الفصل الخامس، كتاب العمل

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

العمل قدرة وإرادة


Alamalqudrawaerada.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
الفصل الأول، مصطلحات البحث
الإخلاص والصواب
مصطلحات أخرى للإخلاص
الفصل الثاني
العمل
منطلقات العمل
التسخير
انظروا كيف بدا الخلق
كيف يتولد العمل
تعريف العمل
أركان العمل
الفصل الثالث، الإرادة
مفهوم الإرادة
من أي شيء تتكون الإرادة؟
بعض خصائص الإرادة
الإرادة روح الأمة
الإرادة كقيمة وكصناعة
الفصل الرابع
عمق المشكلة
كيف يحصّل الإنسان القدرات
ملكة تحصيل القدرات
الإرادة كانت قدرة
القدرة الأخلاقية الكامنة
أسلوب آخر لتعريف الصواب
الفصل الخامس
هل عند العالم الإسلامي إرادة؟
عمى الألوان
القدرة والإرادة كشريعة وحقيقة
موقف أهل الدين والسياسة من نقص القدرة والإرادة


الفصل الخامس، تطبيقات

1 - هل عند العالم الإسلامي إرادة؟

وقد أجبت عن هذا بنعم.. إنه يملك إرادة، وعنده إيمان، وإِن إِرادته أن يتحول نظام الحياة إلى نظام الإسلام، وأن يعيش الناس وفق أوامر الله تعالى.

وكما يقولون: (حين يصبح في وسعك أن تتحدث عن مسألة ما، فتعرضها بالمقياس، وتعبر عنها بالأرقام، تكون قد أصبحت على بعض العلم بهذه المسألة). وهل أستطيع أن أتعرض لإرادة المسلمين بمقياس وأعبر عنها بالأرقام حتى نكون على بعض العلم بهذه المسألة؟ إننا لو قمنا باستفتاء واضح بين المسلمين قائلين لهم: ماذا تختارون؟ هل تختارون أن يطبق عليكم دستور القرآن أو دستور غيره؟ لو عرض هذا بصراحة دون خوف أو ضغط، فأرى الأغلبية ستختار أحكام القرآن لا أحكام غيره من الدساتير، ويمكن أن نتأكد من هذا بأنفسنا بالقيام بهذه العملية الإحصائية في المدارس والجامعات والقرى والمعامل والمعسكرات وفي كل مكان.وقد تختلف النسب من مكان إلى آخر، ولك الأغلبية مع أحكام القرآن.. ومع ذلك ليس هذا الوضع ثابتاً ساكناً، بل قد يتغير لعوامل يمنك ملاحظتها. وربما قمنا بهذه العملية الإحصائية قبل خمسين سنة، تكون النتائج غير ما هي عليه الآن، وكذلك تتغير بعد خمسين سنة أخرى زيادة أو نقصاً. ولكن الواقع دليل على وجود الإرادة عند أكثرية الأمة. إِذاً نستطيع القول: إِنه يوجد من ناحية الإرادة رأسمال كاف للانطلاق به.

لسنا الآن بحاجة إِلى أن نبحث من أين جاءته هذه الإرادة، والعوامل التي تتدخل في وجودها مع أهميتها أيضاً؟ لأنه ينبغي أن لا تتوقف الإرادة أيضاً على المصادفات وأمور خارجة عن سلطاننا، بل ينبغي أن نفهم كيف نوجدها، وهذا ما أشرت إِليه من ناحية التبليغ، وبأن يصل المثل الأعلى لكل واحد، وكذلك تعرضنا لهذا في بحث الإرادة كقيمة وكصناعة.

