسان الذي ترونه الآن له تاريخ طويل، فقبل خمسين سنة كان طفلاً صغيراً، وكان قبل ذلك جنيناً، وكان خلية واحدة، ثم مرَّ بمراحل طويلة؛ إلى أن صار إنساناً سويّاً.

ولهذا الإنسان تاريخ أبعد أيضاً، قبل مليون أو مليونين أو ثلاثة ملايين من السنين، وحديث الأرض بهذا لا نستطيع أن نكذِّبه ؛ لأنه يفرض نفسه، كما فرضت نفسها علينا السيارات والطائرات والصواريخ والغواصات.

لقد كان الإنسان عرياناً يقتات بلحوم الحيوانات، وتجتاحه الأمراض والأوبئة، وهذا علم لا يستطيع أن ينطره مؤمن ولا كافر، وإذا عرفنا تاريخ الخلق ؛ فإننا نستطيع معرفة النشأة الآخرة، ومن أنكر هذا فقد أنكر إنسانيته.

العلمُ والدَّين:

عندما يدرس الطلاب في المدارس تاريخ الإنسان والتَّشريح والبيولوجيا ؛ تُعرض عليهم هذه المعلومات وكأنها مناقضة للدين، فيصير بينهم وبين القرآن انفصال كامل ؛ فإنه لا يستطيع أن يشرح هذه المعلومات ؛ شرحاً يربطها بالقرآن الكريم، ولا يعرف كيف يعرض هذا العلم على أنَّهُ آيات الله في الآفاق والأنفس، وكثير من الأساتذة المتدينين ؛ يدافعون عن الأوهام، ولا يستطيعون تقبل العلم، ويشعرون بأنه مناقض للدِّين.

إننا نعيش تناقضاً مؤلماً في مدارسنا الابتدائية والإعدادية والثانوية، وحتى في جامعاتنا وعدن كبار الناس لدينا.

إننا نجد صعوبة كبيرة في التفكير ؛ لأننا لم نستمع إلى الذين يفكرون ولم نقرأ لهم، فلابد من إحداث تغيير كبير في العالم الإسلامي لإيجاد أناس يفكرون بحرية وبعلم.

إنَّ آلاف لناس سيمرون بمراحل متعبة من الشك والقلق، ولكنني على يقين من أن الحق سيظهر، وسينطلق عبر الألم والمعاناة، وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه المسلمون أئمة العلم والمعرفة، وستخلَّصون من حبِّ السِّيطرة على الآخرين عن طريق الإكراه والقوة.

إنهم الآن يريدون أن يحكموا الناس ؛ ولكن بدون علم، والقرآن عِلم، ويخصُّ على العلم، ولذلك فإنني أُلِحُّ على أهمية تعليم القرآن للنساء والرجال والأطفال، وأرى أن تبليغ القرآن مسؤولية حمَّلنا الله إياها، وسيسألنا عنها يوم القيامة، فإذا قمنا بها نقول له: يا رب هذا ما فهمناه وبلَّغناه، تطبيقاً لقولك: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) ] الأحزاب: 33/39 [.

الإنسان والتَّاريخ:

إننا لا نرفض الآباء، ولكن العلم أخبرنا أن الإنسان مرَّ بمراحل مختلفة، وأن الخيل والبغال والحمير لم تخلق جاهزة للاستفادة منها، ولكن الإنسان استأنسها بعد أن كانت حيوانات برِّيَّة يصطادها ويقتات بلحمها.

إن هذه العلوم غير موجودة في القرآن، ولكن القرآن يقول: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ] العنكبوت: 29/20 [، إنَّك لن ترى هذا في القرآن ؛ ولكنهُ يأمرك أن تذهب وتسير وتنظر في آيات الآفاق والأنفس لتصل إلى العلم.

وآيات الآفاق تعلمنا كيف تعلم الإنسان الزراعة، وكيف تلَّم صناعة اللباس بعد أن كان عرياناً، وكيف كان الناس قليلين ثم تكاثروا.

وإذا كانت الأجيال السابقة قد ذهبت دون أن تعلم هذا فلا حرج، ولكن على الأجيال الجديدة ألا تتلبد، وألاّ تتردد، بل أن تفتح أبصارها، وتقرأ الكتاب، وتنظر إلى الحاضر وإلى التاريخ، وعلى الإنسان المسلم اليوم أن يكون متقصِّياً لأماكن المعرفة وأسبابها.

إذن لابدَّ من رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس ؛ لكي نرى الحق الوجود في الكتاب، ولكي لا نرفض الحق الموجود في الآفاق والأنفس فنصير سخرية للآخرين.

إنَّ العالم يتعامل مع المسلمين على أنهم لا يعقلون، فعلاً نحن ليس لنا عقول ؛ لأننا لا نستطيع فهم الأشياء، ولأننا لم نفتح سمعنا وبصرنا، ولم نشهد على الأحداث العالمية.

فالقبور القديمة والأهرامات والكهوف التي ترجع إلى أكثر من عشرين ألف سنة ؛ أصبحت تخبر عن الكيفية التي كان الإنسان يعيش عليها، وعن الأفكار التي كان يحملها ؛ من خلال الصور والرسوم التي خلَّفها، والعلماء اليوم يبحثون عن العظام المتحجرة ؛ لكي يعرفوا التاريخ، وكل عظم ينطق ويتكلم ويقول: أنا عشت في عصر كذا، قبل كذا مليون سنة، والأرض تقول: لقد أتى عليَّ حين من الدهر لم يكن عليَّ حياة، ثم وجدت الحيوانات الصغيرة جداً، ثم وجدت الحيوانات الكبيرة (الديناصورات) قبل ستين مليون سنة، وانقرضت هذه الحيوانات، وجاء بعدها الحيوانات التي سيستخدمها الإنسان، ثم جاء الإنسان ؛ بعد أن تهيأت الأرض لاستقباله، فوجد فيها الأشجار التي يمكنه استغلالها والاستفادة منها، ووجد الأشجار والثمار والزروع، قبل أن يزرعها، إنها جاهزة ليسخِّرها هذا المخلوق المكرَّم على الله.

تأويلُ الكتاب:

إنَّ علينا أن نجدد صلتنا بالقرآن وفهمنا له، لأن المدارس والكليات التي تدرِّس الشريعة في العالم الإسلامي ؛ تعلِّم طلاَّبها المفاهيم التي فهمها العلماء قبل خمس مئة سنة أو ألف سنة، ولكنها لا تُعلِّمهم كيف ينبغي أن نفهم القرآن اليوم، فكيف نفهم قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ] النحل: 16/8 [، إنه يخلق من التفسير للقرآن ما لم يخطر على بال الذين من قبلنا، فكتاب الله لم يُنزَّل ثانيةً ؛ لأن الكون صار ينطق نيابة عن الله، وآيات الآفاق والأنفس أدلُّ من آيات الكتاب ؛ لأن آيات الكتاب لا يفهمها إلا من يفهم آيات الآفاق والأنفس، وقد قَبِل الله والقرآن التَّحاكم إلى آيات الآفاق والأنفس، فقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ] فُصلت: 41/53 [.

إذن، الكون هو الذي يشهد على صحة فهمك أو خطئه.

والبداية يجب أن تكون من هذه الآيات المفتاحية ؛ وفهمها ضروري لفهم آيات الكتاب الأخرى، فدراسة كتاب الله ليست حفظاً لحروفه. الحفظ جيد ولكن علينا أيضاً أن نفْقَهَه، وان نَفْهَمَهُ، وان نتدبَّرَه، وأن نعرفَ تأويله. ولكن ما هو التأويل؟

التأويل من المآل، فتأويل (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ؛ هو ما نراه اليوم من المخلوقات التي لم يرها السابقون، وتأويل آيات الآفاق والأنفس هو ما ظهر لنا من آيات الآفاق والأنفس، ويوسف عليه السلام حين رأى رؤيا أخبر والده بها: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) ] يوسف: 12/4 [، ولكن تأويلها جاء بعد أكثر من عشرين عاماً فقال: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً) ] يوسف: 12/100 [، وذلك حين جاء اخوته وأبواه وسجدوا أمامه بعد أن تسلَّم حكم مصر.

ونحن الآن بعد ألف وأربع مئة سنة ؛ نرى من تأويل الكتاب ما يزيد إيماننا بأن هذا الكتاب من عند الله، واعظم ما يدل على أنه من عند الله هو قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ).

الجهل والتَّفكير الخُرافي:

لقد شاع في الأوساط الإسلامية التَّصور الذي يقول بأننا في آخر الزمان، وأن يوم القيامة قريب، وان كل يوم هو أسوأ من الذي سبقه، وهذا التَّصوُّر ليس خاصّاً بالمسلمين، وكلما كان الإنسان جاهلاً فإنه يفكر بهذا الشكل، إنها شريعة بشرية وليست عند المسلمين فقط، وقبل شهرين أعلن عدد من المسيحيين أن يوم القيامة اقترب، وأن المسيح على وشك الظهور، وأشعلوا في أنفسهم النار، واحترقوا وماتوا، وهم أتباع رحل مسيحي يرى نفسه انه جاء لينقذ العالم.

إذن، ينبغي أن نفهم ما يحدث في العالم وأن نعرف تأويله، وان نبحث عن الأسباب التي جعلتنا على هذا المستوى من الضعف، ترى لماذا يقول الرسول : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها »(1)؟ ولماذا يقول: « ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، غلا نزلت عليهم الرحمة، وغشيتهم السكينة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده »(2)؟

إن المسلمين سيرجعون إلى كتاب الله، وسيتدارسونه فيما بينهم، وستحدث تغيرات هائلة في العالم الذي نعيش فيه، وليس هذا ببعيد ؛ بل هو قريب وسيرى الشباب هذا العهد الذي يرجع فيه المسلمون إلى كتاب الله، ويفهمونه وفق آيات الآفاق والأنفس، وسيسيرون في الأرض ليروا الآيات، وسيبحثون فيها عن بداية الخلق.

الخَلقُ وسُنَنُ التَّسخير:

حين يقول الله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فإنه يبشِّر بمخلوقات قادمة لا يعلمها الذين تلقوا الخطاب أول مرة، ولكن الكيفية التي سيخلق بها تلك المخلوقات ؛ ليست هي الكيفية التي خلق بها الخيل والبغال والحمير، إذ إن للإنسان دوراً فيها، ولنأخذ على سبيل المثال السيارة، هل خلقها الله كما خلق الحيوانات؟ … إن الإنسان عانى معاناة شديدة قبل أربعة آلاف سنة فصنع العجلة، ثم طوَّرها، ولا يزال يطورها، واستخدم معها الحيوان، ثم استخدم الوقود، ثم البخار، ثم وصل إلى الكهرباء والذَّرَّة.

لقد صنع الإنسان الأشياء الجديدة وفق سنن الله وقوانينه، إنه سَخَّر هذه السنن والقوانين، فكما زرع النباتات ؛ سخَّر النار والطَّاقة، إنها قوانين الله وسننه: (أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ) ] الواقعة: 56/71-72 [.

إنني أتحدث إليكم، ولكني أشعر بالمأساة والحرمان، لأنني أرى أن الوصول إلى فهم الكون والحياة سهلٌ ومُتيسر، وفي الوقت نفسه يصعب ويستعصي علينا، وبيننا وبينه حواجز ضخمة، ولعل الأجيال القادمة تُصبح أقدر من الأجيال الحالية، لأن الحاليين متمسكون بالتقاليد والمفاهيم والأفكار القديمة.

التَّسبيح والكون:

لقد فسَّرنا في مجالس سبقت سورة الممتحنة، وفي نيتي أن نفسِّر اليوم سورة الصَّف، بعد أن استغرقنا بعض الاستغراق في فهم الآيات المفاتيح التي تسهل الاتصال بكتاب الله.

في أول سورة الصف يقول الله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ] الصَّف: 61/1 [، ما معنى سبَّح؟ وما معنى الله؟ وما معنى السموات؟ إن إدراكنا لمعنى التسبيح كإدراكنا لمعنى (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فكما أن الخلق يزيد ويتغير ؛ فكذلك التسبيح له صورة وكيفية تتطور حسب كل زمان.

وقد ورد التسبيح في قوله تعالى في أواخر سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ] آل عمران: 3/190-191 [، وإذا تأملنا هذه الآيات نجد أن كلمة سبحانك جاءت بعد ذكر آيات الكون من اختلاف الليل والنهار، وخلق السماوات والأرض.

وحين نزلت هذه الآيات على رسول الله  لم ينم تلك، وعند صلاة الفجر جاء بلال ليؤذن، فوجد رسول الله  قائماً، فقال له: ما رأيتك نمت الليلة، فقال رسول الله : « يا بلال كيف أنام وقد أنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن يقرأها ثم لم يتدبرها »، وتلا خواتيم سورة آل عمران(1).

كيف كانوا يفهمون (سبَّحَ للهِ ما في السَّمَاواتِ وما في الأرْضِ)؟ وهل كانوا يفهمون من كلمة السماء هذه النجوم وبعدها عن الشمس؟ وهذا القمر وعلاقته بالأرض؟ وهذه الأجرام الضخمة؟ ومجرة درب التبانة والمجرات الأخرى؟

إن هذه الأشياء لم تكن معروفة لديهم بأبعادها وأحجامها وأعمارها، ممَّا هو معروف لإنسان هذا العصر، حتى إن الإنسان عرف أن هناك نجوماً انطلق ضوؤها قبل مليون سنة ووصل إلينا الآن، لقد تغير كل شيء، وأصبحنا نرى الآن ما لم يره الأولون.

إن كل شيء في الكون يُسبح الله، فالدماغ في داخل الجمجمة الصلبة يُسِّبح الله، والمياه التي تجري على الأرض، والشجر المزروع، كل هذه المخلوقات تسبِّح الله، وحين يرفع الإنسان رأسه إلى السماء وينظر فيها، ويجول بنظره في أرجاء الأرض، ويكتشف معالمها، فإنه يسبح الله ويمجده، سواء أكان عالماً أو أُمِّياً، إنه حين يرى الرياح المسخَّرة والسَّحاب المسيَّر، ومناظر الطبيعة ؛ يضطرُّ أن يخضع ويخشع ويسبِّح ويقدِّس خالق هذا الكون ومبدعه..، إنها آية التسبيح الكونية..

التَّسبيح والفطرةُ:

إنَّ فطرة الإنسان تضطره إلى تسبيح الله، وقد غرس هذا في أعماقه منذ الأزل، وقد قال الله تعالى في ذلك: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ] الأعراف: 7/172 [، إننا لا نزال نقول بلى، شئنا أم أبينا، ولا يقولها المؤمن فقط، بل يقولها كل إنسان له دماغ ويفكر ويرفع نظره إلى السماء، أو ينظر من خلال المجهر إلى الخلية، إنه يضطر أن يعظم الخالق، وأن يقول: بلى.

إن ما ذكره الله من أزلية الاعتراف بالخالق لدى الإنسان، يعني أن هذا الكون ليس عبثاً، ومن يقول: إن هذا الكون عبث فكلامه هو العبث ؛ لأن هناك شيئاً مكتوباً في الدماغ، ومكتوباً في القلب، ألا وهو التعظيم والاعتراف بالخالق.

إنه شعور يعيشه الإنسان، ومركز الشعور هو القلب وليس الدماغ، والناس يتحدثون عن القلب كمركز للمشاعر والأحاسيس، والله يقول: (ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ] الرعد: 13/28 [، إننا نُحسُّ بالأمن أو الخوف في أعماق قلوبنا، والوصول إلى معنى التسبيح ليس بالتكرار الأجوف للفظ التسبيح، فالتسبيح شيء يحياه الإنسان، وعليه فقط أن يرفع الرَّان عن قلبه لتشرق الفطرة المودعة في قلبه، والتي لا يزال يحتفظ بها في أعماقه..

التَّسبيح والتَّأويل:

حين يقول الله: (سبَّحَ للهِ ما في السَّمَاواتِ وما في الأرْضِ) ؛ فإنه يضعنا أمام آية أخرى من الآيات المفتاحية في تأويل القرآن، إنَّه قال: (سبَّحَ للهِ ما في السَّمَاواتِ وما في الأرْضِ)، ولم يقل: سبَّح الإنسان، ولكن علينا أن نفقه تسبيح الكون (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ] الإسراء: 17/44 [، فعيننا تسبَّح، وقلبنا، وأذننا، وكل جسمنا، والكون من حولنا كله يسبح، وهو معبد للسعادة، والطمأنينة، و\عمل الخير، وإنقاذ الإنسان، وبذل المعروف الذي أراده الله.

وهذه الآية مفتاح هام، ونستطيع أن نفهمها فهماً مختلفاً عن فهم السابقين، والذين يأتون من بعدنا سيفهمونها فهماً مختلفاً عن فهمنا.

إن تسبيح الكائنات لله، أفهمه على أنه خضوعها لقوانينه وسننه ؛ فلا يستأخرون عنها ولا يستقدمون، وكل شيء يسير بنظام مدهش، وحتى تخلف العالم الإسلامي يحسب بالقوانين والسُّنن، فالإنسان الذي لم يعرف طبيعة الآفاق والأنفس ؛ لا يمكن أن يعرف الله جيداً، ولا يمكن أن يتقدم، لذلك قال تعالى: (انْظُرُوا) إلى مخلوقات الله وإلى ضخامتها أو صغرها، إنها عظيمة بصغرها، عظيمة بكبرها، انظروا إلى الذَّرة وإلى المجَّرة، إلى الإنسان والطحلب.

إنَّه كون فسيح مترابط يشدُّ بعضه بعضاً، وهو بازدياد مستمر، وقد روي أن بعض الصوفية قال: يا رب اجعلني أفهمك جيداً، فكاد يصير مجنوناً، فقال: يا رب ليس على قدرك بل على قدري، ونحن الآن نفهم الله والكون على قدرنا وليس على قدر الله أو الكون، فالله تعالى قال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) ] الجاثية: 45/13 [. ولكن ما الذي كان يفهمه العربي حين نزلت عليه هذه الآية، وما الذي كان مُسخَّراً في ذلك الحين. لقد كان الناس ينظرون إلى الأرض على أنها مركز الكون، وحين اكتشفوا أنها جرم صغير وليست مركزاً للكون ؛ أصيبوا بصدمة شديدة وتغيرت مفاهيمهم ونظرتهم للكون وللحياة ولكل شيء.

كَشف الآفاق وكشف الأنفس:

يقول الله تعالى بع ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) ] الصَّف: 61/2-3 [، وهنا ينقلنا الله من آية آفاقية، آية التسبيح، إلى آية أنفسية، فيقول: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)؟ ولكن كيف نصبح فعَّلين لما نقول؟ إنه أمر صعب ولكنه لذيذ وممتع، لأن الإنسان حين يأتي بأمر سهل لا يشعر بالفخر، أما حين يأتي بأمر صعب فإنَّه يشعر بالفخر والإنجاز، إنَّه ينادي الإنسان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)، هذا الإنسان ما تاريخه؟ وكيف تَّمت صناعته؟ وكيف صار يقولُ ما لا يفعل؟ وكيف تغيَّرت مفاهيمه عن الشمس والأرض؟ بعد أن كان يظن أن الشمس عندما تغيب تدخل في جوف الأرض، كيف تعب الناس إلى أن كشفوا هذا من آيات السماء والأرض؟ وما هو الجهد الذي ينبغي أن يُبذل لكي نصل إلى كشف قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)؟ إنه يحتاج إلى جهود كبيرة كالتي بُذلت لأجل تسخير الكون ؛ حتى يصير الإنسان جديراً بان يكون إنساناً، فيتخلى عن الجبن والخوف والحقارة، ويصل إلى رؤية الجمال والجلال والكمال...

والحمد لله ربِّ العالمين


المجلس التاسع

الإنسان والكون والتسخير

الاثنين: 174 ذو الحجة 1413 هـ / 7 حزيران 1993م


تمهيد:

بدأنا في المجلس السابق بتفسير سورة الصَّف، وقد تحدثنا عن قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) ] الصف: 61/1-3 [، وفي هذا المجلس نتابع الحديث حول هذه الآيات والآيات الأخرى من سورة الصَّف، ونسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يلهمنا رشده، وأن يعلمنا تأويل كتابه.