ثم إِننا نجد المسلمين عندهم استعداد أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله والإسلام، حتى عند العوام والنساء والأطفال والعجائز. وكل من دقق في الأمور، يجد أن الأمة فيها خير، ويظهر منها ما لم يكن يتوقع من التضحية والبذل في المال والنفس. ومع ذلك فإن هذه النقطة قابلة لأن ينازعني فيها من يريد المنازعة، حيث ينظر إِلى الجانب الآخر وهو قلة هؤلاء الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله من مجموع الأمة، وأنا أوافقه على قلة هؤلاء أيضاً على عمومه وأنه لو طلبنا من أكثرية الأمة أن يقدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله سوف لا تكون النتيجة مثل نتيجة الاستفتاء السابق في التصويت على أحكام القرآن. قد نجد أكثرية توافق على اختيار الإسلام، ولكن لا نجد أكثرية تبذل الدم والنفس والمال في سبيل الله. فهل هذا راجع إِلى القدرة أم إِلى الإرادة؟ هل الذي يجب أن نعطيهم إِياه القدرات؟ أم الإرادات؟

أنا أقول: إِذا كان الذين يوافقون على اختيار الإسلام مثلاً 70 %، والذين يوافقون على بذل المال والنفس في سبيل الله أقل من 1 % من هؤلاء، فإن 69 % أي الباقون لو رجعنا إلى فرزهم مرة أخرى سائلين: لماذا تخلفوا عن بذل المال والنفس في سبيل الله؟ فإننا سنجد أن 60 % من هؤلاء قد تخلفوا عن البذل لأنهم لم يستطيعوا أن يروا بذل المال والنفس في سبيل الله يعطي النتيجة التي يريدونها؛ ولم يكن السبب عدم إِرادتهم الإسلام.. وبعبارة أخرى: هم لا يعرفون الطريقة التي لو بذلوا أنفسهم وأموالهم بها أعطاهم الله النتيجة التي يريدونها …

وبحسب فهمي وإدراكي لمشكلات المسلمين أرى أن عدم بذلهم ليس راجعاً لعدم الإرادة للبذل والعطاء، ولكنهم لا يعرفون الطريقة التي لو بذلوا عليها نفعت وأنتجت..

هذه نقاط دقيقة ينبغي أن لا نتساهل فيها، وينبغي أن نعرف السبب الذي من أجله يتخلف البذل؟ هل من عدم الإرادة؟ أم من عدم الفهم لكيفية تحصيل المراد؟ فلو تأكد المسلم من تحصيل المراد لبذل نفسه وماله.

نريد معرفة ما يرجع إلى القدرة الفهمية، وهو ما يتجاهله من لا يقبلون تفسيري. وأريد أن أضعه تحت المجهر لأسباب كثيرة، لأن تجاهلنا له يؤدي إِلى نتائج أخرى كبيرة في مجالات كثيرة، نرجو أن نوفق إلى بيان بعضها على الأقل إن لم يكن كلها …

ثم هل من سنة الله أن يطلب من أنفسنا وأموالنا في سبيله ثم لا يعطينا النصر؟ أم أن العاقبة للمتقين؟ ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾ (سورة الروم: الآية 47). أم إن إحدى الحُسنين تقتصر على الشهادة دون النصر؟

ليس من طبائع الأشياء، ولا من طبيعة الإنسان أن ينصر مبدأ لا يمكن أن ينتصر. وإذا جهل المسلم كيف يمكن أن ينتصر، فإن إرادته لا تكفي لحصول النصر، وإلا فما أسهل أن يريد إنسان النصر!! ولكن للنصر سنناً من خالفها لا ينتصر.. فقد حرم الله المسلمين يوم أحد النصر لمخالفتهم هذه السنة:

﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله﴾ (سورة آل عمران: الآية 166).

وإِذا فهمنا هذا ينبغي أن نعلم أن النجاح ليس من الإرادة فقط، بل من القدرة أيضاً على صنع النجاح. وإذا اشتبه عليك ما يرجع إلى القدرات، فهو الذي أريد أن أكشفه من نفس المسلم، كما أحب أن أذكر أن لدى المسلم الآن ميلاً عجيباً لينسب الأمر إلى الإرادات (الإيمان)، بدل أن ينسبه إلى القدرات مع وضوح الفرق لديه بين (البكّائين) و (المتخلّفين) في غزوة تبوك. ومع وضوح أن العمل لا يمكن إتمامه بدون القدرة والإرادة معاً وأنهما زوجان لا بد منهما، يحلو لنا أن نغمض أعيننا عن أحدهما ونستغني عنه بسهولة لنقول: إن الذي ينقصنا هو إيمان، وهو إرادة فقط!! وليس القدرة.. والذين كتبوا عن حزيران 1967 مثلاً، نظروا إلى جانب الإرادات وأهملوا جانب القدرات. ورأوا أن فقدان الإيمان كان سبب الهزيمة، لأن الإيمان وحده في رأيهم هو الذي نصر الصحابة الذين لم يكونا يميزون بين الملح والكافور.. ومثل هذا التحليل السطحي يترك في نفوس الجيل أثراً سلبياً حين يوهمهم أن النصر لا يحتاج لغير الإيمان الصادق، ولا يحتاج لفهم دقيق يفوق فهم الخصم. وعندما نرفع عن كاهل الجيل عبء الدرس والفكر نجعله يوقن أن ما يحتاجه المسلم ليس النظر الدقيق في فهم المشكلات البشرية والأحداث التي تجري، وإنما الامتلاء من الإيمان. والشاب المسلم يشعر أن ممتلئ إيماناً وحماساً، وان تحصيل الإيمان المتحمس لا يحتاج للسير في الأرض ولا للنظر إلى الذين خلوا من قبل، ولا لفهم عملية تغيير ما بالنفس، وأن أي محاولة للتأمل في فهم مشكلات البشر على مرِّ التاريخ، إِنما هي انصراف عن الواجب الأول وتضييع للوقت فيما لا طائل تحته.

إِن ما يستوحيه القارئ من تلك التعليلات ذو أثر شديد على النفس فهو يؤدي إلى تنشيط الهمم، والقعود عن طلب المعرفة واكتساب القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي ليخرج من محنته.

وإن ما يحتاجه الشباب الإسلامي المعاصر هو أن يوضح لهم أن القعود عن تحصيل العلم والمعرفة من أكبر المعاصي الاجتماعية التي عليهم أن يجتنبوها، كما يجب إخراجهم من حالة الركود النفسي التي لا يشعرون معها بخطيئتهم الكبرى، وهم يتخلون عن تحصيل قواعد العلم التي توصلهم إلى سنن تسخير المجتمع.

وهناك مشكلة أخرى هي أن هؤلاء الشباب لا يعرفون ماذا يراد بالعلم الذي ينبغي أن يحصلوه ليغيروا واقع المسلمين، ولذلك يجب أن يوضح لهم أن تغيير واقع المسلمين يحتاج قبل كل شيء إلى تغيير ما بأنفسهم … وهذه مسلَّمةٌ لا يمكنك أن نخطو بدونها خطوة واحدة. فالعلم الذي نقصده هو العلم الذي يُمكِّن من تغيير ما بأنفس المسلمين، ليغير ما بهم وحولهم، ولك أن تسمي هذا العلم بعد ذلك بما شئت، فليس المهم هو الاسم، وإِنما المهم ما يوصل إلى التمكن من هذه الوظيفة.. وهي تحتاج إلى معرفة أمرين:

1 - ماذا نُغيِّر.

2 - كيف نغير؟

فالأول: يشمل اختيار المثل الأعلى أو تصحيحه. وإِلى هذا انصرف جهد العالم الإسلامي منذ قرن أو أكثر في صورة دفاع عن الإسلام أو حذف ما ليس منه.

وأما الثاني: فلم يبذل فيه جهد يذكر، فما زالت دراسات المسلمين قاصرة عن بحث موضوع تغيير ما بالنفس.

إِذن: لِمَ لَمْ تصنع إرادات المسلمين قدراتهم؟ هذا الكتاب مبني على أن الذي يعيق سير المسلمين في هذا الوقت هو نقص القدرات وليس الإرادات، وهذا ما سبق تقريره بالقدر الذي تيسر.