قانون الله في الكون:

في الآيات الثَّلاث الأولى من سورة الصَّف، يَعرض الله أسلوباً جديداً يجب أن ننتبه إليه جيداً ؛ لأنه يفيدنا في فهم القرآن فهاً سليماً.

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ)، ما في السماوات والأرض يشمل كل المخلوقات، وقد ذكر الله المخلوقات بشيء من التفصيل في سورٍ أخرى فقال: (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) ] الحج: 22/18 [، فكلُّ ما في السماوات وما في الأرض يخضع لنظام وضعه الله لها، فالأرض والسماء خاضعة لله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ] فصلت: 41/11 [، وربما يصعب علينا تصور الأوامر الموجَّهة إلى الجمادات، ولكن أوامر الله إلى الأشياء ليست كأوامرنا، فنحن نستفيد من السُّنَّة أو القانون ونسخره، ولكننا لا نخلقه، أما الله فهو الذي يخلق القانون أو السنة التي يسير عليها الكون كلُّهُ، فالله يأمر الكون باتباع النظام المحدد له: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ] يس: 36/38-40 [، إنهم يسبحون بنظام لا يتأخرون عنه لحظة ولا يتقدمون.

ونحن الآن نريد أن نفهم نظام القرآن في فهم الكون، فالإنسان حين يولد ويدخل إلى ميدان الحياة لا تكون عنده أية معلومة عن هذا الكون ؛ ولكنه يرى بعينيه الأرض والسماء، والشَّمس والقمر، واللَّيل والنهار، ودورة الحياة في الفصول الأربعة، ويلاحظ حياة النباتات والأزهار والحيوانات وموتها ؛ فيتساءل ما هذا الوجود؟ وما هو النظام الذي يحكمه؟ فيقول لنا ربّنا بلسان عربي مبين: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، إنه تعالى خلق الكون العظيم، وخلق الإنسان صغيراً إذا ما قورن بهذا الكون، فما موقع هذا المخلوق بالنسبة لهذا الكون وما دوره فيه؟ هذا ما ينبغي أن نستخدم إمكاناتنا وطاقاتنا لكشفه وفهمه.

الإنسان بين الطاعة والمعصية:

آية (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) تبين علاقة الكون بالله، وتشير إلى أنها علاقة تسبيح وتنزيه له سبحانه وتعالى، وتنفيذ لأوامره تنفيذاً دقيقاً، فالكون لا يستطيع أن يخرج عن نظام الله وقانونه المودع فيه.

لكن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع الخروج عن نظام الله، لذلك جاءت الآية التالية بعد وصف حالة تسبيح الكون لله، وقالت: (يا أّيُّها الذين آمنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلونَ)، لم تخرجون عن نظام الله وقد خضعت له سائر المجرات والنجوم الضخمة، إلى النباتات والحيوانات.

فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يخرج عن نظام كل المخلوقات (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) ] المؤمنون: 23/14 [، أي أنه وحده القادر على المعصية، وقد بدأ آدم بالعصيان، بينما باقي المخلوقات لا تعرف إلا الطاعة والتسبيح والخضوع، وقد خوطب بـ (لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلونَ) لأنه وحده القادر على أن يقول ما لا يفعل.

فعلينا أن ننتبه إلى هذا الفرق الجوهري بين الإنسان وسائر المخلوقات، فنحن مأمورون بأن نُحدِّق في الكون وأن ننظر فيه ؛ خصوصاً وأننا نمتلك في هذا العصر من المعلومات والأدوات ما يمكننا من ذلك.

الإنسان والكون في مواضيع القرآن:

إذا أردنا أن نوجز المواضيع التي يتحدث القرآن عنها: فإننا نجدها ستة مواضيع رئيسية وهي:

أولاً: الله: وهو مبدع الكون، والذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وقد وصف نفسه بشكل موجز في سورة الإخلاص فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ] الإخلاص: 112/1-4 [.

ثانياً: الكون: وهو كل المخلوقات التي يتحدث عنها الله في القرآن وتضمها عبارة (ما في السماوات وما في الأرض).

ثالثاً: الإنسان: وهو الجزء المختلف في هذا الكون، والمستخلف لإعماره وتسخيره.

رابعاً: اليوم الآخر: وهو نهاية الكون.

خامساً: المسؤولية: التي يتحملها الإنسان عن تصرفاته وأفعاله.

سادساً: الحساب: الذي يعطى فيه الإنسان جزاء عمله.

هذه هي المواضيع الرئيسية في القرآن، وباقي ما في القرآن تفصيل لها:

ففي الآية الأولى (سَبَّحَ لله …) ذكر موضوعي الله والكون، وفي الآية الثانية (لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلونَ) دخل موضع الإنسان.

وإذا كان الكون يسبِّح الله، فإن الإنسان يسبِّح الله كتسبيح الكون، ويسبِّحهُ تسبيحاً خاصاً به، فكل ذرة وخلية في جسمه تسير وفق القانون الإلهي، ولا تتخلف عنه لحظةً واحدة، فهو بهذا جزء كباقي أجزاء الكون، أما التسبيح الخاص به فهو تسبيح إرادي يتكلم به لسانه، ويعيه قلبه، وهذا غير موجود عند باقي الكائنات، وهذا ما أعطاه إياه الله حين قال: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ] الحجر: 15/29 [، فالله نفخ في الإنسان روحاً أخرى، وجعلهُ يستطيع أن يُسَخِّر الكون.

إذن، فجميع الكائنات لها شرائعها وقوانينها، ولكن الإنسان له نظام آخر هو نظام النفخ الذي تلقاه من روح الله، وهو الذي جعله خلقاً آخر، والإنسان سيحاسب على هذه المسؤولية التي حَّمله إيَّاها ربُّه.

إن طاعة الإنسان لله على نوعين طاعة إجبارية تتعلق بخصائصه الجسمية، وطاعة اختيارية تتعلق بأوامر الله ونواهيه وهي التي يستطيع أن يعصيها وان يخالفها.

الإنسان في رحلة تسخير الكون:

لقد خلق الله الكون وفق سنن صارمة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ] فاطر: 35/43 [، وإذا تعامل الإنسان مع هذا الكون وفق السُّنن التي بَثَّها الله فيه ؛ فسيطيعه ويخضع له، وسيتسخَّر لخدمته، ونحن نرى كيف يزداد تسخيره يوماً بعد يوم، وقد عاش الإنسان حيناً من الدهر لا يعرف التسخير، فكان يصطاد الحيوان ويأكله فقط، ولم يكن يستخدمه.

فهناك إذن علاقة بين الله وبين الكون وبين الإنسان وبين اليوم الآخر في مواضيع القرآن، فاللهُ خلق الكون وفق نظام قابل للتسخير، وخلق الإنسان قادراً على تسخير الكون، وفي الوقت نفسه قادراً على أن يطيع الله أو يعصيه، وفي الآخرة سيحاسب على عمله، وسيجزى بالجزاء الذي يستحقه.

وأعتقد أن هناك يوم دين اكبر، ويوم دين أصغر، فيوم الدين الأصغر: هو اليوم الذي يجزي فيه الله الناس على أعمالهم، وهذا الجزاء في دار الدنيا، وذلك وفق تعاملهم مع سنن الله وقوانينه، أما يوم الدين الأكبر: فهو يوم الحساب الكامل في الآخرة.

وأرجو أن نفهم هذه العلاقات، التي ينطق الكون بها، ويعيها المؤمن والكافر، ونراها في تعاملنا مع كل جزء من أجزاء الكون.

وفهمنا لهذه الأمور ؛ سيعطينا فكرة عامة عن القرآن، ونستطيع بعد ذلك إرجاع كل آية إلى واحد من المواضيع الستة المبثوثة في القرآن، فنقول: هذه متعلقة باليوم الآخر، وهذه متعلَّقة بالإنسان، وهذه تبحث في خالق الكون، وهذه تشرح موضوع الكون.

إننا نبحث كل هذه المواضيع، لكن الماديين الذين يبحثون في الموجودات ؛ لا يستطيعون أن يفهموا هذا، ولأنهم غير مؤمنين، فإنهم يبحثون شيئين فقط: الإنسان والكون.

إن هذا الفهم يجعلنا ندخل إلى كتاب الله بوضوح وطمأنينة وارتياح، فحين نشرح آية، أو نفهمها، أو نبلِّغها، أو نسأل عنها ؛ نستحضر مواضيع الكون والحياة والتسخير ؛ لأنه ليس بوسع أي إنسان أن ينكرها، فهو جزء منها، ويُسخَّرها، ويعيش معها، أما الله واليوم الآخر ؛ فإن كثيراً من الناس ينكرونهما، وسوف لن يحاسبهم ربهم على إنكارهم في الحياة الدنيا، وحسابهم عليه في الآخرة.

الخلق يدلُّ على الخالق:

إذا أردنا أن نتعرَّف على الله ؛ فسبيل ذلك ليس التأمل الذاتي في مفهوم الله، بل التحديق في الكون الذي خلق، والله يأمرنا بهذا فيقول: انظروا وتفكروا، انظروا إلى السحاب كيف نسوقه، وإلى السماء كيف جعلناها سقفاً محفوظاً، وإلى النبات والدواب، فالإنسان لم يكن يعرف شيئاً، ثم تعلم أسرار الكون شيئاً فشيئاً: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ] طه: 20/114 [، فحين قال الله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ] الجاثية: 45/13 [، حين قال هذا ؛ لم نكن نعرف كيف سُخَّر الكون لنا، وكان التسخير بعيداً عنا، فلم نكن نعرف كيف سُخِّر النباتات، بل كنا نقطفها ونأكلها فقط، لكن الناس تعلموا كيف يربّون أنواع الحيوانات، فيستفيدون من لحومها وأوبارها وألبانها، وقد ذكر القرآن النَّحل، والبقرة، والخيل والبغال والحمير، وسيخلق الله في المستقبل ما نعجز عن تصوره الآن: (سَنُريهمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبينَ لهمْ أَنَّهُ الحَقُّ) وفي كلِّ عصرٍ سيخلق أشياء لم يرها الذين من قبل: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) ] ص: 38/88 [، والقرآن حدثنا عن آيات لم نرها حتى الآن فقال: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ) ] النمل: 27/82 [، إنها مخلوقات عجيبة امتلكناها بتسخيرنا للطَّاقة، وقد علمنا الله إذا ركبناها أن نقول: (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ] الزخرف: 43/13 [، وكما سَخَّر الإنسان الدّابة سخَّر البترول والحديد والكهرباء، وصنع الطائرة والصاروخ، ولا زال الحبل على الجرَّار، وفي كلِّ مرٍ يخلق ما لا تعلمون.

إنَّه تعالى لم يكلفنا شيئاً مستحيلاً بل قال: (انْظُروا)، وقال: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) ] البلد: 90/8-10 [، إننا نرى هذا بأعيننا.

القرآن وسنَّةُ الإنسان:

إن أبحاث العلماء في كليات الطب والهندسة والزراعة والفيزياء والكيمياء ؛ تنصبُّ على معرفة قوانين وسنن المخلوقات الكونية، وهم يتوسَّعون في هذا فيقسّمون حقول البحث إلى اختصاصاتٍ، كي يزداد تسخيرهم لهذا الكون وإحاطتهم به، ولكن القرآن يتحدث عن مشكلة الإنسان، ويبحث في سنَّة الإنسان ؛ لأن الإنسان لم يخلق سُدىً، ولم يخلق عبثاً، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ] المؤمنون: 23/115-116 [، إن الإنسان لم يخلق عبثاً، ومن يقول بأنه عبث يعيش في العذاب، ويشعر في أعماقه بالحيرة والقلق، وهذا لا يدرس دراسة غيبية، بل هو أمامنا في عالم الشهادة.

فعلينا أن ندرس مواضيع القرآن، وموقع الإنسان من تلك المواضيع، فالله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون، ولكي نعرفه ينبغي أن ننظر في مخلوقاته في السماوات والأرض، لذلك (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ] فاطر: 35/28 [، وهذا الكون فيه طاقات هائلة، ستطيع الإنسان أن يُسخرها للخير أو للشَّرِّ، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ] الروم: 30/41 [، وقد صار العلماء المدركون يخشون من الإفساد في الأرض، ويرون أخطاره الكثيرة، في تلوث البيئة، وفي ثقب الأوزون، وفي الإشعاع النووي.

والقرآن يتحدث عن مواضيع كبيرة كموضوع التسخير، ومهما تحدثنا عنه لا يمكن أن نحيط به، سواء عملنا كلاًّ لوحده، أو اجتمعنا جميعاً لذلك، لأننا لا نتصور المستقبل، لذلك علينا أن نتنافس في الفهم والتسخير..

القيامة الكبرى والقيامة الصغرى:

الإنسان مسؤول عن سلوكه وسيحاسب عليه، وقد قلنا إن هناك قيامتين: قيامة صغرى، وقيامة كبرى، والقيامة الكبرى هي يوم تتهاوى السماوات والأرض، ويقوم الناس جميعاً لرب العالمين، أما القيامة الصغرى: فهي الجزاء الدنيوي بما كسبت أيدي الناس: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ] الشورى: 42/30 [، فالنكبات التي يعيشها العالم اليوم ؛ هي من صنع أيدهم، وخاصة المسلمون، الذين يصابون بأكثر النكبات، وهم الذين كتبوا في الأذلين، والعالم كله يحتقرهم.

ونحن إذا درسنا كتاب الله ؛ ورأينا ما يقوله عن الإنسان، وما يقوله عن الكون، فإنه سيعلَّمنا أن الكون مُسَخَّر بقوانين، وعلينا أن نتعرف على هذه القوانين ؛ لأن التسخير لا يتم إلا بها، والذين يُسخَّرونه هم الذين يطلبون علم سنّة الله.

أظن أن عرضي لهذه الأمور ؛ عرض مبسَّط، إن هذا الكون العجيب لا تنفذ عجائبه، رغم اتساع العلوم والاختصاصات، والإنسان استطاع بإدراكه واستيعابه أن يكشف ويسخَّر أموراً كثيرة، هذه الإمكانيات تدلُّ على مدى التكريم الذي يتمتع به: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ] الإسراء: 17/70 [.

إذن، ينبغي أن نبحث في شأن الإنسان، فالقرآن اهتَّم به أكثر من اهتمامه بالوجود كلَّه، وحذَّر المجتمعات من فساد هذا الكائن الذي أودع فيه الأمانة.

التَّسبيح سُنَّةٌ مستمرَّةٌ:

نعود إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، فبعد أن تحدث الله عن الكون، وعن تسبيحه لخالقه ؛ انتقل إلى الإنسان.

لقد كان القرآن ينزل وفق المناسبات والوقائع، لكن آية التسبيح واقعة مستمرَّةٌ، يراها الإنسان كل يوم، فهو يرى شروق الشمس وغروبها، ويعلم في كل عصر أموراً تختلف عن المعلومات السابقة، فقد علم في هذا العصر عُمرها، وبُعدها، وموقعها من الكون، وقاس درجة الحرارة في أعماقها، والإنسان الذي يعيش سبعين سنة أو ثمانين سنة، في كل يوم يرى الشمس ويرى سُكون الليل: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [ القصص: 28/71-72 ].

إن علينا أن نجدَّ ونبحث، وألاَّ نكون كاللاهين اللاعبين الغافلين، فالذي ينتبه ويسعى يبقى يقظاً مشدود الأعصاب كسائق السيارة الذي يخاف من الوقوع في الحوادث.

إن الكون يسير وفق سنَّة محدَّدة علينا أن نعيَها، والإنسان يمر بأطوار مختلفة، من الصَّحّةِ والشباب، إلى المرض والشيخوخة والكبر: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) [ الرّوم:30/54 ].

الإنسان وقابلية التَّعلُّم:

يخاطب الله الناس بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)، لأن الناس أنواع منوعة، والمقصود بالأنواع ليس: العربي والفارسي والهندي و … ؛ بل هي: المؤمن والكافر والمنافق والصادق والكاذب والصالح والفاسد …، وبفضل الله ونعمته ليس للنَّسب في الإسلام أهمية، فقد خلق الناس جميعاً من صنف واحد ؛ قابلين للتَّعلُّم والدَّراسة، ولو كان الناس متفاوتين، منهم الجيد ومنهم الرديء ؛ لوقعنا في مصيبة كبيرة، فالحيوانات أنواع متعددة ؛ الخيل منها الرديء ومنها الجيد، وكذلك الأبقار وغيرها …، بينما البشر نوع واحد، وليس هناك صنف غير قابل للتَّعلُّم، والتفاوت الوحيد هو في مقدار ما يتعلمون، والَّذين يعتقدون أن الناس صنفين: صنف قابل للتَّعلُّم، وصنف غير قابل للتَّعلُّم ؛ هؤلاء يكذِّبهم التاريخ والواقع ؛ لأن بعض الأمم سقطت، وبعضها ارتفعت، وارتفاعهم الآن ليس دليلاً على أنهم من طينة أخرى ؛ بل هو العلم والمعرفة والتربية، ومن هنا فإنَّ صناعة الإنسان ؛ بنفسيته وأفكاره ومفاهيمه، هي وظيفة البشر وليست وظيفة الله، فكما أن الله خلق الكون مسخراً، والإنسان هو الذي يُسخَّره ويكتشف قوانينه ؛ كذلك خلق الإنسان قابلاً لأن يكون في أحسن تقويم، ولأن يكون في أسفل سافلين (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [ الشَّمس: 91/9-10 ].

إذن، هذا الإنسان له قدرة كبيرة ؛ فينبغي أن ينصبَّ كل جهدنا على هذا الإنسان، الذي صنع في المجتمع وتلقى المفاهيم عن محيطه، قال : « كلُّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجسانه » (1)، إنَّه لم يذكر هذه الأنواع للإحصاء، بل لضرب المثال على ما يصنعه المجتمع بالمولود.

لقد صنعتنا الأجيال السابقة، ونحن نصنع الأجيال اللاَّحقة، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ النَّحل: 16/78 ]، لقد أعطانا جهاز المعرفة، جهاز العلم، جهاز الفهم.

إنني أتدارس معكم القرآن، وأتحدث عن التسخير، لكن الحديث عن التسخير ليس هو الهدف الرئيسي من شرحي، لأن هذه الأحاديث يُبدع فيها الاختصاصيون، فالفلاح يرى العجب في نباتاته، وكذلك الفلكي والمخبري والطبيب، وكل ذي اختصاص في اختصاصه.

إنَّ الذي نريد أن نبحثه ونتعمق فيه ؛ هو ما اهتم به القرآن اكثر من اهتمامه بالكون، إننا نريد أن نبحث في مشكلة الإنسان، كيف نجعل الإنسان فاضلاً؟ كيف نجعله صادقاً يفعل ما يقول؟ إنها وظيفة الإنسان التي نبَّه إليها القرآن (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، كيف نستطيع أن نقول ما نفعل، وأن نفعل ما نقول؟ فلا نكون من الذين يمقتهم الله، يجب أن نبحث طبيعة الإنسان كي نعرف هذا.

إن الناس استطاعوا أن يسخروا المادة، ولكن لم يعد يدهشهم مشهد التسخير الذي ألفوه، فالشمس التي نراها كل يوم لا نتعجب منها، ولو أن شمساً أخرى برزت لدُهشنا كثيراً، ولصارت حديث الناس جميعاً، وكذلك في موضوع التسخير، إننا لم نعد نعجب من مشاهد التسخير المادي (فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [ الحديد: 57/16 ]، لهذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للكون، وتتجدد رؤيتنا بالتعامل مع القرآن، فهو في هذه السورة التي بين أيدينا - سورة الصَّف - بدأ بالحديث عن الكون وتسبيحه، ثم تحدث عن الإنسان وكيف يقول ما لا يفعل، ثم يتحدث عن الذين يحمون حياة الإنسان ويقاتلون صفّاً واحداً، ثم تحدث عن موسى عليه السلام وبني إسرائيل، ثم عن عيسى عليه السلام، ثم تحدث عن الذين يكذبون بآيات الله ويحاربونها، ثم يدل الناس على التجارة الرابحة التي تنجيهم من العذاب الأليم، ثم تحدث عن حواريي عيسى عليه السلام.