وكذلك من جملة ما تقرر: أن الإرادات تبعث على تحصيل القدرات، وقد استشهدنا بقوله تعالى:

﴿ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة﴾ (سورة التوبة: الآية 46).

على أن الإنسان إذا أراد شيئاً سعى لإعداد وسائله، وأن من لا يُعدُّ الأسباب لما يريد، يتَّهم في صدق إرادته، وهذا صحيح بصورة عامة.

وهنا يتكرر السؤال السابق: لِمَ لَمْ تصنع إرادات المسلمين قدراتهم؟ وأنت تزعم أن المسلمين عندهم إرادات، وأن الإرادات تبعث على تحصيل القدرات. فكيف إذن تفسر الموضوع؟ إن هذا الفهم يبيّن أن الذي ينقصنا الإيمان (الإرادة) لا القدرة!!

أقول: نعم. هذا يحتاج إلى التفسير والتوضيح والتفصيل، وعدم توضيحه وتفصيله هو لذي يعقد المسألة، وإن تفسيره يحتاج إلى توضيح أمور.

أولها: أن للإرادة شروطاً لا بد من توفرها حتى توجد القدرة، ونوضح ذلك بمثل المرأة التي تريد الخير لابنها، وهذا الخير نفسره بالصحة الجسدية، فليس من طبيعة الأمهات عدم إرادة الخير لأولادهن، ومع ذلك فلعدم معرفتهن يخسرن صحة أولادهن. وعدم معرفتهن قد يكون موغلاً في الجهالة بحيث لا يخطر على بال الأم أن هناك وسائل معينة عليها أن تقوم بها للمحافظة على صحة الطفل؛ غير الأمور التي هي في حدود معرفتها السطحية، وما خرج عن ذلك فلا يخطر في بالها بصورة يبعثها على الطلب الجدي للمعرفة.

وهكذا شأن العالم الإسلامي في مشكلة صحته الاجتماعية، فهو مكتف ٍ بما عنده من الأمور التقليدية لحفظ سلامة المجتمع دون أن يخطر في باله أن هناك أموراً علمية فنية دقيقة جديدة في الحياة في حاجة إلى أن يحصلها حتى يقي نفسه المشي مكبّاً على وجهه.

ونقدم صورة أخرى تزيد الأمر وضوحاً: عندما نرى - مثلاً - في بعض أحياء العاصمة طفلاً يمشي على يديه لإصابته بشلل الأطفال، بينما الشخص المختص لإعطاء اللقاح المضاد لهذا المرض في وسط المدينة قاعد ينتظر ليقوم بالتلقيح مجاناً، ومع ذلك فأبوَا الطفل لا تحملها إرادة الصحة لأبنهما على أن يقوما بتلقيح طفلهما!!

إلى أي شيء يرجع هذا الحدث؟ هل نرجعه إلى عدم إرادة السلامة للطفل؟ وهل نتهم الأم بأنها فاقدة لعاطفة الأمومة وأنها خائنة؟ أم ترجع إلى عدم الفهم للموضوع مع وجود الإرادة، ومع وجود الحب الكامل للسلامة؟ إن عدم العلم والمعرفة بما ينبغي أن يقوما به لتحصيل السلامة، هو الذي منعهما من ذلك. فإذا أردت أن تفسر هذه الحادثة أيضاً بأن سبب عدم تلقيحهما لطفلهما هو عدم إيمانهما بجدوى التلقيح، حتى في هذه الحالة لا يكون السبب هو عدم إرادة السلامة للطفل، بل عدم العلم بما ينفع الطفل، أو غموض هذا الموضوع، أو إيمانهما بالتوكل على الله في نجاة ابنهما. إن تحليل هذه الحالة مفيد جداً لبيان مكان العلة في المشكلة، لأن العوامل التي تحول دون تلقيح الطفل: إما الجهل المطبق الذي يحيط بالموضوع مما يجعله ملتبساً ولا يرفع الهمة لتحقيقه، وإِما التوكل على الله في أن تحصيل النجاة برحمة الله تعالى.

فالعاملان الأول والثاني نريد أن نزيلهما من نفس المسلم فنغير ما بنفسه من الجهل والغموض. وأما العامل الثالث: فنريد أن نصححه بإِضافة (إِعقل) إِلى (توكل).

هذا المثل الذي سقناه يلقي ضوءاً جديداً جلياً إلى حدٍّ ما، ويظهر الموضوع ليس بالشكل البسيط الذي نتصوره بحيث يكفي مجرد الإرادة لتتحقق القدرة. فتحقق القدرة بحاجة إلى توفر شروط وزوال موانع لتُنجب الإرادة قدرة. وهذا هو الذي أريد أن يتحقق في العالم الإسلامي لتقوم فيه الإرادة بوظيفتها، فبدل أن نقول: إنه لا إرادة عنده، أو لا إيمان عنده؛ نقول: إن إرادته قد عُطِّلت بما أصابها من فقدان للشروط. ونذكر هنا أيضاً أ فقدان المقياس الذي نميز به النافع من الضار يؤدي إلى الاسترابة والخوف والانكماش من كل جديد، وإن كان هذا الجديد يحمل النفع، ولعلنا نذكر ما كان يجري في بعض قرانا من استرابة الناس من عملية التلقيح خشية أن يكون وراءها ضرر مقصود، فالناس الذين عاشوا في ظروف اجتماعية سيئة استغلالية يتوجسون خيفة من كل شيء ويفسرون كل حدث بإرادة السوء دون الرجوع إلى مقياس إلا مقياس سوء الظن الموروث.

وبمقدار ما يدرك الإنسان سنن الله ويعمل بحسبها، فإنه يتخلص من نفسية التشاؤم والانكماش، وينطلق في طريق حياته متفائلاً على بصيرة.

ويمكن أن نتصور هذه الحالة في العالم الإسلامي، حيث أصبح المسلمون يستريبون من كل علم أو دعوة ويرون في ذلك خطة للهلاك أو الإيقاع بهم. نلاحظ ذلك كثيراً في الدراسات والتعليقات التي تمثل الموقف السلبي تجاه كثير من الأفكار والأبحاث والأحداث، لأن أصحاب تلك الدراسات فقدوا المقياس الموضوعي، واكتفوا ردود فغل نابعة من المقياس الذاتي الذي كوًَّنه الخوف أوقات الجهالة.

ونتيجة لهذا الموقف فإن العالم ينظر إلى المسلم نظرة إشفاقٍ وأسى، أو شماتة وإدانة، ولا بد للمسلم ليتخلص من هذا أن يوسع أفقه ليصحح موقفه من مشكلات الحياة فيكون على بصيرة وبيّنة.

ثانياً: ومما يعطّل إرادة المسلم ويمنعها من أن تعطي ثمارها، فهمُ المسلم الخاطئ لقدر الله، وهذا الموضوع من الخفاء والتعقيد ما يحتاج إلى دراسة تحليلية دقيقة لكشف مدى العطالة التي تنتج عن هذه النظرة. إن السلم يرى أن إرادته ليست مما يتحقق بجهده، وإنما يحققها الله تعالى. ولمّا علّق المسلم تحقيق إرادته على شيء آخر غير جهده، أصبح لا قيمة لهذا الجهد، فزهد في بذله. والموضوع - إلى هذا الحد - بسيط سهل تناوله، ولكن الصعوبة تبرز حين نبدأ في تعميم هذه القاعدة أو البحث عن الذين يعطِّل فهمهُم هذا الموضوع بهذا المستوى قيمة جهودهم. إِن المشكلة ليست فقط في مستوى عوام المسلمين، بل في مستوى قيادته … ومعاناة هذا الموضوع جعلت سيد قطب رحمه الله يكتب في كتابه (هذا الدين): (هناك حقيقة أولّية عن طبيعة هذا الدين.. حقيقة أولية بسيطة، ولكنها مع بساطتها كثيراً ما تُنسى ولا تدرك ابتداء فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين … إن البعض ينتظر من هذا الدين - ما دام منزَّلاً من عند الله - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب، ودون أي اعتبار لطبيعة البشر …).