إن هذه الآيات مدنية، وليست كالمكيَّة الموجزة السريعة مثل: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) [ النَّجم: 53/1-3 ].

الإنسان ورحلة الاستواء:

يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [ الصَّف: 61/4 ]، فكيف نبحث موضوع القتال؟ وما هو القتال المشروع وما هو القتال الممنوع؟ لماذا يُقاتَلُ الإنسان؟ وكيف بدأ القتالُ؟ إن علينا أن نتخصص في دراسة هذه الأمور، فالناس اليوم يقضون عمرهم في تخصص صغير، ليعرفوا هذا الإنسان، وليعرفوا سنن الكون.

لقد سخَّر الإنسان النّار منذ (مليون ونصف) سنة، وكان هذا هو التسخير الأهم في تاريخه، قال تعالى في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، …، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، …، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، …، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ) [ الواقعة: 56/58-72 ].

إنَّ الاستواء الذي عليه الإنسان اليوم ؛ احتاج إلى وقت كويل، ونحن لم نكن نعرف هذا ؛ حتى زلزلت الأرض زلزالها، وبدأت تُحَدِّث أخبارها، وإذا كان الله يُحدَّث الناس بكلام أنزله بلغتهم ؛ فإنه يحدِّثهم أيضاً بآياته في الأرض، بآياته في الآفاق والأنفُس، فينبغي أن نعرف لغة الله في الآفاق والأنفس ؛ لأن الذين يعرفون هذه اللغة هم الذين يسخِّرون الكون، والَّذين يجهلونها لا يعرفون كيف يتعاملون مع الكون، ولا يستطيعون تسخير شيء.

وأظن أننا استطعنا أن نبسِّط في هذه الجلسة مواضيع القرآن: الله، الكون، اليوم الآخر، المسؤولية، الحساب، وهذه السورة تجمع هذه المواضيع كُلَّها، فموضوع الله والكون في قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ)، وموضوع الإنسان في قوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)، وموضوع الآخرة والحساب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) [ الصَّف: 61/10-13 ].

وعلينا أن نبلور هذه المواضيع، لكي نأخذ صورةً واضِحةً عنها ؛ فنحيي بذلك ديننا، وإذا رجعنا إلى ربِّنا وسألنا: ماذا فعلتم بهذا الذكر الذي أرسلته إليكم؟ نجيبه إجابة ترفع رؤوسنا وترضيه عنا، وقد وعدنا أيضاً أن يحيينا حياةً عزيزة في الدنيا، وان يُدخلنا الجنّة في الآخرة ؛ إن أخذنا به وتمثَّلنا دعوته.

إن إعادة المسلمين إلى القرآن، والكشف لهم عن كنوزه ؛ واجب مقدس، وأرجو أن نتعاون جميعاً لنوضِّحه، وننشره، ونبلِّغه للآخرين، لأن نشر العلم واجب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ) [ البقرة: 2/159 ].

الحساب على المعتقد:

قلت في بداية شرح قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) قلت: إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على المعصية، ويحق لهذا الإنسان أن يعصي، ولكن ما معنى قولنا: يحق للإنسان أن يعصي؟

لكي أُبيَّن هذا سأعود إلى تسبيح الإنسان، فأقول: إنَّ للإنسان تسبيحين: تسبيحٌ في جسده، كالكائنات الأخرى، فجسده كلُّه يعمل بالتسبيح وفق القانون الإلهي، وله تسبيح آخر، ولكن هذا التسبيح إرادي، فالإنسان له قدرة على الطَّاعة، وله قدرة على المعصية: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [ الشَّمس: 91/9-10 ]، والله سبحانه هو الذي وهب له هذه القدرة: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [ الأنعام: 6/149 ]، ولكن ما معنى لهم حَقٌّ في المعصية؟ هذا يعني أنه لا يجوز لنا أن نعاقب الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولم يسمح لنا الله بأن نزيلهم من الوجود، وإنما لهم الحق في أن يوجدوا، ولهم الحق في أن يعيشوا، فما قال الله عنا: إن عليكم أن تبيدوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وإذا كان لهم الحق في أن يعيشوا في هذه الدنيا ؛ فإن الله سيحاسبهم يوم القيامة، وليس لنا أن نحاسبهم على شركهم في هذه الدار، قال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [ الكهف: 18/29 ]، ولكن ليس معنى هذا أنه لن يحاسب في الآخرة، قال تعالى: (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [ الطَّارق: 86/17 ]، وقال: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [ إبراهيم: 14/42 ].

إذن، نحن لا نُحاسب الكافر: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) [ الغاشية: 88/22-24 ]، قال فيعذِّبه الله، ولم يقل فعذِّبه أنت، فإذا أراد إجبارنا على الدخول في معتقده ؛ عند ذلك يُباح لنا أن نواجهه بكل الوسائل الْمُتوفرة، حتى ولو كانت قتالاً له، فندفعه عن ظلمه الواقع علينا أو على الآخرين، ولكن ضمن شروط واضحة ومحددة لا نحيد عنها.

شروط الجهاد:

إنَّ دفع الظلم ينبغي أن يكون ضمن قواعد محددة، وهو ما نطلق عليه اسم: شروط الجهاد، وأرجو أن نتعاون جميعاً لنُبيِّن هذه الشُّروط، ونجدِّد فهمنا للإسلام الذي غبنا عنه طويلاً.

إنَّ الكافر الذي لا يعتدي علينا، ولا يكرهنا على مُعتقده ؛ له الحق في أن يعيش بحقوق كاملة، وليس لنا أن نتعرَّض له بالسّوء: (لايَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [ الْمُمتحنة: 60/8 ]، فما دام يعامل الناس معاملة طيبة، ولا يقتل أحداً لأجل دينه، ولا يخرجه من دياره ؛ فله الحق في أن يعيش في المجتمع الإسلامي، ولا نسأله عن دينه، فلا فرق بين كتابي وغير كتابي في هذا الموضوع.

إنه موضوع هام وخطير، وأعتقد أنَّه واضح جداً، فإن لم يكن كذلك ؛ فأرجو أن يوضِّحه غيري، وإذا وجد خطأ ما في فهمي ؛ فليوضحه لي أو ليسألني عنه، وأرجو أن نبلِّغ هذه الأفكار، فالتبليغ أمانةُ علينا أن نقوم بها، ولكن قبل ذلك يجب أن تكون الأفكار واضحة لدينا، فقد سمّاه الله بلاغاً مبيناً فقال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [ النَّحل: 16/82 ]، فإذا لم يكن البلاغ مبيناً ؛ فعلينا أن نسأل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [ الأنبياء: 21/7 ]، فإذا لم يكن كلامي واضحاً ؛ فاسألوني، فربما أستطيع أن أجعله مبيناً، وربما أعجز، ونحن لا نستطيع أن نكشف عن كل شيء، وحدودنا يجب أن نعترف بها، والعلماء الذين سيأتون في المستقبل، يمكنهم أن يوضحوا هذه الأشياء: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [ الأنعام: 6/89 ].

إذن، الحساب يوم القيامة، واللهُ هو الْمُحاسب، إنَّهُ يحاسب الإنسان لأنه أنعم عليه بنعمة التَّسخير، وفي حياتنا نرى أن الإنسان إذا أعطى آخر شيئاً ؛ فإنه يحاسبه عليه.

الدعوة لغير الإسلام في المجتمع الإسلامي:

إذا كنا نعطي للكافر الحق في أن يعيش دون أن يغير شيئاً من معتقداته ؛ فهل نسمح له بالدعوة إلى أفكاره في المجتمع الإسلامي؟

حسب فهمي للقرآن - والقرآن نصّ لكل المسلمين - فإنه لا يمنع أي إنسان من تزيين أفكاره، وعرضها على الناس، والدعوة إليها ؛ ما دام لا يُكره النَّاس على الدُّخول فيها.

إن المسلمين يتركون واجبهم في تعليم القرآن، ويتركون النَّاس جهلة ؛ ثم يريدون أن يقفوا في وجه المبشِّرين الذين يأتون إلى البلاد الإسلامية، ويَستغلُّون الْجَهَلة من المسلمين.

لا نستطيع أن نُحرِّم على أولئك دعوتهم إلى أفكارهم، ولكننا نحرِّم على المسلمين أن يبقوا جاهلين بالقرآن، ونحرِّم عليهم توقُّفهم عن نشر العلم، وبدلاً من الحماس للوقوف ضد أولئك، فلنعمل على نشر المعرف والعلوم.

ينبغي ألاَّ نترك احداً يجهل القرآن، وإذا فعلنا هذا فسننتصر على المشركين، وليس ذلك فحسب ؛ بل سينتشر هذا النور في كل أرجاء العالم.

وهذا الموضوع موجود في سورة الصَّف حيث يقول اللهُ تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [ الصَّف: 61/8 ]، فإذا تعلَّمنا ونشرنا العلم، عند ذلك لن نخشى على أنفسنا وعقولنا من أحد، ورسول الله  قال: « إنَّما بُعثتُ معلِّماً » (1)، وطلب العلم فريضة، والذي يكتم العلم عقوبته أشدُّ من أيَّة عقوبة أخرى، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ البقرة: 2/174 ].

المسلمون والعلم:

إننا نثير موضوعاً خطيراً بحديثنا عن العلم، فالعلم الإسلامي لم يعد يقدر العلم، وإنَّما يقدِّس الظلم، ولهذا فالمسلمون لا يخشعون للعلم ؛ بل يخنعون للظلم، فأصبحنا أذلَّة لا نرفع بما بعث الله به نبيَّه رأساً، بينما ينبغي أن نعتَّز بديننا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [ يونس: 10/58 ]، أمّا إذا كسلنا وقعدنا، ولم نتعلم القرآن، ولم نعلِّمه لناس ؛ فلا نَلومنَّ إلاّ أنفسنا: « فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » (1)، ولكن مع كل هذا التقصير ؛ فغن المسلمين يحملون قوَّة ومناعة عجيبة لا يحملها أيُّ مجتمع آخر، ومع جهلهم يدخل في دين الله علماء كثيرون، وهؤلاء الذين يدخلون في الإسلام، هم الَّذين يفهمون الكون فهماً عميقاً.

إنَّ الَّذين يمنعون الناس من شرح معتقداتهم والدَّعوة إليها ؛ يظنون أن أفكار الآخرين أقوى من أفكارهم، وهذا يعني أنهم لا يثقون بدينهم، ولا يثقون بعقول الناس، ويعتقدون أن الناس بمجرد أن يعرفوا المعتقد الآخر سيقبلونه، وهذا دليل على هزيمتهم المسبقة، وهذه إساءةٌ لديننا، ومجرد أن يظن المسلم أنَّ دينه لا ينتشر، ولا يمكن أن يقبله الناس ؛ فإنه يسيء إلى دينه، ولا يثق به.

لقد كان الإسلام ينتصر على المشركين في عقر دارهم، فما بالنا نخاف أن ينتصر الكفر على الإسلام في دار الإسلام.

إن على المسلمين أن يتبينوا هذه الأمور، ولن يتقدَّموا إلاّ إذا ساروا على نهج القرآن الذي يقول: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [ البقرة: 2/111 ]، قدِّمُوا أدلَّتكم، ولنتحاكم إلى التاريخ، وإذا لم يكن التاريخ كافياً ؛ فانتظروا المستقبل.

ينبغي أن نعيد ثقتنا بديننا، ونقوم بواجب الدعوة، فانهزامنا ليس انهزاماً عسكرياً ؛ بل هو قبل كل شيء: انهزام فكري، انهزام في التبشير ونشر الإسلام.

إننا لا نستطيع أن نعرض الإسلام بالرغم من إيماننا به، وذلك لأننا ضعفاء ومتخلفون ومحتقرون في العالم.

يروى أن السلطان عبد الحميد كان يضيق ذرعاً بجمال الدين الأفغاني، وبأفكاره الإسلامية، فقال له: لماذا لا تبشِّر بالإسلام في اليابان وغيرها، بدلاً من الدعوة في البلاد الإسلامية، فأجابه جمال الدين، وماذا أقول لهم إن قالوا لي: إن قومك أحوج إلى هذه الأفكار منا؟ حقّاً إننا بحاجة إلى الأفكار الإسلامية اكثر من غير المسلمين، ونحن أولى بأن يُبشِّرَ بعضنا بعضاً بالإسلام.

القرآنُ والمستقبل:

إن في العالم الإسلامي شباباً مثقفين، يتقنون الكتابة، فأرجو أن يكتبوا أفكارهم وما يسمعونه من مواضيع هامة مع أدلَّتها، ثم يسألوا عنها، وبعد ذلك يجرِّبوها ؛ فلعلَّ فيها فتحاً هامّاً، وإذا لم تنجح تجربتهم فليتعاونوا على كشف الخطأ.

إنني أشعر أنَّ هذه الأفكار ستنجح، وستنتشر، ولكن هذا لن يتم إلا بجهودنا، وقد روي أن الحجاج سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [ النَّصر: 110/1 ]، فحرَّف هذا القارئ قوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) وقرأها: ورأيت النّاس يخرجون من دين الله أفواجاً، فقال له الحجاج: ويلك يدخلون في دين الله، لا يخرجون، فأجابه قائلاً: حين نزلت الآية كان الناس يدخلون، أما في زمانك فهم يخرجون.

ونحن ينبغي ألاّ نكون فتنة لغيرنا، وحجاباً لهم عن الدُّخول في هذا الدين، وينبغي أن نوضِّح العلاقات القائمة بين مواضيع القرآن، بين الله والكون والإنسان والآخرة والمسؤولية والحساب، فنحن لا نعرف طبيعة الله ؛ لكننا نتعامل معه ونعرف صفاته من خلال مخلوقاته، كما أننا لا نرى صانعي الأهرامات، بل نعرفهم من خلال الآثار التي تركوها، فآثارهم هي التي دلَّت عليهم، على هذا النحو نعرف أسماء الله الحسنى وصفاته.

وموضوع الإنسان هو أهم المواضيع ؛ لأن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو قمة الكون، فعلينا أن نعرف إمكانيات هذا الخليفة، وأن نعرف كيف يمكن أن يستغلَّ هذه الإمكانيات.

إنَّ الَّذين سيأتون من بعدنا ؛ سيرون ما لَم نرَ، من صدق الله، ومن عمق التعرُّف على الإنسان والكون، ومن التَّعرُّف على العواقب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [ فُصِّلت: 41/53 ].

إنني أتوقع في المستقبل أن يتحوَّل الناس إلى الإسلام والقرآن، لأن القرآن سيثبت بواسطة آيات الآفاق والأنفس، وليس بواسطة الخوارق والمعجزات.

العدل والتَّسخير بين الإسلام والغرب:

إننا نتعامل مع الله من خلال مخلوقاته، ومن خلال النِّظام الذي بثَّهُ في الكون والتاريخ، وبذلك نرتاح كثيراً، لأننا نعرف كيف نتعامل مع الله، ونعرف القانون الذي إذا تعاملنا به فلن نخيب أبداً، إننا نتعرف بذلك على اسم الله الأعظم ؛ الذي إذا دعونا به أُجبنا، وإذا سألنا به أعطينا، ونعرف سنن الله ونسير وفقها.

والحضارة الأوربية قدَّمت أشياء كبيرة، ولكن الأوربيين أنفسهم ؛ لم يتعاملوا مع الله التعامل الصحيح، لقد سَخّروا الكون، إلا إنهم سخَّروه لأنفسهم فقط، وسخَّروا البشر لخدمتهم ظلماً وعدواناً، وهذا أكبر النقائض التي وقعوا فيها.

لقد قال الله تعالى في تعريف الكفر: (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [ البقرة: 2/254 ]، هاتان الكلمتان جاءتا قبل آية الكرسي مباشرة، وهي الآية العظيمة التي يتعلمها المسلمون، ويقرؤونها قبل النوم وبعد كل صلاة، (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، إذن، الشرك والكفر هو ظلم العباد، هؤلاء الغربيون (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [ الرّوم: 30/7 ]، إنهم لا يدركون العواقب البعيدة لأعمالهم، فالعدل بين الناس هو الضمانة للنتائج البعيدة المدى، والمفيدة لكل البشر.

إنَّهم نَّوروا العالم بالكهرباء والاختراعات، ولكنهم جعلوه مظلماً بظلمهم، والله يراقب في الأمم مقدار عدلها (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [ الأعراف: 7/129 ]، والعدل أقدس ما نزل من السماء، وبه قامت السماوات والأرض.

لقد كان العالم الإسلامي القوة العظمى في العالم، لفترة تزيد على ألف سنة، وحتى الآن لا تتجاوز فترة ازدهار الحضارة الغربية أربع مئة سنة، في هذه الفترة صار الذين تقول عنهم مشركين، صاروا يقودون العالم.

والآن ينبغي أن ندرس الفرق بين الحكم الإسلامي والحكم الغربي، هل كانت معاملة المسلمين للناس أفضل وأعدل من معاملة الغرب للآخر اليوم؟

أظن أن المسلمين كانوا يعاملون الناس معاملة أعدل من الذين يقودون العالم اليوم، فقد غرس في فطرة المسلمين أن الناس ليسوا حشرات، وإن كانوا يعتبرونهم مشركين، والمسلمون لم يبيدوا شعباً كاملاً، ولم يطردوه من بلده، يشهد على ذلك التاريخ الطويل للحكم الإسلامي، أما حضارة الأنوار، فهي تقوم بعمليات إبادة، فأول ما قاموا به حين صار لهم سلطان ؛ هو أنَّهم طردوا المسلمين من الأندلس، فإما أن يفارق دينه إلى دينهم، وإما أن يخرج من بلده، وفي المستقبل إن صار للمسلمين حكم ؛ ولم يعدلوا بين الناس، أو كان عدلهم أقل من غيرهم، عند ذلك ينبغي أن نخجل من أنفسنا، أكثر من خجلنا الآن لأننا أقل وأضعف من المشركين.

إن الغرب يتعامل مع سنن الله المادية تعاملاً عظيماً، ولكنهم يتعاملون مع السنن النفسية، ومع سائر البشر تعاملاً حيوانياً بهيمياً، إنهم لا يعدلون بيننا، وإن كانوا فيما بينهم يعدلون.

نسأل الله أن يعلمنا، وألاّ نظلم الناس حين يصير الأمر إلينا، وإنه لشيء ينتظرنا، ونحن لا نشمت بالغربيين لأنهم فشلوا في هذا المضمار، وكنا نتمنى لهم النجاح في هذا المجال، لقد نجحوا في مهمات عظيمة أخرى، إلا أنهم فشلوا في الامتحان الكبير.

إنَّهم ساقطون ؛ لأنهم يكيلون بمكيالين، ويظلمون الناس، « وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ » (1)، فبشِّر الَّذين يعملون هذا بالهلاك.

ينبغي أن نتمسك بالعدل والإحسان، وألا نعيب على الآخرين، وألا نقدسهم أيضاً، بل نذكر حسناتهم وسيئاتهم: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [ الأعراف: 7/85 ]، وقال  عن الرُّوم: « وأمنعهم من ظلم الملوك » (1)، أي لا يُطأطئون رؤوسهم للظلم ؛ فاعترف لهم بهذه الميزة..

الصدق أولاً:

إننا لا نزال نتقاتل قتالاً شديداً، وهذا ناشئ عن الجهل، وأظنُّ أنه قد حصل بعض التغيير الآن، فقد قرأت حديثاً للرئيس الإيراني: هاشمي رفسنجاني، يقول فيه: « لنتعاون ضد الإرهاب، ونحن ندين الأعمال الإرهابية لحزب الله، ونريد علاقات طيبة مع جيراننا، ولن نلاحق سلمان رشدي … ». وهذا تطور كبير، فخلال عشر سنوات تغيَّر العالم، وبدأ المسلمون باكتشاف أخطائهم.

ينبغي أن نرفض الإرهاب، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نزيل الإرهاب فيما بيننا، وأتمنى أن يكون الرئيس رفسنجاني مقنعاً في كلامه، وأن تكون تصريحاته هذه قاعدة للتعامل المستقبلي مع الدول الأخرى، وأن لا يعود إلى تلك التصريحات المخيفة التي قال فيها: سنحارب وسنريق دماءنا من أجل جزيرة أبي موسى، أو نحو هذا الكلام.

لقد كان بإمكانهم تغيير العراق بالطريقة نفسها التي غيَّروا بها الشاه، بدلاً من إعلان الحرب عليه.

إنني أقول هذه الأمور، وأنا أعتقد تماماً أن المسلمين سيستيقظون في القريب العاجل رغماً عنهم، وسيتعاونون رغماً عنهم أيضاً، ولن يلجؤوا إلى أمريكا لتحلَّ لهم مشكلاتهم، فالدنيا تزلزلت وتصدَّعت، ولم تعد كما كانت، وأصبح الناس يفهمون الأمور، ونحن سنفهم إن شاء الله، وسنعتزُّ بهذا الإسلام.

إن العالم الإسلامي يسير باتجاه الأفضل، ولكنه يحتاج إلى وقتٍ ربما يكون طويلاً، فلقد كُذب علينا كثيراً، ولن نستطيع تصديق كل ما يقال بين يوم وليلة، ولهذا لنا الحق في أن نستريب من هذه الأقوال ؛ حتى نتأكد أن الذين يقولون ؛ يفعلون ما يقولون.

علينا أولاً أن نَصْدُق، وأن نفعل ما نقول، عند ذلك سيحترمنا الناس، وسيحترمنا الله وينصرنا على الذين يقولون ما لا يفعلون.

إنَّ كل ما قلته ؛ فهمٌ فهمته من كتاب الله، ولا أعتقد - بحالٍ من الأحوال - أنه يحوي كامل الحقيقة الحقيقية، ولكنني أظنُّ أنَّه صواب، فإن كان لديكم من العلم والفهم ؛ ما تصححون به أقوالي، أو تزيدونها وضوحاً، فقدموه لنستفيد جميعاً، ولا تكتموه …

والحمد لله ربِّ العالمين

المجلس العاشر

الإنْسانُ وحَمْلُ الأمانَةِ

(لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)

الاثنين: 24 ذو الحجة 1413 هـ

             14 حزيران 1993 م 

التمهيد:

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس:

تحدَّثنا في المجلس السابق عن مواضيع القرآن: الله، والكون، والإنسان، واليوم الآخر، والمسؤولية، والحساب، والتي تجمعها الآيات الأولى من سورة الصَّف، وهي تبدأ بقوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ثم يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وقلنا: إنَّهُ لكي نأخذ فكرة عامَّة عن القرآن ينبغي أن نتعرَّف على المواضيع الأساسية فيه، وللقرآن مصطلحاته الخاصة ؛ فهم يضع (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) بمعنى الكون، وذكرنا أنَّ أهمَّ شيء هو أن يعرف الإنسان ربَّه الَّذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) [ الشُّورى: 42/11 ]، فالله مصدر الكون، ونتعرَّف عليه بواسطة القرآن، وبواسطة المخلوقات، والقرآن يحضُّنا على النَّظر في الكون، والتَّعرُّف على عمل السُّنن الإلهيَّة الكونيَّة فيه.

التَّعرُّف على الله:

إنَّ أخذ فكرة غير صحيحة عن الله، ضلالٌ وانحرافٌ في العقيدة وفي الحياة، والله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن الذين لا يفهمون الله، ولا يتعاملون معه وفق سننه، فيقول: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [ آل عمران: 3/154 ]، ويقول: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [ فُصِّلت: 41/23 ]، إنهم يتصورون اللهَ على غير حقيقته، وهذا الظَّنُّ يُردي الإنسان، ويصيبه بالخُسران.

إذن، لا يكفي مجرد الإيمان القولي، فأكثر الناس يؤمنون بالله قولاً، ولكن ينبغي أن نعرف الإله الذي خَلقنا معرفةً حقيقية، فالجاهلون كانوا يَظنون بالله غير الحق، ولم يكونوا يعرفون الله عن طريق الكون، وعن طريق السُّنن.

وإذا أردنا أن نصل إلى فهم حقيقي لله ؛ فعلينا أن ندرس كتاب الله، ونقارن بينه وبين الواقع الذي نعيشُهُ، والنظر إلى الواقع ضروري ؛ فبه يزداد إيماننا، ونتخلَّص من الأوهام الخرافيَّة التي يؤدي إليها الجهل، والتاريخ هو الذي يدلك على صحَّة ظنِّك بالله أو عدم صحته..

إذن، لا يكفي أن ننظر إلى كتاب الله فقط، إذا أردنا أن نتعرف على الكون والإنسان واليوم الآخر ؛ بل يجب أن نقوم بعملين: ينبغي أن ننظر إلى الكتاب، وأن ننظر إلى الواقع، والله يأمرنا أن نربط الكتاب بالواقع فيقول: (سِيروا)، (انْظُروا)، تأمَّلوا السَّماء والجبال والأرض، انظروا إلى أنفسكم، ويقول عن الذين يتعاملون مع القرآن تعاملاً جيداً: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) [ البقرة: 2/121 ].

الكتاب والواقع:

ينبغي أن نعلم الارتباط بين الكتاب المنزل وبين السماوات والأرض، والارتباط بين السُّنن وبين عواقب الأمور، والكتاب هو القرآن الذي بين أيدينا، والكون هو ما في السماوات وما في الأرض، والجانب الواقعي الذي يتحدث عنه الله هو سننه التي أقام عليها الكون والناس في التاريخ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [ الأحزاب: 33/62 ]، لن تتغير سنة الله في الكون ولن تتبدل. فرق كبير من يعتقد أن الله خلق الكون وفق نظام صارم، وبين من يعتقد بأنه يسير بعشوائية، وبدون قانون. وفرق كبير بين أن نفهم بأن الكون خلق عبثاً ؛ وبين أن نفهم بأنه مسخَّر للإنسان، وحين يقول الله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [ الجاثية: 45/13 ] ؛ فهذا يعني أن الكون خلق على نحو يكون معه مُسخَّراً، والإنسان خلق على نحوٍ يكون معه مًسخَّراً، والتَّسخير يقوم به ثلاثة أطراف: الله الذي سخَّر، والكون الْمُسخَّرُ، والإنسان الْمُسَخِّر، وليس التَّسخير مقتصراً على المادة والحيوان ؛ بل هو يتجاوز ذلك إلى الحياة الاجتماعية، وقد بدأ الإنسان اليوم بتسخير الحياة الاجتماعية، وإننا لنلمح في الحياة الإنسانية ؛ ما أشار البيان الإلهي إليه من معاني الخلافة، التي اختصَّ الله بها الإنسان حين قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..) [ البقرة: 2/30 ]، وكلمة خليفة ؛ تتضمن فيما تتضمن معاني التسخير أيضاً، فهذا الإنسان ليس كبقية الكائنات ؛ بل هو خليفة، ولم يقل الله عن كائنٍ آخر بأنه خليفة، إنه لم يقل عن الخيل والبغال والحمير بأنهم خلفاء في الأرض، وإنما قال هذا عن الإنسان، والخليفة له استقلال ؛ وبهذا الاستقلال يمكنه أن يُسخِّر، والتَّسخير يزداد بالعلم: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [ طه: 20/114 ].

الإنسان والخلافة:

لقد كان الإنسان ذات يوم مثل بقية الحيوانات، فلم يكن يسخِّر شيئاً من الحيوانات أو النباتات، كان يأكل ما يجده مثلما تأكل الحيوانات، وخلافته في ذلك الوقت لم تكن عملية واقعية ؛ بل كانت خلافةً بالقوة أي بالإمكانية، مثله كمثل الطفل الذي يولد وله إمكانيات تؤهله أن يصير في المستقبل كاتباً أو محارباً أو تاجراً … الخ، كذلك الإنسان مرَّ عليه وقت لم يكن يعرف التَّسخير ؛ لكنه كان مؤهلاً لأن يصل إلى ما وصل إليه الآن، وإلى ما سيصل إليه في المستقبل، وهذا ما نسّميه: خليفة بالقوّة..

لقد بدأ الإنسان بالتَّعلُّم حين نظر في الأرض ؛ فرأى كيف ينبت الزرع، وكيف يٌسخر الحيوان، واستطاع بعلمه أن يكون خليفةً، ولم يكن من قبلُ خليفة.

إنه تعلم أشياء لم يكن يعرفها، وهو قابل لأن يتعلم أشياء أخرى لا يعلمها الآن، وإذا أردنا أن نتصور حاله في المستقبل ؛ فلننظر إلى الحال التي كان عليها في الماضي السَّحيق، فنحن إذا عرفنا أن الإنسان كان في يوم من الأيام قريباً من الحيوانات، لا يعرف الزِّراعة ولا التَّسخير ؛ بل كان يأكل لحم أخيه الإنسان، إذا عرفنا هذا ؛ فإننا نستطيع أن نعرف معنى التكريم في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [ الإسار: 17/70 ]، ومعنى التَّسخير في قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [ الجاثية: 45/13 ].

إننا نظنُّ أن هذا الإنسان غير قابل للتغيير ؛ لأننا نجهل تاريخه. إنه خرج من أشياء كثيرة ؛ خرج من أكل لحم أخيه، وانتقل من تسخير الحيوان إلى تسخير المادة، وسيخرج في المستقبل من (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) كما خرج من أكل لحم البشر.

من التَّسخير المادي إلى التَّسخير الاجتماعي:

من تاريخ الإنسان نعرف مستقبله، ولا نستطيع أن نتعامل تعاملاً صحيحاً ؛ إلا إذا عرفنا تاريخه، وحتى الإنسان العادي الذي نلتقي به ولا نعرفه مسبقاً ؛ لا نستطيع أن نتحدث إليه، لأننا نجهل تاريخه، لهذا امرنا الله أن نسير في الأرض وننظر كيف بدأ الخلق.

ولم يكن الناس يعرفون من قبل ؛ كيف وجد الإنسان، ولكنهم بعد أن درسوا التاريخ، ورأوا الواقع، وانتبهوا إلى حديث الأرض، التي صارت تتكلم إلى الناس، لتنبئهم بأخبارها ؛ بعد أن عرفوا كل هذا، بدؤوا باكتشاف بداية الخلق، وعرفوا الله من خلال معرفة الإنسان، فالإنسان أعظم ما خلق الله، والكون كّله خلق لأجله، وكلما تعرفنا على الإنسان ؛ تعرفنا على الله.

إن التسخير لا يتم دفعة واحدة، إنه يتم بالتدرج، وقد تعودنا في كل يوم أن نسمع أخباراً جديدة، حول تسخيرات جديدة تضاف إلى الحياة البشرية.

إن المسلمين لا يعملون شيئاً لتسخير الكون، فلا أقل من أن يبذلوا جهوداً لفهم ما يسخِّره الآخرون من المبتكرات والأجهزة، كالتلفزيون والهاتف والحاسوب وغيره …

والتسخير الأكبر الذي ننتظره الآن ؛ هو أن ننقل كل الإمكانات المتوفرة لدينا ؛ لتسخير الإنسان، كي لا يقول ما لا يفعل، ولتخليصه من المقت الذي يصيبه بهذا الفعل (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

ولكن كيف يصير هذا الإنسان المكرَّم - الذي سخَّر الله له ما في السماوات وما في الأرض - محترماً؟

لا يصبح الإنسان محترماً إلا بالعلم، فحين كان جاهلاً لم يكن محترماً ؛ لم يكن يعرف كيف يواري سوأته، ولا كيف يواري جسد أخيه الميت.

العلم والتسخير:

لقد أنزل الله القرآن ليصير الإنسان في أحسن تقويم، وكلَّفنا بأن نكشف طبيعة الإنسان ؛ لنضعه على الطريق، فماذا علينا أن نفعل لنثير حب المعرفة في الإنسان، وأنا أعتقد أن أقدس ما ينبغي أن نحفز الإنسان نحوه ؛ هو حبُّ العلم والمعرفة، وقد فُطر الإنسان على هذا ؛ فهو يشتاق لمعرفة الأخبار الجديدة وسماعها، وحين يتحدَّث الناس بشيء لا يعلمه، يصاب بقلب شديد، لذلك ينبغي أن نستفيد من هذا الشيء ؛ لنجعل بينه وبين الكون صلة صحيحة، بحيث يصير عنده هم وشوق للعلم والمعرفة.

لكن استعداد الإنسان، وفهمه الفطري للمعرفة ؛ لا يفيده إن لم نحرِّك فيه هذه الاستعدادات، ونضعه على بداية طريق المعرفة.

إن الذي سبَّب التَّراجع والتَّخلف والخراب في العالم الإسلامي ؛ هو أن المسلمين لم يستطيعوا أن يعطوا لبنائهم حُبَّ المعرفة والعلم، ولم يوحوا إليهم بفائدة العلم وأهميته.

وإذا سألني سائل منكم: لماذا تكرر القول وتُلِحُّ على تاريخ الإنسان، منذ أن كان ضعيفاً لا ينتج غذاءه، ولا يعرف تربية الحيوان، ولا يعرف القراءة والكتابة، ومنذ أن كان يأكل لحم الإنسان، لماذا تقول وتكرر هذا كلّه؟ أقول: لكي أبين أن الإنسان بجهده وبمعارفه ؛ تجاوز هذه الأحوال، وصار شيئاً آخر، ورأينا من تسخيره وابتكاره العجب العجاب.

إن وظيفة القرآن في حياة الناس ؛ هي أن يحرك المستضعفين في الأرض، لكي لا يتسخروا للآخرين، والإنسان صار خليفة وسَخَّر الكون، لأنه تعلم وامتلك المعرفة، فإذا زال علمه، ولم يصر عنده معرفة ؛ فسيدخل في عداد المسخَّرين لا المسخِّرين، فالأرض تسخَّر بالزراعة، ولكي تسخِّرها ينبغي أن تكون عالماً بالزراعة، والماء يسخَّر فينتج الكهرباء ويسقي الزرع، ولكن ينبغي أن تكون ذا علم لتقوم بالتسخير.

الفاعلية وتراكم المعرفة:

إن القاعدة المهمة التي ينبغي أن نكشفها، وأن نكررها في كل وقت ؛ هي كيف نتعرف على مواضيع القرآن، وكيف نتعرف على الله، وكيف نتعرف على الإنسان.

إنها مواضيع متكاملة ؛ تدور في حركة متناسقة، فموضوع الله مرتبط بالإنسان وبالكون وبالآخرة، والإنسان سيكون كَلاًّ حين ينشأ في مجتمع لم تتراكم فيه العلوم والمعارف، وبإمكاننا أن نميت المعرفة في الإنسان ؛ كما يفعل المسلمون حين ينسبون كل شيء إلى الله ؛ فيقولون: إننا لا نعرف شيئاً، والله يعرف كل شيء ؛ إنه هو الذي يصنع ما يريد، ويفعل ما يشاء.

لكنني أقول: لا ينبغي لنا أن ننتظر الأمر من الله ؛ فهو قد أعطانا كل شيء (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [ الجاثية: 45/13 ]، وأمرنا بأن نسخر، ومهما نطحنا الجدار لنغيِّر سنَّة الله ؛ فلن نستطيع (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [ فاطر: 35/43 ].

إننا حين نقول: الله يفعل كذا، ونحن لا نفعل شيئاً ؛ فإننا نتحدى الله، ونظن به ظنَّ الجاهلية (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [ آل عمران: 3/154 ].

إذن، كيف نحرِّك الإنسان وكيف ننشطه ؛ ليفتح عينه وأذنه، وينظر في الأرض والسماء، ويدرك آيات الآفاق والأنفس، وآيات الكتاب؟

أرجو أن نفكر جميعاً بهذه الأمور ؛ لندرك علاقة الإنسان بالله وبالتاريخ، ولندرك أهمية تراكم المعرفة في المجتمع، فالإنسان كفرد يحب المعرفة، ولكن أين هي البيئة التي تمكنه من اكتساب المعرفة؟ وإذا كان كشفُ هذه الأمور صعباً ؛ لكنه يزيد يوماً بعد يوم.

نشر العلم والمعرفة:

على الفرد أن يعمل باتجاهين ؛ الأول: هو أن يغذِّي حبَّه ونهمه للمعرفة، والثاني: أن يوقد في الآخرين الخاملين حبَّ العلم والاندفاع للتَّزوُّد به.

الإنسان يحب المعرفة، ولكن هناك أشياء تطفئ شوقه واندفاعه نحوها، من ذلك أنه لا يحب أن يسمع الشيء الذي يعرفه، لنه لا يحتاج إليه، وهو لا يحب أن يصغي إلى حديث يقال بأسلوب صعب لا يتناسب مع قدراته، فعلينا أن ننتقي الموضوع الذي يلمس حاجاته، دون أن يكون مكرراً عليه، وان ننتقي الأسلوب الذي يتناسب مع مستوى المخاطب، فأنت إذا قرَّبت الشيء إلى عين الناظر أو أبعدته إلى مسافات طويلة ؛ فإنه لن يراه، والمسافة المناسبة هي المسافة التي تتناسب مع قدرة العقل، على هذا النحو تكون عملية التعليم، وفي المدارس الحديثة يجرون اختباراً لكل الطلاب المتقدمين إليها، ليضعوا كل واحد مع الفئة التي تناسب مستواه، ليتمكن من متابعة الخطوات التي يسيرون فيها.

إن العلم الإسلامي لا يساير ركب التقدم الذي يسير به الآخرون ؛ فماذا ينبغي أن نفعل لنسايرهم؟ عن علينا أن ننشر العلم، أن ننشر القرآن « خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه » (1).

إن مدارس العالم الإسلامي تحفِّظ القرآن للأطفال، ولكنها لا تعلمهم كيف يفهمونه، وكيف يربطونه مع الحياة..، والمسلمون لا يفهمون القرآن إلا كما فهمه القدماء، ويخافون من قراءة كتب الآخرين، فلا يقرؤون الإنجيل والتوراة، وما ذلك إلا لجهلهم، فماذا يضرنا لو قرأنا التوراة أو الإنجيل ؛ إن كان لدينا عقل نميز به بين الغثِّ والسمين، فلأجل أن نعيش مع الآخرين ينبغي أن نعرف دينهم وتاريخهم.

العلم سبيل التكريم:

إننا إن طلبنا العلم وتنوَّرنا به ؛ فسوف لن يُصيبنا الرُّعب والخوف، فنحن نسير في النور، لا كالذين يعيشون في الظلام، ويخشون من كل ما حولهم.

إن العالم الإسلامي يعيش في الظلمات بسبب الجهل والغفلة، والله سبحانه وتعالى يقول: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [ البقرة: 2/257 ]، لماذا لا ندرس هذه الآية لنرى من الذين يعيشون في الظلمات في هذا العالم؟ مَن الذين وليُّهم الله؟ ومَن الذين أولياؤهم الطاغوت؟ إذا رجعنا إلى الواقع نجد أننا نحن الذين نعيش في الظلام، ونحن الذين نرفض العلم. ولكن كيف نخرج من هذا الظلام والتِّيه؟! أعتقد أن المر ليس صعباً ولا مستحيلاً إنه سهل جداً، وأنا أزعم أنني بدأت أبصر بنور القرآن والعلم، ولكن كيف سأنقل إليكم ما وصلت إليه؟ وكيف سأجعلكم تبصرون وترتاحون وتطمئنون وتتصرفون دون حاجة إلى من يمسك بأيديكم؟ هذا شيء أساسي، وهو وظيفة الأنبياء والرُّسل (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [ الأعراف: 7/157 ].

نحن نعيش في الظلمات ويصيبنا الرعب الشديد، وهذا ليس أمراً طبيعياً، فالله لم يجعل الحياة معقدة إلى هذه الدرجة، وقانون الحياة يسير بانتظام، ولكننا لا نُحسن التعامل معه. وفي كل يوم نستيقظ وننام متشائمين وخائفين، إننا نتألم ونحقد، لا ننفتح على الآخرين، ولا نجد في نفوسنا رحمة أو وضوحاً في الرؤية..

إنني أصف لكم هذه الأشياء دون أن أضع بين أيديكم نماذج واضحة لتتذوقوها، أنا كالأعرابي الذي قال: ما أحلى حلاوة الشام! قالوا له: هل ذقتها؟ قال: لا، ولكنني رأيت الذي ذاقها.

لقد قطعنا مرحلة لا بأس بها، ولدينا استعداد لقطع مرحلة أخرى ؛ لنعرف تاريخ الإنسان ؛ ولننظر إلى المستقبل ؛ بواسطة القرآن والواقع، فالواقع هو الذي يصدِّق أو يكذِّب فهمنا للقرآن، والقرآن ليس صعباً، ومفاتيحه واضحة، وعمر الإنسان المديد ؛ يمكنه من فهم الأشياء، وتسخيرها، وصولاً إلى الكرامة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [ الإسراء: 17/70 ].

وليس المهم - لكي تكون كريماً - أن تملك المال أو السلطان ؛ لكن المهم هو أن تأخذ من هذا الكتاب علماً ينوِّر لك الطريق، ويبصِّرك بما حولك، وهذا سيشعرك - رغم فقرك وهوانك على الناس 0 بالاتصال مع الله والكون والإنسان واليوم الآخر، وسيعرفك بمكانتك التي من خلالها تتعامل مع الله والكون والآخرة ومع الناس الآخرين.

إذن، ينبغي أن نجرِّب ونتعامل ونكشف عن هذه الأمور (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [ الملك: 67/22 ].

إن الكون لا يسبِّح لنا ونحن لا نسير في النور ؛ فماذا نفعل لنتخلص من هذه الآصار والأغلال؟ بجهودنا نستطيع أن نصنع مستقبلنا، فلا يدخلنَّ اليأس إلى نفوسنا: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [ يوسف: 12/87 ]، إن علم التسخير، ومعرفة إمكانات الإنسان، وماذا يمكن أن يعمل الآن ؛ كل هذا سيوصلنا إلى المستقبل الأفضل، وسيضع أقدامنا على أول خطوات التغيير..

الإنسان وحمل الأمانة:

إذا قرأنا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) ؛ نجد أنه يبحث في موضوع خطير، فكما أن للحديد جوهراً عظيماً جداً، إذ يؤدي وظيفته في خدمة الناس ؛ كذلك للإنسان جوهر عظيم، هذا الجوهر يظهر حين نجعله يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول.

إن الجهل وسوء الظَّنِّ بالله ؛ هو الذي يدفعنا إلى قول ما لا نفعل، أو فعل ما لا نقولُ، ويؤدي بنا بالتالي إلى الرَّدى والخسران..

وإذا أردنا أن نُفسِّر (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) من زوايا متعددة، نقول: لماذا لم يقل الله سبحانه للجبل: لِمَ تقول ما لا تفعل؟ ولماذا لم يقل هذا للنهر والنجم والشمس والسحاب والبحر؟

في الجواب على هذا التساؤل نقول: يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ؛ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [ الأحزاب: 33/72 ]، لم يحملها الإنسان على ظهره ؛ بل حملها بقدرته على الاختيار.

لقد مكَّن الله الإنسان - دون سائر المخلوقات - من حمل الأمانة أو تركها، مكَّنه من الطَّاعة والمعصية ؛ فله أن يسير وفق القانون، وله أن يخالفه، بينما الكائنات الأخرى ؛ ليس لها إلاَّ أن تطيع..

إننا نقول ما لا نفعل ؛ لأننا نجهل، ولو كنا نعلم لَمَا ارتكبنا أمراً نعلم خطأه.

الثقة عماد المجتمع:

إننا لم نحمل الأمانة، لم نحمل الإسلام الذي نعتقد بصحته، والسبب في هذا أننا جهلنا طبيعة الإنسان المسخِّر والمسخَّر، ولم نتعلم أساليب التعامل معه، وظننّا أن التعامل الأمثل معه هو بتخويفه وقهره، فوصلنا إلى أسوأ النتائج.

إن الأمانة التي تحدث عنها الله في قوله: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) هي ما يبينه حديث النبي  الذي يقول فيه: « والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه » (1)، والذي لا يأمن جاره بوائقه: هو الذي يقول ما لا يفعل، والإنسان الذي لم يعد أهلاً لثقة أخيه ؛ ليس إنساناً، وإذا لم يوثق به فليس بمؤمن.

لقد ساق الله التسبيح والتسخير، ثم أتبعه بـ (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)؟ وأكَّد بذلك على أهمية الثقة في المجتمع، فليس فساد العلاقات ؛ وانتشار العداوة بين الناس ؛ إلا لأنهم فقدوا الأمانة، فقدوا الثقة التي لا يصلح شيء بفقدها.

إن انسجام القول والسلوك: هو الذي يحقق الثقة، وينشر الأمن، وهو مدلول قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

إنك لن تكون صادقاً، ولن تقول ما تفعل ؛ إذا كنت تضمر في داخلك إمكانية الغدر بالآخر وقتله وإيذائه.

إننا نمر على الآيات مروراً عرضياً ؛ لا نسبر أغوارها، ولا نتعمق في فهمها، (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)؟ لِمَ تخونون العهد؟ لِمَ ترتكبون الحرام؟ لِمَ لا يثق بكم الآخر؟ كيف سنكون صادقين ؛ إذا كنا نتحين الفرصة لنفتك بالآخر وننقض عليه؟ أنت لا تستطيع أن تقول له: إنني حين أملك القوة سأطيح بك وأقتلك فاحذرني، فتلجأ إلى الكذب والنفاق، وتقول ما لا تفعل!!

ينبغي ألا نخون، وألا نكذب، فإما أن نسالم بصدق، وإما أن ننبذ إليهم على سواء.

ينبغي أن نبدأ من هذه النقاط، وأن نتعاون على إيضاحها، ولن تغني عنا قراءة القرآن، وقراءة القانون، ومعرفة العالم كلّه ؛ إذا لم نتفاهم ونتفق على هذه الأسس.

وإذا كنا صادقين واضحين ؛ لن نضطر للكذب والنفاق، وسنمشي بنور الله الذي يضيء لنا الطريق، وعندئذ سنقول ما ننفعل. وإذا فعلنا أشياء ممنوعة، وتؤذي الآخر، ولا نعتقد بصحتها في قلوبنا ؛ فلن نستطيع البوح بها، وبذلك نكون قد رفضنا أمانة الله وعهده.

ينبغي أن أفهم متى وكيف اجعل الآخر يثق بي رغماً عنه، وإلا لا أكون من الذين سَخَّر لهم الله ما في السماوات وما في الأرض. وكل الناس سيتسخَّرون لي إن عرفت هذا، وسأنتصر بسلوكي على الآخر، وسأضطره للاعتراف بانتصاري.

إن سعينا لن يفيد ؛ إلا إذا أبصرنا هذه المعاني، انظر إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) لا يمكن أن يزيد أي فعل سوءاً عن هذا الفعل.

والإنسان الذي فَقَدَ الصدق والأمانة ؛ أسوأ من الحيوان، فالحيوان لا يستطيع أن يغدر كما يغدر هذا الإنسان.

الصدق نجاة والكذب فساد:

لسنا مجبرين على الإيمان، ولسنا مكلفين بما لا نستطيع عمله، فلماذا النفاق؟ ولماذا الكذب؟ إننا نشعر بالرّاحة حين نصدق ؛ فالصدق منجاة، وإذا كذبنا نُصاب بالضيق والحرج، وتخفق قلوبنا، ونحسّ بخطئنا: (بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [ القيامة: 75/14 ].

لقد قصَّ الله علينا قصة ابني آدم، اللَّذين قتل أحدهما الآخر ؛ وفيها نجد المعتدي يلوم نفسه كثيراً: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ، …، فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ) [ المائدة: 5/30-31 ]. لقد ندم لأنه قتل أخاه الذي رفض أن يدافع عن نفسه.

ينبغي أن نبدأ من هنا، من الصِّدق والالتزام ؛ ولا بأس علينا إن قُتلنا ونحن راضون عن أنفسنا، أما أن نموت ونحن نضمر السوء ونخشى مما بداخلنا ؛ فهذا مؤسف، وكذلك إن كنا على خطأ دون أن ندري: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [ الكهف: 18/103-104 ]، وكذلك عن كنا كالذي (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

إن عملنا كله لا قيمة له ؛ إن لم نكن صادقين وملتزمين، وأشعر أن كشف هذه الأمور ليس صعباً، لكنه يحتاج إلى نبذ التقليد، والتعامل مع الواقع، والإيمان بالكتاب.

إننا نتوهَّم أن حياتنا لا تقوم إلا على الكذب والغدر ؛ ولكن الحقيقة هي أن هذا هو الذي يخرِّب علينا حياتنا، وهو الذي يحرمنا من الصفاء والرّاحة، ويضعنا في الآصار والأغلال.

إن المشايخ في بلاد الأفغان يتقاتلون، والثوار في كل مكان يقتل الرفيق منهم رفيقه، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا الثقة فينما بينهم، ولم يلتزموا بالكلمة التي قالوها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، ولو أدركوا طريقة الإسلام في معالجة الخلافات الحادة ؛ لما غدروا بإخوانهم، ولقالوا لهم: إننا نعتقد بخطئكم، لكننا لا ولن نغدر بكم، وبهذا ينزع فتيل كل أزمة، وتصان المبادئ والأرواح.

إن واقعنا يشهد علينا ؛ فنحن نمدح الآخر ونمجد أعماله وأقواله ؛ وبمجرد أن تتاح لنا الفرصة نغدر به. وما دامت هذه الجرثومة معششة في أعماقنا ؛ فلن نستفيد من القرآن والتاريخ والعلم شيئاً، وإذا كان الله سبحانه يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [ الصَّف: 61/4 ] ؛ فإنه لا يُبيح لك أن تغدر بالذين تقاتلهم، وعليك أن تنذرهم، وأن تكون واضحاً فتخبرهم عن الأشياء التي ستقاتلهم إن ارتكبوها. وعليك أن تعدل مع الآخرين ؛ فلا ترتكب الأشياء التي تنهى الآخرين عنها وتقاتلهم لأجلها.

إنني أرجو من الذين يبلغهم كلامي ؛ إلا يتلقوه بخمول وبرود، وأن يفكروا ويجربوا، ليكشفوا هذا الموضوع، وليساعدوا في بيانه.

لقد وصلت إلى حقيقة أن ظاهرنا وباطننا يمكن أن يكونا سواء ؛ ولكن بعد دراسة مضنية، وعمل متواصل. إن بإمكاننا أن نكون صادقين ؛ فلا نظهر للناس بوجهين مختلفين.

صناعة الإنسان:

حين نتحدث عن موضوع الصدق والوضوح ؛ يلتبس علينا الأمر بعض الالتباس، فالله سبحانه وتعالى يقول: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) ثم يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [ الصَّف: 61/4 ]، فعلينا أن نفهم الآن متى يجوز لنا أن نقاتل؟ ومتى يحرم علينا القتال؟ وما هي الشروط الدقيقة في الْمُجاهِد والْمُجاهَد؟ ما هي هذه الشروط التي إن خالفناها تحولنا من الرشاد إلى الضلال والطاغوت؟ كيف نجمع بين القتال وبين ألا نقول ما لا نفعل؟ فإذا استطعنا أن نربط بين هذين الأمرين ؛ فسننطلق انطلاقاً مريحاً، وسنفهم القرآن والسُّنَة والتاريخ، وسنتواصل مع واقع الإنسان وضميره.

والإنسان كائن يعرف ذاته (بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [ القيامة: 75/14-15 ]، إن علينا أن نكشف عن طبيعة الإنسان، والمكانة التي أنزله الله فيها، وإذا كان علمنا بالحديد جعلنا نصنع منه السيارة ؛ فعلمنا بالإنسان ينبغي أن يعرفنا بصناعة الإنسان الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ؛ دون أن يشعر بأنه يفعل شيئاً لا يطاق.

إن قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)، وقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [ النَّحل: 16/106 ] ؛ كل هذه الآيات مرتبطة بطبيعة الإنسان، وإذا فهمنا أن الكون مسخَّر لهذا الإنسان ؛ فإذا فهمه وتعامل معه تعاملاً سننياً صحيحاً ؛ سيكون الله معه، وسيسخر الكون له، وسينصره، فإن لم يتسخر لنا فهذا يعني أن هناك خللاً ما في علاقتنا مع الكون، والله سبحانه لم يأمرنا بالموت في سبيل الفكرة ؛ بل سمح لنا بالتراجع فقال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).

إنها أمور متصلة ومتكاملة، وتعمل كالآلة الواحدة، والإنسان يمكن أن يكون فاعلاً حين يتعلم كيف يقول ما يفعل، وكيف يقاتل، وماذا يفعل إذا تعرض للإكراه.

هناك حالات يباح فيها أن يقول ما لا يفعل ؛ ولكنها واضحة ومحددة، وهي حين يتعرض للإكراه الذي يهدد حياته، وهناك حالات يباح للإنسان فيها القتال ؛ ولكنها محددة ولها شروط دقيقة، فإذا تعلم الإنسان هذه الحالات وهذه الشروط ؛ فإنه يسالم وهو مرتاح، ويقاتل وهو مطمئن، ويصدُق وهو مرتاح، ويكذب دون أن يؤنبه ضميره.

يجب أن نميز بين الواجب والحرام، وهذا كالدواء، لا نستعمله إلا عند الضرورة، نستخدمها رغم أنها ضارة للتخلص مما هو اكثر ضرراً.

إن عدم شرح وتفصيل هذه الأمور ؛ وصل بنا إلى ما نحن عليه، والقرآن ينهى عن الإكراه: (لا إِكْراهَ في الدِّينِ)، لكنه يحض على قتال الذين يكرهون الناس على معتقداتهم، وفي هذا معنى الإكراه على العدل والحرية، وهذا من الدين.

لقد أباح لك الإسلام أن تُظهر ما لا تبطن، وان تسبَّ الله إذا أُكرهت على ذلك، ولكن ماذا تفعل إذا طُلب منك أن تقتل إنساناً بريئاً ؛ وهُدِّدت بالقتل إن لم تفعل؟ هل تقتله؟ الأمر هنا يختلف، ولا يجوز لك أبداً أن تقتل إنساناً بريئاً، لأن حياتك ليست أغلى من حياته، وإذا لم تنفذ الأمر فربما لا يقتلك، ولعله يهددك بالقتل لتطيعهُ فقط.

الكذب حالة طارئة:

لقد بنى رسول الله  وصحابته أُسس الرُّشد والعدل والثِّقة، فكان القرشيون يثقون بهم أكثر من ثقتهم بأبنائهم، ولكنهم عُذَِبوا وأُذوا بسبب دينهم، وأُجبروا على أن يذكروا الأصنام بخير، ويذكروا محمداً بسوء، ولم يعتب عليهم رسول الله  لذلك ؛ بل قال لعمار: « وإن عادوا فعُد » (1).

لقد أجاز رسول الله  الكذب في مثل هذه الحالة التي تهدد حياة الإنسان، فهل صارت كل حياتنا خطر؟ إن الأمر اختلط علينا ؛ فصار لزاماً علينا أن نجليه ونبيِّنه لنخرج من الإشكالية التي نحن فيها.

إن جوهر الإنسان، والشيء الأساسي فيه ؛ هو جدارته لحمل الأمانة والخلافة، فبالإمكان جعله في أحسن تقويم، وبالإمكان جعله في أسفل سافلين ؛ بواسطة الدراسة والبحث.

ينبغي أن نفهم هذا الأمر، وان نذكر أمثلة بلال وسمية وياسر والصحابة، الذين عُذبوا بسبب إيمانهم، وسقراط والمسيح ومحمد  وغاليلو، كل هؤلاء أُوذوا واضطهدوا بسبب أفكارهم ومعتقداتهم.

لم يعذَّبوا لنهم اضمروا الغدر، أو سعوا في الفساد وإهلاك العباد، لم يضعوا خطة لاغتيال أحد، ولم يأكلوا مال أحد، ولم يسيئوا إلى أحد، لقد عذبوا لأجل أفكارهم وإيمانهم فقط: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [ البروج: 85/8 ].

لن نخرج من الظلام إلا حين نبحث هذه المواضيع، ولئن كانت صعبة وغير مألوفة ؛ لكنها هامة وضرورية، ويمكن تبسيطها بالشرح والتكرار والتمرين، وهذا سيؤدي بنا إلى القدرة على التعبير عنها بسهولة ويُسر.

بناء الثقة في المجتمع:

إنا في هذا العصر لا نعذب لأجل معتقداتنا بالقدر نفسه الذي كان يعذب به المؤمنون والمفكرون في الأزمان السالفة، ومع هذا فإننا نكذب، ولا نقول الحق.

إذن، علينا قسط كبير من المسؤولية عما نعانيه، وإذا أردنا تغيير واقعنا ؛ فعلينا أن نغيِّر ما بأنفسنا: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [ الرعد: 13/11 ]، وهذا يتطلب منا بناء الثقة في مجتمعنا، وحتى الذي نخالفه نقول له: إننا لن نؤذيك أبداً، ولن يمسك منا أي سوء، فليس في قلوبنا غلٌّ، وليس بيننا وبينك ثأر ؛ إننا نخالفك في الرأي، ولكننا على استعداد لأن نضحي بأنفسنا في سبيل أن تكون حرّاً، وتقول ما تريد. فإذا كنا صادقين فيما نقول، وبرهنت التجارب والأحداث المتكررة على أن هذا ليس تكتيكاً وقتياً ؛ عند ذلك سيثق بنا المخالف أكثر من ثقته بأهله وحرسه الخاص ؛ ولن نكون عندئذ من الذين يقول الله لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [ الصف: 61/2-3 ].

إنها شريعة الحق والوضوح: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [ الأنفال: 8/42 ].

إن هذا الطريق آمن، ونستطيع الرجوع عنه متى أردنا، أما دوامة العنف ؛ فلا يمكن للداخل فيها أن يخرج منها، وهي الطريق التي لا رجوع فيها.

إن المآسي التي يعيشها العالم الإسلامي الآن، والتي نسمع عنها كل يوم ؛ هي نتيجة حتمية للجهل والغموض في هذه المواضيع، فإذا استطعنا أن نوضحها، فسيكون ذلك خدمة جليلة للإسلام والمسلمين، وسيشعرنا هذا بالصدق مع الله ورسوله، وبأنه تعالى لم يكفلنا ما لا طاقة لنا به ؛ بل كلفنا بما يسعدنا ويحقق لنا نتائج عظيمة جداً في حياتنا.

يجب أن نحسب لكل شيء حسابه ؛ لكي لا تظهر لنا أمور لم نضعها في الحسبان، فنفاجأ بها وترتبك مسيرتنا، وهذا ليس صعباً ؛ لكنه لم يطرح علينا، ولم نفكر به،وحتى قادة الفكر لدينا لم يبحثوا هذه المواضيع، ولم يبينِّوا لنا الأمور.

الجهل والغموض سبب الحقد والكراهية:

الأمر في غاية السهولة والبساطة، وهو أن يكون الإنسان صادقاً، وأن يتخلى عن الخداع والكذب والغدر، حتى نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين، وهذا سينشر الثقة المتبادلة في المجتمع.

لقد طلب رسول الله  من المشركين أن يقولوا كلمة لا إله إلا الله فقط، فقال: « كلمة واحدة تعطونيها ؛ تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم » (1)، ولكن لا يكفي الآن أن نقول: لا إله إلا الله ؛ بل يجب أن نعرف الله أولاً، فنحن نقول إنه واحد أحد ؛ دون أن نعلم بماذا يكلِّفنا، وعلى ماذا يحاسبنا، وهذا يجعلنا كالذين يذمهّم الله بقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [ آل عمران: 3/154 ].

إنه تعالى يكلفنا بأشياء سهلة ومريحة، ونتائجها مضمونة، وبأقل الخسائر، أو بدون خسائر.

إن دخول الإنسان إلى مرحلة أن يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ؛ هو كدخوله في عصر الزراعة، إنه دخول جديد إلى العالم، سيغيِّر طبائع الناس وأفكارهم ؛ كما تغيَّر الإنسان في مأكله وملبسه ومسكنه بدخوله في عصر الزراعة.

إن العالم سيتغير حين ينتشر الصدق مع النفس، والثبات على الحق، وفرض الثقة من جانب واحد، وهذا شيء غير موجود في العالم الآن، ويفتقر إليه الجميع ؛ من أصغر تجمع بشري، إلى الأمم المتحدة نفسها..

إننا نبحث في حياتنا العادية ما هو أشد من هذا الموضوع صعوبة، وأكثر عمقاً، ولكننا حين نصل إلى مثل هذا الموضوع ؛ يتأفف الكثيرون، ثم يقولون: إنه موضوع شائك وصعب ومعقد وعميق، وما هذا لصعوبته، لكنهم لا يحبون أن يبحثوه بوضوح وجلاء، ولا أن يدرسوا جوانبه المتعددة، لذلك يبقى - رغم أهميته - مطوياً غامضاً.

نحن لا نعيش بهدوء وطمأنينة، لأننا لا ندرس هذا الموضوع، وحياتنا مليئة بالذل وعدم الاحترام، ولا نحب الآخر ولا يحبنا، في قلوبنا هذا المرض، والقرآن شفاء لما في الصدور ؛ بما يحتويه من دعوة إلى الوضوح والإخلاص والصدق، وترك الغل حتى على أشد الناس فساداً.

إذا فهمنا الأمور بوضوح ؛ فلن نحمل حقداً ولا كراهية لأحد، بل نتعامل مع الناس بالتي هي أحسن، وبالمقابل سيلوم هذا الآخر نفسه إن أساء إلينا.

وليس هناك مشكلة غير قابلة للحلِّ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [ آل عمران: 3/165 ]، فلنبدأ بالتفكير بحل المشكلة، ولنتخلص من أوهام الحقد والكراهية، وبدلاً من لوم الآخرين ؛ فلنتوجه للإجابة على أسئلةٍ من مثل: كيف نواجه الآخر لعرض الأفكار الجديدة عليه؟ كيف نفرض احترامنا عليه؟ كيف نجعله يثق بنا بحيث يصدق أقوالنا؟

إن كثرة الكلام لا تكفي ؛ ونحتاج إلى عمل دؤوب، ولا يضرنا الآخر حين نكون صادقين واضحين.

الصدق والحب:

يجب أن نحدد الأشياء التي نستطيع أن نمسك بها في كل الأوقات والظروف ؛ ولا نخاف أن يعرف الآخرون أننا نقوم بها، وإذا سئلنا عنها لا ننكرها، ولا نتهرب من مسؤوليتها. سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين: عظني وأوجز، فقال له: « توقَّ ما تعيب ». أي لا تفعل شيئاً تؤمن بأنه معيب أو تستحي منه، أو تتراجع عنه، لا تقل ولا تفعل شيئاً يضعف موقفك.

إنك إن سألت: هل سرقت، فإنك تنكر ولا تعترف، إذن، لا تسرق. وإذا كنت ستنكر أنك قتلت ؛ فلا تقتل، وهكذا..

إننا حين نتكلَّم في مجالسنا بكلمات، علينا أن نعرف أننا ربما نُسأل عنها، وإذا سئلنا عنها فعلينا أن نتحمَّل مسؤوليتها ولا ننكرها، فإن لم يكن باستطاعتنا أن نتحمل مسؤوليتها، فإن علينا أن لا نقولها.

إذا أنكرتُ ما قلته ؛ لا أكون صادقاً مع نفسي، فعلي أن أفكِّر قبل أن أتكلَّم بأنني سوف أُسأل عن أقوالي، فهل سأتراجع عنها، أم سأثبت عليها وأعلنها؟ فإذا لمست من نفسي القدرة على الثبات ؛ فلا حرج في أن أقولها، وإلا فلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).

إن الصِّدق مريح، وهو يوصل إلى الحب، وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام: « أحبُّوا أعداءكم »، أما القرآن فإنه يصف المؤمنين بقوله: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) [ آل عمران: 3/119 ]، فكيف سنحب الآخر؟ سأضرب لذلك مثلاً: إننا حين نرى إنساناً مريضاً، أو مصاباً ؛ نشفق عليه، ويذوب قلبنا أسىً وحزناً عليه، ونسعى بكل قوانا لمساعدته، لكننا حين نرى إنساناً فاسداً أو لصّاً أو كذاباً أو دجّالاً ؛ فإننا نكرهه، لأننا لا نستطيع أن نراه مثل المريض، ونقول: إن المريض أصيب دون إرادة منه، أما هذا فإصابته بإرادته، ولكن الحقيقة هي أن المريض أخلاقياً كالمريض جسدياً، أصيب بهذا المرض من محيطه، ومن المفاهيم التي غرست في نفسه، فإذا فهمنا هذا، وعرفنا أن هذا المريض يمكن علاجه ؛ عندئذ نشفق عليه، ونسعى لمساعدته للتخلص من مشكلته.

وإذا طُلب منك شيء لا تستطيعه ؛ فلا تَعِد بتنفيذه، بل قل لا أستطيع، وهذا سيجعل الآخر يثق بك، وهو أفضل من أن تعده وتخلفه: (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا) [ الأحزاب: 33/15 ].

إذن، ينبغي أن نتدرب على هذا الشيء، ونحاول فهمه، لأنه ليس صعباً بل مريحاً، وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام: « أيها المتعبون في العالم هلموا إليّ إن نيري خفيف ». وإذا كنا نظنه صعباً، فإن عيسى عليه السلام يراه سهلاً، والشيء الصعب الثقيل هو ما نحمله من أمراض الكذب، وإخلاف الوعد، ونقض العهد.

سهل عليك أن تعطي وعداً بأن تزور صديقك، والصعب هو ألاّ تعطي وعداً لإنسان طلب منك أن تزوره، حين تعلم أنك لا تستطيع، ولكن هذا أفضل وأسهل من أن تعد بشيء لا تستطيع تنفيذه ثم تخلف به.

من هنا نبدأ بالتمرين على الأمور الصغيرة، ثم شيئاً فشيئاً ننتقل إلى الأمور الأكبر، ثم ننقل ما استفدناه إلى أفراد المجتمع الآخرين، بصدق ومحبة وشفقة، كي نخلِّصهم من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

قتال الظالم لا يقتضي كراهيته:

لا أشك بأن الطبيب الذي أجرى لي العملية الجراحية يحبني، ولكن حبه لي لم يمنعه من شقِّ بطني بمبضعه ؛ ليخلصني من المرض الموجود بداخلي، وهذا ما عبَّر عنه أبو بكر رضي الله عنه في معركة بدر حين أنشد قائلاً: ونَبكي حِينَ نَقتلكْم عَليكْم ونَقتُلكم كأنّا لا نُبالي إن قتالنا إيّاكم ليس للتَّشفي، وليس للتَّشهي، إنه قتالٌ اضطراري، لجأنا إليه حين أعيتنا الحيلة للتعامل معكم بغيره، لجأنا إليه بشروطه الدقيقة ؛ التي نطبقها على أنفسنا قبل أن نطبقها عليكم، ومع ذلك فنحن نبكي لقتلكم، ونتمنى أن لو كان لدينا من العلم ما نستطيع به إصلاحكم دون أن قتلكم، ولو كان لنا هذا العلم ؛ لما جاز لنا قتلكم، وما فعلناه كان لأجل أن نحقق الإصلاح بأقل الضرار الممكنة.

إن عدوي سيحبني حين التزم هذا، وسيعلم صدقي (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ الممتحنة: 60/7 ].

إنني أعطي للآخر حقّاً كالذي أعطيته لنفسي ؛ فلا أمارس شريعة الغاب، وأنهاه عنها، وإذا أجبر الآخرين على معتقده ؛ أمنعه إن كان لي مجتمع راشد، أما إن كنت فرداً في مجتمع ؛ فليس لي إلاَّ الكلمة والثبات، فإذا ضربني لا اضربه، وإذا أكرهني لا أُكرهه، وإذا قتلني لا أقتله، وحتى حين يكون لدي مجتمع، وأقاتله لدفع ظلمه عن الناس ؛ لا أكرهه، ولا أحقد عليه، بل أعامله كما يعامل الطبيب المريض، أدفع الضرر الأكبر بالضرر الأقل.

إننا إن مارسنا هذا عن إدراك وفهم، لن يكون القتلى كُثراً. وقد قلت لبعض الشبان مرةً حين قال لي أحدهم: إنك تسعى لأن يكون القتال ضمن شروط دقيقة، ولكن ماذا أنت فاعل قبل توفّر الشروط؟ قلت: إن انسحابي من الفتنة، وعدم ردِّي على الاعتداء ؛ سيوفِّر نصف القتلى، لأنني حين أردّ عليه ؛ أقتله ويقتلني، وبهذا يتضاعف عدد القتلى، أما إن امتنعت عن الرَّدِّ فإن نصف القتلى سينجو من اللحظة الأولى، ثم إن الآخرين لن يقتلوا منا إلا جزءاً يسيراً مما كانوا سيقتلونه في الحرب.

هذا هو فهمي للإسلام، ومن أراد مخالفتي فليخالفني، وله الحق في إبداء رأيه، كما أن لي الحق في إبداء رأيي.

والحمد لله ربِّ العالمين

المجلس الحادي عشر

الإسلام وعصر العلم

(مفهوم العواقب)

الاثنين: 2 محرم 1414 هـ

       21 حزيران 1993 م 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس.

اللهم اجعلنا من الذين يبلغون رسالاتك، ويخشونك، ولا يخشون أحداً غيرك، وكفى بالله حسيباً.

تمهيد:

لا زلنا في سورة الصَّف، قال تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [ الصَّف: 61/1-6 ].

وسنتابع الحديث في تفسير هذه الآيات، ونسأله تعالى أن يلهمنا رشده، وان يعلِّمنا تفسير كتابه، فهو القائل: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [ الفرقان: 25/33 ].

آفاق جديدة في التأويل:

لقد بدأنا بداية جديدة في تفسير كتاب الله وتلاوته، لذلك نحن بحاجة إلى ترسيخ الأساليب الجديدة لفهم كتاب الله تعالى، عن طريق تكرار الرَّبط بين القرآن وآيات الآفاق والأنفس، بأساليب مختلفة، لمواجهة المفاهيم الموروثة الضاغطة، التي توصّل إليها أسلافنا، حين لم يكن لديهم من العلم ما نملكه اليوم.

لقد رأينا من آيات الآفاق والأنفس ما لم يتيسر لهم أن يروه، وهذا له علاقة كبيرة بفهم الكتاب، لأن الله يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [ فُصِّلت: 41/53 ]، ويقول أيضاً: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ ص: 38/88 ]، ويقول: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [ النَّحل: 16/8 ].

إنه يخلق أشياء جديدة، ويزيد في خلق هذا الكون، وقد عَلِمَ الناس من سنن الكون المادي، ومن سنن المجتمع المحيط بهم ؛ ما رأيناه بأعيننا، وما لم يخطر في يوم من الأيام على بال الذين من قبلنا.

ولأننا رأينا ما رأينا من سنن الله ؛ نستطيع أن نفهم كتاب الله فهماً جديداً، لم يكن السابقون يستطيعون فهمه به، ولم يخطر لهم على بال، وخاصة حين نتحدث عن السنن النفسية والاجتماعية، من مثل قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ)، وهذه الآيات سيقرؤها الذين من بعدنا، بعد آلاف السنين، فماذا سيفهمون منها؟ إنهم سيفهمونها ضمن معارفهم، التي لا نستطيع أن نتصورها نحن اليوم.

انقلاب المفاهيم:

إننا نرى بأعيننا ما كان يؤمن به السلف إيماناً غيبياً، رؤية لا يستطيع أن يكذِّبها أحد، وقد قال الله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [ النَّحل: 16/8 ]، وحقّاً لقد رأينا من الخلق ما لم يكن الأقدمون يعلمونه، وسيُخلق خلق لا نعلمه نحن أيضاً.

لقد مضى ألف وأربع مئة سنة إلى أن عرف الناس تأويل (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ).

والقرآن لا ينظر إلى الكون على أنه ثابت لا يتغير ؛ فالكون في منظور القرآن متغير متحرك، تُخلق فيه أشياء جديدة.

وفي هذا العصر تغيَّرت عقلية الناس أيضاً، فصاروا مستعدين لاستقبال أشياء جديدة، لأنهم ألفوا أن يروا التغيير في حياتهم كل يوم، بينما اعتاد الناس في الماضي أن يعيشوا دون أن يحدث في حياتهم أي تغيير يذكر، وهذا ما كان يدفعهم إلى إنكار كل جديد.

إننا اليوم نتردد ونحذر، ففي هذا العصر تنقلب المفاهيم والأفكار، وتتغير الصُّور الذهنية.

لكن تردُّدنا فيما كُشف لنا من آيات الآفاق، أقلُّ من ترددنا فيما يكشف من آيات الأنفس، وتعاملنا مع السنن المادية، كتسخير المادة والحديد والنار والكهرباء والطاقة ؛ أسرع من تعاملنا مع السنن النفسية الاجتماعية الحياتية.

من عالم الغيب إلى عالم الشهادة:

إن الإنسان شبيه بالحيوان من ناحية الجسد، فهو يأكل ويشرب ويتنفس كبقية الحيوانات، ويصاب بالأمراض الجسدية، ولكن الإنسان عرف من قوانين الحياة، فأدرك تأثير الحيوانات الدقيقة (الفيروسات) عليه، ولا تزال معارفهُ ترتقي، وفي كل جيل تزداد عما كان الجيل السابق يعلمه، فالناس قديماً لم يكونوا يعرفون من الدم إلا أنه سائل احمر، أما القوانين العجيبة، والكائنات الحية الموجودة فيه ؛ فلم يكونوا يعرفونها، كل هذا عرفوه بعد اكتشاف المنظار والمكبِّرات، وذلك منذ مئتي سنة فقط.

لقد ارتبطت رؤية الأشياء الصغيرة ؛ برؤية الأشياء البعيدة مع اكتشاف المناظير والمكبرات، مما سهل تسخير المادة، وتسخير الحياة.

إن الاكتشافات المعاصرة مستندة إلى الاكتشافات السابقة، فاكتشاف العدسات المقرِّبة والمبعِّدة ؛ اعتمد على صناعة الزجاج التي عرفها الإنسان القديم، حين أشعل النار فوق الرمال فسالت، لكن قوانين الانكسار، وتجميع الضوء وتفريقه، التي تجعل الأشياء البعيدة قريبة، والقريبة بعيدة، والصغيرة كبيرة، والكبيرة صغيرة، هذه القوانين المادية ؛ لم يكتشفها الإنسان القديم، ولم تخطر يوماً على باله.

لقد خدم هذا الكشف العظيم الإنسان، فاستعان به لمعرفة ما كان غيباً عند القدماء، فما كان غيباً بالأمس صار بالعلم شهادة، من المجرات إلى الذَّرّات، واستعاض به عن ضعف البصر الذي قد يلّم به لسبب أو لآخر.

وهكذا فإن المعاناة الشديدة، هي التي أوصلت الإنسان إلى هذه المعرفة: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [ فُصِّلت: 41/53 ]، ومع اكتشاف قوانين المادة في العدسات ؛ اكتشف الإنسان مجالاً جديداً من مجالات الحياة، فرأى في الماء الرائق كائنات دقيقة لا ترى بالعين المجرَّدة، واستطاع أن يحلِّل الدَّم، وينظر في محتوياته، وأدرك وظيفة كل منها، سواء الكريات الحمراء أو البيضاء، في التنفس وفي الدفاع عن الجسم ضد الجراثيم الغريبة.

الخلق والتسخير:

هنا يرد سؤال هام: ففي قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)نسب الله إلى نفسه خلق الوسائل المستقبلية، فقال: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، لكن جهود الإنسان تدخَّلت في هذا الخلق، فهل نقول: إنها من صنع الإنسان، أم نقول: إنها من خلق الله؟

للإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى قاعدة جديدة، وهي أننا نستطيع أن نقول عن الأشياء: إنها من خلق الله، ونستطيع أن نقول: إنها من صنع الإنسان.

إننا نقول عن الشيء الذي صنعه الإنسان إنه من خلق الله ؛ لأن الإنسان سخَّر القوانين التي بثَّها الله في الكون، ولم يبدع الأشياء من عدم، إنه استخدم السنة، ولم يبدعها، ونقول أيضاً: إنه من صنع الإنسان، لأن الإنسان هو الذي اكتشف القانون، وبه خرجت الأشياء من حالة إلى حالة أخرى، وبعلمه سخرها. فالعدسات مثلاً خلقها الله، خلق مادتها وقانونها، وكشفها الإنسان وصنعها على نحو يستفيد منه، إنها تماماً كالأشجار والثمار التي خلقها الله بمادتها وقوانينها، ورتبناها كما نريد، لتؤدي الغرض الذي يفيدنا.

لقد خلق الله الرمل، فصنعنا منه الزجاج،وفق القانون الذي وضعه الله، وجعلنا من الزجاج أواني وزخارف ونظارات … الخ.

إننا فهمنا هذا لأننا رأينا مصداق قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، رأينا هذا في أشياء صنعها الإنسان، كالسيارات والطائرات والسُّفن الفضائية … الخ، لكن أجدادنا لم يَرَوا إلا الحيوانات كوسائل للنقل، فقرؤوا: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، ولم يدركوا منها أن الأشياء التي ستخلق سيتدخل الإنسان في إيجادها وتطويرها، لذلك أصبح لدينا من الأدلة على صدق القرآن، وأنه من عند العزيز الحكيم ؛ ما لم يكن الذين من قبلنا يملكونه، ومن يأتي بعدنا ؛ سيرى أشياء لا نستطيع أن نراها بكل وسائلنا وعلومنا الحالية.

المسلمون وطباعة المصحف:

ستظهر آيات الآفاق والأنفس في الأيام القادمة، سواء أّقّبِلَها المسلمون أو امتعضوا منها.

لقد ترددوا كثيراً قبل أن يوافقوا على طباعة المصحف بالآلات الحديثة، كما ترددوا في تنقيطه وتشكيله من قبل.

فقد كتب على عهد رسول الله  بدون نقط أو تشكيل، لذلك نجد اختلافاً في تنقيط كلمة: (فَتَبَيَّنوا) بحيث قُرئت (فَتَثَبَّتوا)، وكذلك قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأتِ) قُرئت (يَوْمَ يَقولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأتِ)، وكان يكتب على الجلود والعظام والأقمشة وأوراق الشجر، ثم استخدم الورق، ونقطت الحروف، وشكلت أيضاً.

وما ترددوا في طباعة المصحف، إلا لأنهم لم يصنعوا آلات الطباعة، التي جاءت من عند الكفار، وكانوا يخشون عليه من الضياع، بينما الطباعة أكثر دقة، واقل احتمالاً للخطأ من النَّسخ اليدوي، وأيسر في وصول القرآن إلى الناس بخط واضح وجميل.

لقد عانى الناس كثيراً حتى اخترعوا الطباعة، بالرغم من أن مبدأها كان موجوداً منذ عهد رسول الله ، فقد روى البخاري أن رسول الله  كتب كتاباً - أو أراد أن يكتب - فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتَّخذَ خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله (1)، كتب عليه في العلى كلمة الله ثم رسول ثم محمد، بحيث تُقرأ من الأسفل: محمد رسول الله. والواقع أن ختم كلمة واحدة كختم صفحة، لكن الانتقال من الكلمة إلى الصفحة استغرق أكثر من ألف سنة.

إننا اليوم نعيش أشياء عجيبة، فحين كنا صغاراً ؛ لم يكن هذا التصوير للأوراق والمستندات، وهذا شيء لم يكن يخطر في بالنا، وقبل بضع سنوات ؛ لم نتصّوَّر أن بإمكاننا أن نضع الورقة في جهاز ؛ فتطبع في أقصى الأرض، وهذا ما أصبح يسمى (الفاكس)، (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ).

الجمود وضرورة التجديد:

وكما تردَّد المسلمون في طباعة المصحف، لن آلات الطباعة جاءت من عند الكفار ؛ كذلك رفضوا التلقيح (التطعيم) ضد الأمراض ؛ لأنه جاء من عند الكفار أيضاً.

ولم يكن قبول المسلمين للأشياء القادمة إليهم من الغرب سهلاً، فقد لبثوا زمناً طويلاً قادة للعالم، في السياسة والعلم والاقتصاد، فالفلك كان من عندهم، وكذلك الجغرافيا والطب والهندسة والفنون، فكيف يقبلون بأن يكونوا مستهلكين فقط؟!!

وليس هذا فحسب، بل لا يزال بعض المسلمين يرفضون التلفزيون ؛ كما رفضوا الطباعة، ويرفضون نقل الأعضاء ؛ كما رفضوا التلقيح ضد الجدري والسل والشلل والسعال والحصبة، في بادئ الأمر.

إن هذه المشكلة تجعلنا دائماً في المؤخرة، فقد نتج عن رفض التلقيح خسائر فادحة، فبعض الأطفال أصيب بالشلل، وبعضهم أصيب بالعمى … وكذلك اليوم، فنحن نقبل أن يدفن الميت ليأكله التراب ؛ ونرفض أن يستفاد من جسده لإحياء مريض شارف على الموت.

إننا نرى التبرع بالدم صار عادياً، ربما لأنه أصبح قانوناً عاماً، تتوقف عليه الكثير من المعاملات والإجراءات، والدم ضروري في العمليات الجراحية، وفي الإسعاف من النزيف الذي تسبب الحوادث.

إن زرع الأعضاء كالقلب والكلية والقرنية، لا زال مرفوضاً، ولا زال المسلمون يلجؤون إلى المشايخ لاستصدار الفتاوى في هذا الموضوع.

والذي يسبب هذا ؛ هو أن المسلمين لم يفهموا موضوع العواقب من كتاب الله، ولم يتبصروا في قوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) [ الرَّعد: 13/17 ]، ولا شك بأن إنقاذ إنسان حيٍّ لم يمت، بواسطة إنسان مات ؛ أمر شديد النفع، ولا يضرُّ أحداً، ولذلك لا أشك في جوازه، بل في وجوبه أيضاً.

العواقب:

إن موضوع العواقب، والبحث عن الأنفع للمجتمع، وللفرد فيما لا يتعارض مع مصلحة المجتمع ؛ موضوع هام جدا، فالله سبحانه وتعالى قال عن الخمر والميسر: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [ البقرة: 2/219 ]، لقد صار كل من الخمر والميسر دنساً، لأن إثمه أكبر من نفعه، ولو كان نفعه أكبر من إثمه لكان مقدساً.

إذن، مقياس القداسة أو الدناسة هو مقدار النفع مقابل الضرر، والناس يسيرون دائماً وراء الأنفع، والنفع هو الذي يحقق مصلحة المجتمع، أو الأفراد فيما لا يضر المجتمع، في أطول مُدّة زمنية، وأقل كلفة مادية، وقانون الله هو أن الأنفع سيبقى: (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ). لقد رأينا من آيات الله وسننه في الكائنات الحية ؛ أن الأعمار تزيد بمعرفة قوانين الحياة، ورأينا أن المعرفة بقوانين الزراعة تزيد الأرزاق، والمم التي لم تتعلم قوانين الصحة والاقتصاد لا تزال ترسف في قيود المرض والفقر، وتعاني الموت المبكر والفاقة والعوز.

إن الذين تعلموا طالت أعمارهم وكثرت أرزاقهم، ولكن الذين ينكرون العلم لا ينعمون بالعيش المستقر صحياً وفكرياً ومادياً.

وهكذا تغيرت أمم كثيرة، ولم تبدأ أمم أخرى بالتغير بعد ؛ لأنها تعيش عصر ما قبل العلم والفهم، وليس فيهم أناس يدرسون العلوم، وينقلونها إلى أمتهم ؛ ليقنعوا الناس بها.

التسخير للمادة والحياة والنفس:

لقد سخَّر الإنسان المادة حين عرف قوانينها، وأرسل المركبات إلى القمر، وتحادث مع الذين نزلوا عليه، وهو اليوم يرسل المركبات لاستكشاف الفضاء، وربما يأتي يوم ينزل فيه على المريخ، وأثَّر تسخير المادة على معرفة قوانين الحياة، فزادت الرزاق (اللحوم - اللبن - البيض - أنواع الزبدة والجبنة … الخ)، وتحسنت العناية الصحية.

والآن بدأ الإنسان رحلة البحث في قوانين النفس، قوانين تغيير ما بالأنفس، فبعد اكتشاف ما وعد الله به في إطار المادة (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [ النَّحل: 16/8 ] ؛ دخلنا عصر تغيير ما بالأنفس، وكشف قوانين المجتمع.

وسنن الأنفس تبحث في الكيفية التي يصير فيها الإنسان متوحشاً، والكيفية التي يصير فيها سوياً، إنها تدرس الإنسان الذي يذكر أخاه بسوء، فيصير كمن يأكل لحمه ميتاً.

وحين نعرف قوانين تغيير ما بالأنفس ؛ نغيِّر الإنسان كما تغيرت الحياة، فيتخلص من الوحشية وقتل الآخر وكراهيته والحقد عليه ؛ فيصير في أحسن تقويم، كما تخلص من المرض والأوبئة، فصار في أجمل مظهر وطال عمره.

من هنا فإن علينا أن نفكر في هذه السنن والقوانين، وألا نتلبد ونقف متفرجين، فالمرض النفسي أو الفكري ؛ خطير وقابل للتفاقم، كالمرض الجسمي، والنزيف واحتشاء القلب.

إننا إن لم نعالج المريض قبل أن يستفحل مرضه ؛ فإننا نسهم في قتله، وإذا رفضنا قوانين تغيير ما بالأنفس ؛ فسنبقى في قتال علني أو مبطّن، كالذي يجري في بلاد الأفغان، وهنا وهناك في البلاد الإسلامية.

إنَّ الذين لم يسخِّروا المادة ؛ لا زالوا يعيشون في الغابات، والذين لم يسخروا الحياة ؛ لا زالوا يعيشون تحت رحمة الأوبئة والأمراض والمجاعات والموت المبكر، والذين يرفضون تغيير ما بأنفسهم، ولا يعلّمون الإنسان تاريخ الإنسان ؛ لا زالوا متوحشين، يأكل بعضهم بعضاً، أو يتمنى كل منهم أن تتاح له الفرصة لقتل أخيه.

العلم سبيل التغيير:

إن نفوسنا مريضة، ولا نتخلص من أمراضنا إلا إذا تعلمنا، وقطّاع الطرق قديماً كانوا منتشرين أكثر من الآن، يقتلون المارة، ويأخذون ما معهم، هذه الأمور كانت شائعة، ولا زلت أتذكرها، وقد خَفَّت بانتشار العلم ووسائل الاتصال.

ربما يرفض بعض المسلمين دراسة هذا الإنسان - قاطع الطريق - على أنه نموذج يمكن تغييره بمعرفة الأسباب التي أوصلته إلى هذه الحالة، ويتركون هدايته أو إضلاله لله، فالله هو الذي يهدي ويضل، وهو الذي يحيي ويميت.

صحيح أن الله هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يهدي ويُضل ؛ لكننا تدخلنا في المادة التي خلقها الله، فغيرناها وسخرناها، وتدخلنا في الحياة، فخففنا آلام الإنسان، وأطلنا عمره، وبالطريقة نفسها ينبغي أن نتدخل في عملية تغيير ما بالأنفس، وهذا أعظم علمٍ، وافضل عمل.

إن علماء المسلمين ينكرون علم تغيير ما بالأنفس رغم خطورته، ولذلك لم يدرسه المسلمون، ولم يبدؤوا بفهمه، لذلك يزداد تخلفنا كل يوم، ولا نستفيد حتى من القرآن، واستفادتنا منه تقتصر على الاستشهاد به في مناسبات تكفير بعضنا بعضاً (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) [ البقرة: 2/26 ]، وقتل بعضنا بعضاً، فكل واحدٍ يقول: باسم الله أقتلك، بحق القرآن أقتلك وهكذا …

إذن، ينبغي أن ندخل العصر بسرعة، كما ينبغي أن يوجد لدينا لقاح ضد الأمراض الحياتية الجسمية، وينبغي أن نغير ما بأنفسنا، ونسعى بعد ذلك إلى تغيير مجتمعنا.

قبل مدة قرأت كتاباً في علم النفس، يقول مؤلفه: « إن الإنسان الذي يصل إلى مستوى أن يقرأ هذا الكتاب، ويهتم بما فيه ؛ لا يمكن أن يرتكب جريمة ». وكذلك الإنسان الذي عاش في بيئة مهذبة نظيفة ؛ لا يستطيع أن يتلفظ بالفواحش والقبائح، لا كالذي يعيش في مجتمع اعتاد أفراده على الشتم والسَّب، والبذاءة في الكلام.

الوحشية في تاريخ الإنسان:

إن دراسة التاريخ تعرِّفنا بالأحقاب التي مرَّت على الإنسان، فالرُّومان أجداد الأوروبيين ؛ كانت لهم وسائلهم للتسلية والترفيه، وقد أنشؤوا لها المسارح والمدرجات، كمدرج بصرى وجرش وعمان، وكان الناس يحتشدون فيها، أما المنظر الذي يثير متعتهم وسرورهم، فهو منظر العبيد والأسرى، الذين يقدَّمون ليتصارعوا فيما بينهم حتى الموت، أو لينازلوا الوحوش الكاسرة التي سرعان ما تفترسهم وتنهش لحومهم، في جوٍّ يسوده الفرح والمرح والسرور، وإذا تظاهر أحد الخصمين بالإغماء، وسقط ارضاً ؛ قام إليه بسيخ من حديد، محَّمى حتى الاحمرار، فإما أن يتابع الصراع، أو يغرس السيخ في بطنه، ليتأكد من أنه قد مات فعلاً.

إنه منظر قبيح وفظيع، وفظيع أيضاً ما نشاهده اليوم في التلفزيون من العاب الملاكمة والمصارعة، وأفلام العنف، والحروب الخرافية التي تقدم للأطفال، هذه الأشياء لم تعد تليق بالإنسان، وهي مؤذية لنفسيته، ومُفسدة لذوقه، وتسبب المآسي للأطفال الذين يحاولون تقليدها، إما بالقفز من ارتفاع شاهق، أو تمثيل القتل والفتك بإخوتهم وذويهم.

وفي إحدى المّرات حضر أحد الحواريين من أتباع عيسى عليه السلام، الذين كانوا يبشِّرون في روما، حضر إلى أحد المسارح، وجلس مع المشاهدين، ونظر فإذا بهم يفتحون للعبيد، ليخرجوا، وليقتل بعضهم بعضاً، فقام وصاح في الحضور: لا تدعوهم يتقاتلوا، أوقفوا هذه المأساة..، فأشاروا إلى الحرس أن اقتلوه، لأنه أفسد المشهد عليهم.

وكان الخطيب الروماني الشهير (شيشرون) ؛ يحضر هذه الاحتفالات، إنه حكيم وله خطب محفوظة إلى الآن، ويعاف هذه المشاهد، ولكنه لا يستطيع أن ينكرها على الناس، وهذا ما أشار إليه القرآن: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [ المائدة: 5/79 ].

ونحن أيضاً، لدينا أفكار قذرة، لا تقبل من أحدٍ إنكارها، فإن تجرأ وخالفنا ؛ نقتله، وإن جاء بفكرة يخالفنا بها ؛ نحكم عليه بالإعدام، ولذلك فإن معرفة التاريخ تفيدنا، وتعرفنا بأنفسنا، وتنقلنا من الوضع الذي نحن عليه.

علم تغيير ما بالأنفس:

كما قلنا، فإن رؤية آيات الآفاق ؛ أسهل من رؤية آيات الأنفس، فالأنهار قديماً كانت موجودة، وأقام الإنسان عليها السدود، وبنى الحضارات، ومن ذلك ما ذكره الله عن سبأ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [ سبأ: 34/15-16 ]، واليوم تطورت وسائل تنظيف الأنهر، والسقي بالرَّش والتقطير. لقد تدخل الإنسان في صنع السدود وتسخير مياه الأنهر، وإذا لم يتعهدها بالعناية الدائمة، فإنها تعود إلى الخراب، كذلك إذا تركنا الناس، ولم نعلِّمهم، يعودون إلى الوحشية، ويسفكون الدماء.

إن الدراسات النفسية في الغرب اليوم، تعدُّ كالدراسات النووية، لا يسمحون لغير الأمريكي والغربي أن يتعلَّمها، خاصة إن كان من العالم الإسلامي، الذي يعدّونه عدوّاً رئيسياً لهم، وإذا بدأ أحد من العالم المستضعف بالسعي لامتلاك العلوم والتجهيزات لصنع الذَّرَّة، يذهبون إليه، ويقلعون أظافره، ويسدون فمه، ويمزقون دفاتره. هذا بالرَّغم من أن القنبلة النووية التي يمتلكونها لا تفيدهم إلا لأننا نخاف منها، ذلك لأنهم لا يستطيعون ضرب أحدٍ بها، وبمجرد أن تضرب قذيفة واحدة، ينفجر الشتاء النووي الذي لا يبقي ولا يذر.

إذن، أنا أبشِّر وأؤكد بأن علم النفس، وقوانين تغيير ما بالأنفس: هي أعظم العلوم، ويمكن لنا أن نبحثها، واهتمام القرآن بها ؛ إنما ينبع من أهميتها، وصعوبة معرفتها، بينما لم يهتم بالمقابل بالزراعة أو الصناعة مما يمكن أن نصل إليه بسهولة. ومن هنا كانت وظيفة الأنبياء هي تغيير ما بالأنفس، وصناعة الإنسان الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، وصناعة مجتمع نظيف فكرياً، تسوده الأخلاق والمحبة، بالتعليم والتثقيف، كما نعقم المياه، ونطعِّم الأطفال لمواجهة أي مرض قبل انتشاره.

الإنسان يتجاوز تهمة الملائكة:

إن تغيير البشر لما بأنفسهم ؛ يزيد أعمارهم طولاً، ويزيد أرزاقهم سعة، وربما يصعب علينا هذا التفكير، الذي يصادم بعض تصوراتنا عن الله، ولكن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [ الرَّعد: 13/11 ]، فإذا تعلَّمنا ؛ يجعل اللهُ أعمارنا طويلة، وأرزاقنا واسعة، وإذا جهلنا، يقصف أعمارنا، ويقدر أرزاقنا، ويجعلنا سَلَباً للآخرين، ومُسخرين لهم.

إذن، التغيير يتم بالتعليم، فالأعلم هو الذي يُسخر مَنْ دونه في العلم.

لقد كان البشر قديماً يتقاتلون من أجل الأقوات، ومن أجل الأنعام (الأغنام والأبقار والخيول …)، ويشعلون لذلك حروباً طاحنة، واليوم يُشعلون حروباً لأجل الطاقة والبترول، كحرب الخليج، التي أشعلت لحماية امتيازات الدول الكبرى في البترول.

والماء ثروة غالية عند الناس قديماً، ففي غزوة بدر حين نزل رسول الله  بالقرب من بدر، قال له الحُبابُ بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: « بل هو الرأي والحرب والمكيدة »، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله، ثم نعوِّر (ندفن ونطمُّ) ما رواءه من القًلب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله : « لقد أشرت بالرأي »، فنهض رسول الله  ومن معه من الناس، فسارَ، حتى أتى أدنى ماء من القوم، نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فعوِّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي ينزل عليه، فملئ ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية (1).

لقد هزمنا في حرب الخليج، وسلب منا مالنا، وتهنا في بحار جهلنا، فمتى نتعلم؟ ومتى نستيقظ؟ وإذا كانت حرب الخليج أشعلت من أجل الطاقة ؛ فإن العالم ينتظر مستقبلاً باهراً يستعمل فيه أنواعاً جديدة من الطاقة. ولكن إذا أردنا أن نتصور مستقبل الإنسان ؛ فعلينا أن نعود إلى تاريخه البعيد السحيق، إلى قول الملائكة فيه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [ البقرة: 2/30 ]، أي أن للإنسان إمكانيات لتجاوز تهمة الملائكة، فالولد الصغير أو الطفلة الصغيرة، حين نهيء لهما ظروفاً مناسبة للعلم والمعرفة، يتحولان إلى بشر سوي في أحسن تقويم، وإذا أهملناهما، ووضعناهما في مجتمع جاهل، سيصيران مثل الناس المحيطين بهما.

إننا لا نقدِّر أطفالنا، ونتساءل في شكٍّ عما يمكن أن يفعلوه في المستقبل، ولكن ربما يكشفون شيئاً جديداً يغيرون به العالم، وفي التاريخ نجد نماذج لم يكن يأبه لها أحد، غيَّرت العالم، وأنشأت مدارس فكرية جديدة.

لقد قال الملائكة: هذا المخلوق لا يستحق الخلافة، ولا يستأهلها، فهو سيفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فردَّ الله عليهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، وأنا أفهم من هذه الآية أن في الإنسان جوهراً عجيباً، يمكنه من التغلب على مشكلات الحياة، ويستطيع تجاوز أخطائه، فهو وإن كان مرَّ عليه حين من الدَّهر، يسير حافي القدمين، عاري الجسد، يأكل الجيفة، ويأكل لحم أخيه، إلا أنه سيسخر الكون، ويتعلَّم، إلى أن يحقق الخلافة بالعدل والسلام والمحبة.

إننا اليوم نعلم من معاني قوله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ما لم يفهمه السابقون، كما فهمنا من قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمونَ).

التغيير بالعلم لا بالوعظ:

تناولت في المجلس السابق موضوع (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟)، وتحدَّثت عن أن تغيير الإنسان بحيث يصير يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول هو أجل ما ينبغي أن نستفز قوانا لأجله، وبعد أن انتهينا من الحديث في هذا الموضوع، جاءني أحد الأخوة، وقال لي: إنك شرحت الموضوع شرحاً وعظياً، ودفعت النّاس لأن يكونوا صادقين، لكن لم تتطرق إلى كيفية جعل الإنسان صادقاً صحيح الفكر، كما نجعله صحيح الجسد، ولم تبين المبادئ التي تجعله غير منافق وغير غدار، وترقيه إلى أن يصير في أحسن تقويم، وتزكي نفسه، إلى أن يصل إلى مصاف الملائكة، بل وتسجد الملائكة له.

إنها مشكلة حقيقية، وأنا وضعت خطوطاً عامة، وليس لدي من الدراسات ما يكفي لأن أضع المبادئ الكافية لمثل هذا العلم، ولكني أدفع الشباب إلى التجربة والبحث، والمستقبل أمامهم، والعالم ينتظرهم، وكما قال إقبال: … وأمة أحمد يتحفز التاريخ لاستقبالها المساواة في المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي:

إننا رفضنا المدنية الغربية، ولم نسايرها كما فعل اليابانيون ؛ لأنا نريد أن نصنع حضارة متفوقة عليها، فنحن لا نقبل احتقار الإنسان، ولا نجعل للعرق الذي ننتسب إليه ميزة على غيره، كما يفعل الأوربيون.

قرأت في إحدى المجلات، عن سقوط تشاوشيسكو في رومانية، قال الكاتب: حين سقط تشاوشيسكو كان مكتوباً على أحد الجدران في بخارست، بخط غير جميل: ليس لك مكان في أوربا يا تشاوشيسكو.

ليس المقصود بتشاوشيسكو شخصه، بل نموذجه الذي لم يعد مقبولاً في أوربا، بينما سيعيش طويلاً في غير أوربا، لأن الغربيين لا يريدون نشر الخير والعدل والحرية في العالم، بينما نحن المسلمون نقرأ في كل ركعة من صلاتنا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لا نقول: ربّ العرب، ولا العجم، ولا …، بل نقول: رب العالمين، رب الإنسانية، وفي كثير من الأحيان نقرؤها دون أن نعي مضمونها، ولكنها من بقايا الفطرة الإنسانية التي لم تفسد، كما أن من بقاياها الشفقة على المريض.

من إنكار التعدد إلى قبوله:

في موضوع قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [ الصَّف: 61/4 ]، كنت قد زورت في نفسي تصوّراً، ولم أكن أنوي ذكره، وهو دراسة تاريخية للموضوع، فتحويل الناس، من حالة إنكار التعدد والاختلاف، إلى حالة يقبلون فيها أن يعيش بينهم من يختلف عنهم في الدين ؛ كان صعباً جداً، وحتى الآن لا زال صعباً، فكيف في ذلك الزمان، حيث التفكير البدائي اللاعلمي، والعشائرية المنتشرة في العالم، والتقديس للعرق واللون والعقيدة.

والإسلام حاول تجاوز هذه المرحلة، وبالرغم من وجود بعض الاضطهاد في تاريخ المسلمين ؛ إلا أنهم ضربوا أمثلة عظيمة في العدل، فحين تسابق ابن عمرو بن العاص والقبطي في مصر، وسبق القبطي ابن عمرو، فضربه وقال له: خذها وأنا ابن الأكرمين، جاء القبطي إلى المدينة، ولو لم يكن يعلم أنه سينصف في مدينة الخلافة ؛ لما قطع كل هذه المسافات إليها، ونحن اليوم لو ذهبنا إلى الأمم المتحدة، فسيزيدوننا ضرباً، ولا نستطيع أن نعلن استنكارنا للظلم. أما عمر بن الخطاب فقد استدعى عمرو بن العاص والي مصر ومعه ابنه، وحاكمه فثبت أن القبطي ظُلم، فأعطاه السوط وقل له: اضربه مثلما ضربك.

لقد حصلت في تاريخ المسلمين تجاوزات عديدة، ولكن نموذج العدل كان عظيماً، وبالرغم من أنهم كانوا يعتبرون هذا العدل خارقة مَنَّ الله بها على الصحابة، فإن لهذا العدل أصل معرفي يمكن نشره وتعميمه، وحدوث مثل هذه الحادثة في التاريخ - ولو مرّة واحدة - أمر عظيم، وإن كان ذلك نابعاً من إيمان غيبي وخوف من النار، وعمر رضي الله عنه - لشدة تمسكه بالعدل وتحمله لمسؤوليته - كان يخاف أن يسأل عن شاة عثرت بالعراق، لِمَ لم يعبد لها الطريق، وهو أمير المؤمنين، فكيف لا يخاف من ظلم الإنسان للإنسان.

إننا لا نمدح تاريخنا، ولا ندافع عنه، ولكنه يحوي نماذج رائعة في قبول المخالف، والعدل معه، نماذج لم يصل إليها كثير من الناس حتى الآن، ففي البوسنة والهرسك ؛ يقتل الناس لأجل معتقداتهم، وتفقأ أعينهم، وتسبى نساؤهم، وتكسر أرجلهم، تحت سمع العالم وبصره.

العلم ورفع الظلم:

إننا نشعر بأننا مظلومين، وسبيل رفع الظلم هو تعليم الناس، ورفع مستواهم، وتبليغ القرآن الذي نقبله ونضعه على رؤوسنا، وهذا رأس مال كبير، وإذا كنا متأخرين ومتخلفين، لكن دين الله سيظهر، وسينتشر، بمجرد أن نتعلم، وسيكون للذين تعلموا شرف السبق العظيم، وسيسعد العالم جميعاً بدين الله إذ ينتشر من جديد: … وأمة أحمدٍ يتحفز التاريخ لاستقبالها إننا نسعى لنشر العدل، لا لنهب الناس، ولقول الحق، ونبذ الرياء، وإعطاء الحقوق لأصحابها. وحين جيء بالغنائم ؛ بكنوز كسرى وقيصر إلى عمر ؛ بكى وقال: هؤلاء قوم عصوا الله، فنزع الملك منهم، ونحن إذا عصيناه ؛ سينزعه منا، والقرآن يحذرنا من أن الحصول على الحكم والملك، ليس مقياساً للصلاح والاستقامة، وأن المقياس هو ما تفعله بعد أن يصير الحكم إليك: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، قَالُوا: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [ الأعراف: 7/129 ].

لقد شرحت من معاني قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) ما أدى إليه علمي وفهمي، فإن كان لدى أحد من الذين يبلغهم كلامي رأيٌ آخر ؛ فليطرحه للناس، وليبين لهم فهمه، فلعلي أقول كلاماً وعظياً يعوزه الدليل التجريبي، والدراسة التي تسقطه على الواقع.

التفسير من أجل التغيير:

كان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون العشر آيات من القرآن، حتى يتقنوها حفظاً وفهماً، وهذا منهج صحيح، لأن فهم آية ما، يساعدنا كثيراً على فهم الآيات الأخرى. فإذا فهمنا مثلاً قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمونَ) [ النَّحل: 16/8 ] ؛ فإننا نستطيع أن نتصور إمكانية تغيير ما بالأنفس، والقضاء على الحروب، وعلاج الناس بوسيلة أكثر فاعلية، وأقل خسارة.

وعلى ضوء فهمنا لآيات القرآن التي تتحدث عن تغيير ما بالأنفس، وعن تطور المجتمعات البشرية ؛ يمكننا فهم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [ الصَّف: 61/4 ].

إن عملية التغيير ليست سهلة، وجعل الإنسان صادقاً يحتاج إلى رصيد كبير من العلم والفهم، وكما قال محمد إقبال: ليسَ وعظٌ من بليغٍ قادراً أَنْ يردَّ الكبشَ ذئباً كاسراً والتفسير المجرد للآية، لا يحلُّ العقد، ولا يزيل الحجب، بل يضع لبنة في البناء الكبير الذي لا زلنا منه في الأساس، وعلينا أن نرجع إلى هذه الأفكار، لندرسها بعمقها الإنساني، وسننها النفسية، لنعرف كيف نصنع الإنسان المزكى، الذي تصالح فيه داخله وظاهره، فأصبح يقول ما يفعل ويفعل ما يقول.

ولعلنا في مثل هذه الجلسة ؛ نلتمس بعض خيوط النور، إذ ندرس القرآن وأحاديث الرسول ، كالحديث الذي يقول فيه: « إذا عيَّرك أخوك بما يعلم فيك ؛ فلا تعيِّره بما تعلم عنه » (1)، وقوله: « لو سترت أخاك بثوبك ؛ بدلاً من أن تكشف عورته للناس » (2).

إن علينا أن نخرج من قلب الإنسان التلذذ بذكر مساوئ وعيوب أخيه، وأن نغرس في قلبه الحب والإخلاص والصدق والنصيحة، قال تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [ البلد: 90/11-14 ].

إن الإنسان السوي، يطعم المحتاج، ويفك المقيد في عبوديته، ويتجاوز عن سيئات الناس: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) [ الأحقاف: 46/16 ].

وقد ورد في الحديث أن شخصين تنازعا، فأخذ أحدهما يسب الآخر، والآخر لا يرد عليه، حتى إذا أكثر عليه من ذكر السيئات والشتائم، بدأ بالرَّد عليه، فقال : « كانت الملائكة تردُّ عنه إذ كان ساكتاً، فلما بدأ بالدفاع عن نفسه ؛ انسحبت الملائكة » (1).

نستطيع أن نفهم هذا الحديث فهماً غيبياً متعلقاً بالملائكة، ونستطيع أن نفهمه فهماً واقعياً، فالناس عموماً في مثل هذا المشهد يتعاطفون مع الطرف الذي يتلقى الإساءة ولا يردُّ (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [ الفرقان: 25/72 ]، (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [ الفرقان: 25/63 ]، ونحن في هذا الموضوع كالملائكة، إننا نتعاطف مع البريء الذي لا يردُّ ونكره الآخر المسيء.

إن المجتمع الذي يتمتع بنظافة فكرية، يتعامل مع الموضوع بهذه النفسية، فيحترم الإنسان الذي لا يردُّ ترفعاً عن ذكر السيئات، بعكس المجتمع الملوث فكرياً، والذي يصفق للقوي المسيء وينظر باحتقار للآخر.

الجنة وطهارة القلب:

في الوقت الذي نتخلى فيه عن الغدر والخيانة، وننبذ الحقد والغل ؛ تتلاقى أيدينا وقلوبنا، فلا نتلذذ بذكر سيئات أخينا وعيوبه، وعندئذٍ نكون من أهل الجَّنة الذين قال الله عنهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ،لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [ الحجر: 15/47-48 ]، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [ الحشر: 59/10 ].

لقد ضيَّعنا هذه الآيات، ونسيناها، وليس هذا فقط ؛ بل إن من يسعى إلى إحيائها وتذكير الناس بها يُتَّهم بالغباء والحمق، فحين أقول للناس: أنا على مذهب ابن آدم، ولئن ضُربت أو أُوذيتُ فلن أردَّ ؛ لا يتلقَّى الناس كلامي بالقبول، وينظرون إلى على أنني إنسان هزيل وضعيف وجبان، وكأن الله لم يذكر ابن آدم، ولم يذكر العفو والصفح، ولم يحرم الغدر والكذب والحقد.

إن البداية صعبة بعض الشيء، ولكن بمجرد أن نصدق في توجهنا، ونغير ما بأنفسنا، سينقلب الآخر إلى ولي حميم، وسيصل إليه شعاع الإيمان، وسيتلقف مفاهيمنا عن القرآن وآياته، ليطور الأسس التي بدأنا بها، في ربط القرآن بآيات الآفاق والأنفس، وفهمه على أساسها، وهذا ما يزكي أنفسنا، ويحسِّن أخلاقنا وسلوكنا، وهذا ما نسأل الله أن يعيننا على الوصول إليه.

النقد الذاتي والتقويم:

نريد الآن أن نقوِّم دروسنا في هذا المسجد، لنرفع مستواها، ونُحسِّن أداءها، وعلى الحاضرين أن يسهموا في تقويم هذا العمل، للوصول إلى تجديد صلتنا بالقرآن الكريم، ولنرفع أنفسنا به، فقد ورد في الحديث عن رسول الله  قوله: « إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع آخرين » (1). ونحن نريد أن نرجع إلى القرآن الذي أمرنا رسول الله  بأن نعض عليه بالنواجذ، وأخبرنا أننا إن تمسكنا به ؛ فلن نضلَّ أبداً. وكلنا مسؤولين عن هذا، وعلينا أن نتعاون لتحقيق هذه العودة بحيث نقرِّبه إلى الأفهام، ونفسِّره تفسيراً ينسجم مع المنطق والعلم.

وسأبدأ أنا بنقدٍ ذاتي لِمَا أقوم به في هذه المجلس، فأقول:

أولاً: ينبغي أن يتكامل في تفسيري لآيات القرآن كلٌّ من: وضع الآية على لسان المسلم، ليعرفها لفظاً، وإدخال معناها في دماغه، وهذا ما أشعر بأنني لا أحققه تماماً، وربما يتحسن هذا الأمر بالممارسة والتكرار، إلى أن تصير لدينا مهارة كافية في التعليم والتفهيم.

ثانياً: أشعر أنني تحدَّثت في أشياء كثيرة بحديث عام، وهذا عيب في الدرس، إذ إن المستمع لا يخرج بأشياء محدّدة، وغن كان ما سمعه يُغرس في اللاشعور عنده، لكنك إن سألته ماذا سمعت؟ ماذا فهمت؟ وماذا يمكن أن تبلغ؟ فستتبين لك الأشياء التي أتقنها، والأشياء التي لا يستطيع أن يعبر عنها، ولذلك أرجو أن نتساعد لنتخلص من هذا العيب.

الحوار مع الحضور:

س 1: كثيراً ما يَذكُر القرآن القلبَ، فهل ثمة فرق بين القلب في الخطاب القرآني، والدماغ الذي نفكر وندرك بواسطته؟

الجواب:

إن ما يُضَيَّعُ المسلمين في تصوري ؛ هو أنهم يردون الإنسان إلى شيء غير واضح، وغير مضبوط، وذلك عندما يردونه إلى القلب.

والقرآن لا يذكر الدِّماغ كمصطلح، ولكنني أفهم من كلمة القلب في القرآن أنها تعني الدماغ، وإن كان محمد إقبال وكثير من المسلمين ؛ يفرِّقون بين القلب والعقل.

إنني لا أُفرِّق بينهما، فهما عندي شيء واحد، ولكن القلب هو شدَّة الرسوخ في الموضوع العقلي، ولهذا حين يقولون: قلب، فهذا يعني عندي العلم بواسطة الدماغ، وهو الفهم، والفهم يتفاوت من شخص لآخر، رسوخاً وتعمقاً، وقد فرّق القرآن بين الذي يتلقف بعض الأشياء العلمية، وبين الراسخ في العلم، وفكرة واحدة كفكرة (لا إِكْراهَ في الدِّينِ) أو (ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ) ؛ تفهم فهماً صغيراً كحبة الخردل، وتفهم فهماً عظيماً كالجبل.

س 2: في العالم الإسلامي مشكلة خطيرة، وهي أن رجال الفكر أو العلماء، يُلجئون الناس إلى تقليدهم، ولا يسمحون لهم بالتفكير المستقل الحر، فما رأيكم بهذه المشكلة؟

الجواب:

هذه مشكلة تصادفنا، وستصادفنا في المستقبل، وهي كمشكلة إلغاء العلم والعقل، بحجة القلب والعرفان، ففي بداية التَّعلُّم لا بد من التقليد لاستيعاب مفاهيم البيئة، وتعلم اللغة، ولكن الاستمرار في التقليد كارثة، ولهذا علينا أن نحضَّ على الدراسة والاجتهاد، لأن العلم الذي يُكتسب بالتقليد ؛ يذهب بالتقليد، وقد حصل شيء من هذا مع صحابة رسول الله ، فقه جاءهم الخير تقليداً لرسول الله ، وإيماناً خوارقياً ارتبط بالوحي، وبوجوده  بينهم، ولم يرتبط - إلا عند قلة من الصحابة المتميزين - بالسنن الإلهية التي تجعل الإسلام مرتكزاً على قوانين ثابتة، تكرر نتائجها كلما تكررت مقدماتها، مهما اختلفت أشكال هذه المقدِّمات باختلاف الزمان والمكان.

وهكذا استمَّر الرشد مدّة من الزمن، ثم ضاع وفقد، وانقلبت الخلافة الراشدة إلى ملك عضود، ورجعت الجاهلية، ولازال المسلمون يبكون ضياع تلك الحقبة الذهبية من حياة الإسلام، ولذلك لا بد من تثقيف الناس، ونشر العلم في جميع الأوساط، لبيان حقيقة أنَّ ما فعله رسول الله  ؛ إنما هو سنة كونية، يمكن إعادتها بالطريقة نفسها التي اتَّبعها الرسول الكريم  وصحابته الأبرار.

وبالرغم من أن الإسلام كنظام متكامل، لم يلبث إلا قليلاً، لكنه ترك رجالاً لامعين، كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة البررة، الذين أقاموا الخلافة الراشدة، ثم ظهر رجال آخرون نفذوا الأوامر وطبقوا النصوص بمعزل عن السنن، فضيعوها، ونحن اليوم وقعنا في هذه المشكلة، فنحن نقلد ونستهلك ما ينتجه الآخرون، والأجهزة التي نستوردها ؛ لا تعمل عندنا بالشكل الأنفع، لأننا لا نعرف تركيبها، وكيفية الاستفادة القصوى منها.

إن التقليد هو الذي دمَّر العالم الإسلامي، وهو الذي جعلنا نزهد في طلب العلم والمعرفة، فلم نسهم في صناعة المجتمع صناعةً تسمو به إلى ما أراده الله ورسوله، والنماذج الموجودة الآن في العالم الإسلامي ؛ هي النماذج القديمة، التي تعاد صناعتها دائماً.

إننا لو صنعنا أشياءنا بأنفسنا ؛ لسهل علينا إعادة صناعتها وتطويرها، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [ الروم: 30/27 ]، ولكن إذا أتينا بصناعة غيرنا، فلن نعرف قيمتها، ولندرك كنهها، وسنظن بأنها أسطورة خارقة، كما حصل في موضوع الخلافة الراشدة، حيث ذهبت، ولم يبحث المسلمون في الأسباب العميقة التي جعلتهم يفقدونها.

س 3: كيف تقول بان المسلمين يزهدون في طلب العلم، ولا يقدمون أنفسهم لإنقاذ العالم الإسلامي، وهم الذين ما فتئوا يقدمون الضحايا في سبيل إنشاء الدولة الإسلامية؟

الجواب:

إن الشباب الإسلامي بإخلاصه وتفانيه، يتقدم ويضحي بنفسه، ويصل إلى حبل المشنقة وهو يكبر الله، ولا يبالي، كخباب وبلال وياسر، ولكن لا يوجد لديهم قيادة واعية تضبط الأمور، وتوجِّه الناس التوجيه الأمثل.

ليس ثمة إخلاص مثل إخلاص الذي يضحي بنفسه في سبيل الله، هذا الإخلاص الذي نجده لدى الأطفال والشباب والعجائز في العالم الإسلامي، وكلهم مستعدون لبذل النفس في سبيل الله. هذه الطاقات والمواد الخام العظيمة ؛ ينبغي توجيهها وترشيدها، ليستفيد المجتمع منها، وهذا الأمر يحتاج إلى علم، وقادة الفكر في العالم الإسلامي ؛ لا يوجِّهون الشباب إلى طلب العلم، وبذل الحياة في سبيل طلب العلم النافع، الذي يوصل إلى الفهم والتسخير.

لقد صنع الغمام الخميني من أمثال خباب اكثر مما كان على عهد رسول الله ، وهل يُطلب من الإنسان أكثر من بذل ماله ونفسه، ولكن ماذا عن الاستفادة الصحيحة من هذه الطاقات، هل نريد من الناس أن يذهبوا إلى حقول الألغام ليموتوا؟ أم نريدهم أن يسخِّروا حياتهم لاكتساب العلم والمعرفة؟!!

إن ما ينقص المسلمين هو الوعي، فالذين قتلوا في الحرب العراقية الإيرانية ؛ أكثر من الذين قتلوا في كل المعارك الإسلامية في عهد النبي ، والخلفاء الراشدين.

إذن، ليست البطولة في أن يموت الناس، لأن مجرد الموت قد يكون انتحاراً، والانتحار محرم وهو يؤدي إلى العذاب في الآخرة أيضاً، ولكن المهم هو العاقبة. والذي نصر المسلمين في مكة ليس الإخلاص فقط، بل هو الإخلاص مشفوعاً بالفهم والصواب.

لقد دخل الإسلام إلى قلوب الناس بعدله وإيثاره، قبل أن يدخل بجبروته وقوته، والقانون في هذه الأمور الاجتماعية ؛ كالقانون في الكهرباء، فإذا انقطعت يمكن إعادتها بالطريقة الأولى نفسها، وإذا غاب النهوض الإسلامي، فبالإمكان إعادته بالدراسة والبحث والعمل.

ترى هل ينقص العالم الإسلامي أناس مخلصون؟

في كل مكان نرى الآلاف يبذلون أنفسهم في سبيل الله، ولكن لا يوجد من يدرس الدراسات العميقة، ليفهم العالم بشرقه وغربه، فالغرب لم يصنع السيارات لتسهيل الحركة والنقل فقط ؛ بل صنع وسيلة لنقل الحكم من شخص إلى آخر، دون انقلاب، ودون سفك للدماء. هذه الوسيلة لا يمكن استيرادها بالمال، ولكنها تصنع في داخل أعماق الشعوب.

لقد صنعوا الديمقراطية، التي تأتي بالحاكم وتذهب به إلى بيته، دون أن يطارده أحد يريد قتله، وليس عندنا لاجئون سياسيون منهم، بينما بلادهم مليئة باللاجئين السياسيين القادمين من بلدان العالم الإسلامي.

وإنهم لا يتحاربون لأجل الحكم، بل يضعون في أيدي الشعب قرار اختيار الحاكم، ولئن كانت الديمقراطية وسيلة غير نزيهة تماماً ؛ إلا أنها أفضل بكثير مما نحن عليه من القتال والنزاع وسفك الدماء.

والحمد لله ربِّ العالمين