وأقول هنا: إن المسلم يردي ويتمنى بكل صدق وإخلاص أن يتحقق في واقع الحياة المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية، ولكن هذه الإرادة وهذه الأمنية الصادقة، تظل أمنية في قلب المسلم لا تبعثه على فكر ولا على عمل، لأنه ينتظر أن يتحقق هذا الدين - ما دام منزلاً من عند الله - بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ودون أي اعتبار لجهد البشر.

هذا الموضوع جدير بالبحث والتوضيح لأن غموضه (أي غموض كيفية تحقيق إرادة المسلم)، يعطِّل قيمة الإرادة والنية الصالحة، فتبقى الإرادة لا تحمل على السعي لإيجاد القدرات.

ومسلم اليوم لا يشعر أنه يحتاج إلى شيء يقوم به في سبيل دينه غير أن يقدم نفسه وماله. وحين يفعل هذا يصاب بزهوّ يسدّ أمامه منافذ الفهم، فلا يشعر أن هناك جهداً آخر أفضل مما وصل إليه، وهذه الحالة النفسية تعطل السعي إلى التكامل وطلب المزيد من الصواب، كما تعطل عملية النقد والتصحيح، إذ أن بذل المسلم لنفسه وماله بهذا الشكل لا تمكنّه من كشف جوانب النقص في أفكاره وفهمه للأمور. ولا يخطر في البال أنه يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة الممتازة من التضحية العوام والعجائز وحتى الأطفال دون أن يؤثر ذلك في ضحالة أفكارهم لحل المشكلات.

ثالثاً: من أسباب ما يعطِّل إرادة المسلم، فهمه الخاطئ لـ: (كيف بدأ الخلق)؟ (سورة العنكبوت: الآية 20) وهذا السبب متصل بالسبب السابق، وإن كان له وجه آخر، وهو أن المسلم بحسب مواريثه الثقافية خلال القرون صار ينظر إلى أحداث هذا الكون نظراً يخلو من رؤية الأسباب التي تساعد على وجود الأحداث ونموها، فلا يرى القوانين والسنن التي تعمل في أحداث الكون، ولا يرى المؤثرات البعيدة والقريبة التي ساهمت في حدوث الأوضاع التي يعيشها … وحتى فكرة صلة الحاضر بالماضي والمستقبل، ليست واضحة لديه، ولذلك يُحوِّل الأحداث بكل هدوء ورضا إلى إرادة العلي القدير، ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته. واستخدم هذه الحوقلة في غير مكانها يبعدها عن أن تكون كنزاً من كنوز الجنة كما ورد في الحديث الشريف، ويجعلها كلمة استرجاع (إنا لله وإنا إليه راجعون) تقال في موطن الضعف والاستسلام، لا كلمة استعانة؛ وهذا ما جعل أحد الصالحين ينذر قائلها الذي استخدمها في معنى الاسترجاع.

حاولنا أن نثبت فيما سبق وجود الإرادة عند المسلم، ولكن علينا أن نوجه هذه الإرادة لوجهة الصحيحة لتعطي نتائجها من السعي والحركة لإيجاد القدرات.. وهذا التفسير للمشكلة يضع المسلم في طريق الحل بدل أن نحاول نفي الإرادة عنه، وهو يشعر أنه يملكها.. وماذا نرفع إن لم نعرف كيف نرفع؟ وكيف نصنع؟ هذا هو العلم الذي أريده منكم ولكم أيها الشباب المؤمن.

2 - عمى الألوان: