العقل والسنن في القرآن

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

حتى يغيروا ما بأنفسهم


Change.gif
تحميل الكتاب
مقدمة مالك بن نبي
مدخل كتاب حتى يغيروا
سنة عامة للبشر
سنة مجتمع لا سنة فرد
سنة دنيوية لا أخروية
في الآية تغييران
مجال كل من التغييرين
الجانب المهم هو التغيير الذي يقوم به القوم
ما بالقوم نتيجة لما بالنفس
لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين
مفهوم التغيير عند الآخرين
علم النفس الفردي والاجتماعي
العلاقة بين سلوك الإنسان وما بنفسه
ما بالنفس يتفاوت في الرسوخ
كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين
العقل والسنن في القرآن
يظهر أثر ما بالنفس ولو كان ما بالنفس وهماً
الفعل والانفعال
المنهج والتطبيق


العقيدة العبثية و معناها

يشغلُ العقلُ والسنَّةُ ، مكاناً بارزاً في القرآن ، قصوداً لا عرضاً . حيث تجد الحديث عنهما مبثوثاً في الكتاب الكريم . سواء في النظر إلى مظاهر الطبيعة ، أو في الاعتبار من الأمم الخالية ، وذلك حين يعالج القرآن مشكلة الإنسان من الأمم الخالية ، وذلك حين يعالج القرآن مشكلة الإنسان - أو بالتعبير القرآني - موضوع الهداية والضلال ، المتعلق بحياة الإنسان .

أما الحديث عن السنَّة ، فقد سبق أن ذكرنا طرفاً صالحاً منها ، ولاسيما سنن المجتمعات ، وهي آيات الأنفس التي ستظهر في المستقبل : « سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق » فصلت - 53 - .

وأن ظهور هذه الآيات ، والآفاقية والأنفسية ، سيكون سبباً لبيان أنَّ ما نَزَلَ من عِند الله هو الحق : « ويرى الذين أُوتُوا العلم ، الذي أُنزل إليك من ربك هو الحقًّ ، ويهدي إلى صرِاطِ العَزيز الحَميدِ » سبأ - 6 - . وهذا الموضوع ، موضوع السنَّة ، ربما يمكن تَقبلهُ بدون صعوبةٍ كبيرة ، إلا أن المشكلة ، مشكلة العقل ، وما يعترض له من الركود والعطالة ، من أداء وظيفته ، أو ارتباطه الوظيفي بسنن الكون ، هذه الوظيفة ، وظيفة التسخير .

ولقد اعتنى القرآن الكريم ، عناية بالغة ، واستنهض الهمم ، حتى لا يفقد العقلُ مَضَاءهُ وقُوته ، في إدراكه لسنن الحوادث والاعتبار بها . واعتبر الذين عطَّلوا قلوبهم كالأنعام بل هم أضل .

والعطالة ، التي تصيب العقل عند الإنسان ، لها مصدرٌ أساسي وهذا المصدر له بعد ذلك أعراض أخرى تدل عليه . والمصدر الأساسي للعطالة : العقيدةُ العبثيةُ في الوجود والكون ؛ اعتقاد العبث واللعب في الوجود . يقول تعالى في هذا : « وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين » الدخان - 38 - . وقوله تعالى : « أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً » المؤمنون - 115 - .

إن العقيدة العبثية في الكون هي ، عدم رؤية النظام ، وعدم رؤية السنن ، وعلاقة الطاقة المفكرة الإنسانية بسنن الكون . وهذا هو ظن العبثية في الوجود . عن الذي لا يرى هذه العلاقة ، وهذا الارتباط ، لا يمكن أن يقدر المسؤولية الدنيوية ، ولا المسؤولية الأخروية ، أي لا يقدر المسؤولية الاجتماعية ، ولا المسؤولية الفردية - كما سبق - أن شَرحنا ذلك .

إن هذه العقيدة العبثية ، توارثناها على مر القرون ، إن لم تكن باسمها فبمحتواها ، وتغلغلت هذه العقيدة في النفوس ، وشملت القمة والقدمين . ومهما تفاوتت هذه العقيدة في الرسوخ ، إلا أنها استقرت بشكل فعال ، وساهمت في شلل الفكر والعمل ، في العالم الإسلامي .

وهذا الشلل في الفكر ، الذي أشرنا إليه في إغلاق باب الاجتهاد ، إنما هو جنين ، ووليد لهذه الآفة ، التي نتحدث عنها الآن ، وهي : عدم رؤية علاقة الطاقة الفكرية في الإنسان ، بسنن الكون . وظن الفوضى ، وعدم الخضوع للسنن ، في أحداث الكون .

ومادامت هذه العلاقة غير ثابتة ، وغير موجودة ، وغير معترف بها ، فلا جدوى من إعمال العقل والفكر . فهذه الآفة التي تسللت إلى الفكر الإسلامي ، دون اسم معين ، أو باسم تعظيم السلف ، وتعظيم السلف ، وتعظيم القدرة الإلهية ، التي لا تدع للبشر مجالاً للعمل . هذه الآفة ، ولدت بعد ذلك أجنتها ، التي نمت وترعرعت ، وصار لها أحفاد وذرية . إذ ما دام الأمر يسير على غير سُننٍ يُمكنُ أن نتبعها ، فلا جدوى من إعمال الفكر لكشف حل ، وتغيير واقع .

والقرآن الكريم ، يعدد الآفات التي تتولد عن العقيدة العبثية في الوجود . ونذكر منها خمسة : 1- الغفلة . 2- الإعراض . 3- التكذيب . 4- الهوى . 5- تقليد الآباء .

آفة الغفلة

قال الله تعالى « إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون » يونس - 7 - .

وقال تعالى : « سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ، حبطت أعمالهم هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون » الأعراف - 147 - .

وقال تعالى : « لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون » الأعراف - 179 - .

آفة الإعراض عن آيات الله وسننه

يقول الله تعالى في ذلك : « وكأين من آية في السماوات والأرض ، يمرون عليها وهم عنها مُعرضُونَ » يوسف - 105 - .

« وجعلنا السماء سقفا محفوظاً وهم عن آياتها معرضون » الأنبياء - 32 - .

« بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم مُعرضُونَ » المؤمنون - 71 - .

وسبب هذا الإعراض ، عدم رؤية العلاقة بين طاقة الفكر وسنن الكون ، هذه العلاقة التي يسميها الله التسخير .

آفة التكذيب وافتراء الكذب

قال الله تعالى : « ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كَذَّبَ بآياته » الأنعام - 21 - .

« وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » فاطر - 25 - .

« ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير » الملك - 18 - .

« بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بها واستكبرت » الزمر - 59 - .

« بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين » يونس - 39 - .

« ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » آل عمران - 75 - .

« انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبيناً » النساء - 50 - .

« فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم » الأنعام - 144 - .

« إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار » الزمر - 3 - .

في هذه الآيات يبين الله :

  1. إن التكذيب ظلم …
  2. وهو شيمة الأقوام السابقين أيضاً .
  3. وأن للتكذيب عاقبة …
  4. وله ارتباط بالاستكبار .
  5. ويكون بما لم يحط به الإنسان علماً …
  6. ويكون أحياناً عن علم وتعمد .
  7. التكذيب قد يكون للإضلال بغير علم ..
  8. والكاذب لا يهتدي إلى الحق .


التكذيب يتولد من مفاهيم خاطئة

مثل الاستكبار والإعراض والغفلة ، ينشأ عن مفهوم بالنفس ، لأن التكذيب مما بالقوم ، وليس مما بالأنفس ، وإنما ينتج مما بالأنفس ، فوراء الكذب ، أمر متعلق بالنفس من المفاهيم والأفكار والمعتقدات ، ينتج عنه الكذب والتكذيب . ولا يتغير تكذيب القوم ، أو كذبهم ، حتى يغير القوم ما بأنفسهم من دوافع التكذيب المستقرة في نفوسهم .

ونحن إذا نظرنا إلى التكذيب ، ينبغي أن ننظر إليه على أساس أن له سنناً متعلقة بالنفس ، يمكن أن يحدث لكل من تكونت لديه تلك النظرات . فالمشكلة هنا دقيقة ، وذلك أن هذه السنة سنَّة بشرية غير خاصة بقوم معينين ، وإنما هي عامة لكل الناس الذين يحملون أفكاراً معينة . ويكون التكذيب مطابقاً لما في النفس من الأفكار ، قلَّةً وكثرة ، قوةً وضعفاً .

وعلينا أن ننظر بشيء من برود الأعصاب ، دون أن يصيبنا الدوار من أن هذه الصفات ، صفات الكافرين ، فكيف تنطبق على المسلمين ؟!

وعلينا أن نخاف من المفاهيم التي يولد منها الكذب والتكذيب ، أكثر من خوفنا من الكذب والتكذيب . لأن خوفنا من الكذب والتكذيب ، لا يردُّنا عن الوقوع فيهما ، رغماً عنا ، إذا كان ما بأنفسنا ما يتولد عنه الكذب والتكذيب .

وما المصائب التي تنزل بالمسلمين إلا أنهم يكذبون بكثير من آيات الله ، ويعرضون عنها ، ولا يعرفون ارتباط هذه المصائب - التي تنزل على الأقوام المسلمين - مما بأنفسهم من الأفكار الخاطئة ، التي تحدث هذه العلل . وآيات الله تعالى ، تكون في الكتاب ، وفي الآفاق وفي الأنفس . وكل الذين لا يفهمون آيات الله ، وإن كانت في حد ذاتها واضحة ، معرضون للتكذيب بها « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » .

وضربنا لذلك مثلاً حين شرحنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهاب العلم ، برغم وجود الكتاب بين الناس دون أن يغني عنهم شيئاً ، كما تفقد آيات الكتاب مفعولها عند الذين فقدوا العلم بها ، كذلك فإن آيات الآفاق وآيات الأنفس تفقد مفعولها أيضاً ، عند الذين فقدوا العلم بها . بل إن آيات الآفاق والأنفس ، لم نتعلم بعد قراءتها ولا طريقة فهمها ، فلذا يسهل علينا جداً التكذيب بها ، بل نظن أن هذا التكذيب الذي نكذب به ، يرضى عنه الله سبحانه وتعالى ونخدم به دينه ، ونحصنه من الضياع .

وفي الواقع ، أن من عرف قراءة آيات الآفاق والأنفس ، وعرف كيف يتعامل معها ، يدرك أن لهذه الآيات الآفاقية والأنفسية قوة آيات الكتاب في الدلالة على الحق ، كما يقول محمد إقبال: بل إن هذه الآيات الآفاقية والأنفسية هي التي تشهد بصدق آيات الكتاب . والقرآن الكريم يطلب منا أن نطلب علماً خارج القرآن ، وذلك بالسير والنظر في الأرض ، إلى آيات الله المودعة في الآفاق والنفس .

فآيات الآفاق والأنفس من القرآن ، من حيث أن القرآن يأمر بالنظر إليها ، ولكن مكان طلبها ليس في القرآن ، وإنما في الكون . ومن فقد ملكة العلم ، لا يعود يستفيد من آيات الكتاب وإن كانت واضحة بينة .

فالقرآن يأمر بإعمال العقل ، والاجتهاد في الفهم والنظر ، مع ذلك أغلق المسلمون باب الاجتهاد على أنفسهم . ولا أهتم كثيراً بوجود رجالٍ هُم أهلٌ للاجتهاد أم لا ، وإنما أهتم بما آلت إليه هذه الأمة ، حتى لم يعد لديها قدرة على الفهم ، ففقدت النمو وتوقفت عن الحركة ، وأخذت في التقهقر ، حين أحلت التقليد محل الاجتهاد .

والغرض من هذا ، أن نستفيد من الماضي ، لننزع عنه هالة القدسية العمياء ، التي تخفي نقائصه . ومثل هذا النظر جعل محمد إقبال يحجب الثقة، عن إنتاج المسلمين في وقت ضعفهم ، كذلك سنذكر نظراً جيداً للأستاذ سيد قطب أيضاً فيما بعد في هذا الموضوع .

خوف المسلمين من أعمال العقل وإغلاق باب الاجتهاد

إننا هنا نقف على عتبة التيه ، الذي يعيش فيه المسلمون في كل مكان . إن المرض عام شامل مطبق ، كما تعم الرطوبة في الشتاء كل مكان . كذلك العالم الإسلامي ، أنَّى ذهبت تجد هناك الرعب من إعمال الفكر والعقل ، كأي مصيبة المصائب ، في أن يبدأ الإنسان في التفكر والفهم باستقلال - مع أن فلاحهم بإعادة وظيفة العقل - ولو خالف من خالف ، من القرون الماضية ، مادامت آيات الله في الكتاب والآفاق والأنفس معه . ولكن نحن لم نعد نتعامل مع آيات الكتاب المسطور (القرآن) ، ولا مع آيات الآفاق التي هي (كتاب الله المنشور) ، إنما نتعامل مع إنتاج المرعوبين ، الذين تدور أعينهم خوفاً من التبصر .

وبدون التبصر تفقد الحياة التي أرادها الإسلام للبشر قيمتها : « قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة . أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين » يوسف - 108 - .

في التنظيم والتخطيط

إن مرض المسلمين ، ليس في عدم وجود المُنَظَّماتِ والمخططات ، بل في جمود العقل والفكر ، فإن كان لا بُدَّ من منظمات ومخططات ، فليكن التنظيم والتخطيط ، في سبيل رفع الآصار والأغلال عن القلوب المُقفلة . إن التنظيم والتخطيط ليسا في حد ذاتهما هدفاً ، بل هما أداة ووسيلة ، قد تُساعدُ على التخلص من الآصار والأغلال ، وقد تُثبتها ، أو تزيدُها ، أو تستبدلها بأثقل منها . وما لم ندرك هذا بوضوح فسنظلُّ ندور في التيه . وسنظلُّ نحاول أن نعالج بعض الأعراض والذراري للمشكلة الأساسية : وهي انفكاك جوهر الإنسان عن وظيفته التي خلقه الله من أجلها . سنظل نعالج الإعراض ، بينما تظل أُمُّ الأمراض . وأبوها يعشش ويفرخ ، دون أن يمسه أحد بشيء من النكش أو الهز . ومن يحاول أن يقول : إن المرض هناك فسينظر إليه بريبة ، إن لم يُعلن عليه الحرب ، وأنه اتبع غير سبيل المؤمنين .

إن هذا الجمود ، نَوعٌ فظيعٌ من الجُحُود بآيات الله ، مستتر في الأعماق . إن المشكلة من عند النفس « وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » النحل - 33 - إن هذا التخوف من الفكر وإعمال الفكر ، والهجمات التي تشن على من يريد أن يتبصر ، سلاح له فعالية في مجتمع كسيح الفكر . فلهذا لا نزالُ نرى الأقلام في رُعبٍ ، حين الكتابة في هذا الموضوع ، خوفاً من الهجمات التي يشنها الآبائيون .

إن الذين طال عيشهم في الظلام ، يؤذيهم النور ويجرح أبصارهم ، ولكن من تمسك بنور الله وسننه ، وكان حاذقاً ، في ربط الحقائق بعضها ببعض ، وبيان حقائق الكتاب المضيعة المهملة ، سيكون له شرف أذانِ الفَجرِ ، في ليلِ الشتاء الطويل الذي عشنا فيه . وسيجيء هناك الحق ويزهق الباطل . وأعيد وأكرر ، إن العالم الإسلامي لم يخلُ من هادٍ وداعٍ ، ولم ينقطع فيه الفكر على الإطلاق ، ولكن ظل هؤلاء أفراداً قلائل ، تنبذهم الأمواج المتلاطمة ، من الجمود الذي جحد الحركة الفكرية التي أطلقها القرآن ، وأطلع بها على العالم عصراً جديداً .

وقد سبق أن أشرنا ، إلى شيء من ذلك الذي كان يعامل به أصحاب الفكر ، ولا يزال يعامل به إلى الآن ، من الغَمزِ واللمْزِ ، والتشكيك والاتهام ، ما بين صريح ومُستترٍ ، ومتردد ومقدام . ومن تذوق شيئاً من تراثهم لا يكون أخذ ملكة العلم ، ولبَّ الفهم ، وإنما يكون حَوَّلَ تقليده ، من تقليد متخلف ، إلى تقليد أرفع قليلاً في غالب الأحيان ، دون أن يمسك بناصية العلم .

إن التخوف من الفكر ، قد يحمي المتحصن به يوماً ما ، ولكن لن يحفظه إلى الأبد ، بل سيأتي اليوم الذي يحدث فيه الطوفان الذي يجرف الأخضر واليابس .

آفة اتباع الهوى

هذه الآفة من ذرية الآفة الكبرى ، إذ حين يذهب العلم يبرزُ الهوى ليقود . ويُلمحُ ذلك من الآيات التي تذكر الذين يتبعون أهواءهم ، قال تعالى : « ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله » القصص - 50 - . وقال تعالى : « بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم » الروم - 29 - ، وقال تعالى : « أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم » محمد - 16 . وقال تعالى : « وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم » الأنعام - 119 . وقال تعالى : « أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم » محمد - 14 .

والإنسان حين لا يهتدي بسنن الله ، ولا يهتدي بالعلم والهدى الذي جاء من عند الله ، يميل به هواه ، لأنه فقد الميزان ، فصار سهلاً عليه أن يميل مع هواه حيث لا يخشى سنَّةً ولا علماً . فكيف يخشاهما ! … وهو لم يشعر بقوانينها في الحياة ، وأسلوب كشفهما للباطل ! … فلذا نجد أنَّ ضيق نظره . والمحدودية في إدراكه ، يسهلان عليه اتباع الظنون وما تهواه نفسه ، دون أن يخشى نكيراً .

آفة اتباع الآباء

إن الذين يفقدون السنن والقوانين ، في أحداث الكون وحوادث البشر ، يستبدلون تقاليد الآباء بالسنن ! … ولتقاليد الآباء ، سلطان قوي يأخذ بمخانق البشر . وسلطان الآباء ، يجب أن يقف عند حدٍّ معين لا يتجاوزه ، وإلا كان وبالاً ومصيبة .

إن تُراث الآباء له أهميةٌ بالغة إذا استفيد منه ، إذ أنه يكون سبباً في تفادي إعادة الأخطاء ، والاستفادة مما كسبوه من تجارب وخبرات خلال القرون . علينا أن لا نعرض عنها ، وإلا دفعنا ثمن ما تعبوا فيه مرة أخرى ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين .

ولكن إن تجاوز الأمر الاستفادة من العلم الذي حصلوه ، إلى أن يصيروا هم العلم والسنَّة ، وهم قانون الله الذي لا يتغير ولا يتبدل ، فهنا يتحول ما كان عليه الآباء إلى أحجار الرحى المدلاة من الأعناق التي تعيق الحركة وتتعب النفوس وترهقُ الأجساد ، ويتحول إلى الآصار والأغلال : « إنهم ألفوا آباءهم ضالين . فهم على آثارهم يهرعون » الصافات - 69 - .

وأول ما يتبادر إلى الذهن عند الاطلاع على القرآن ، هو إدانة اتباع الآباء في عمومه ، أكثر من مدح اتباع الآباء ، لأن إحلال الآباء محل آيات الله وسننه ، أمر جذاب شديد الإغراء . ولهذا فالتحذير من اتباع الآباء ، هو الظاهر في القرآن ، وهو أول ما يُبادرُ المطلعَ عليه . وللاستفادة مما كان عليه الآباء ، ينبغي أن يخضع ما كان عليه الآباءُ للعلم والهدى ، ويُجرى عليه التصحيحُ المطلوب دائماً .

وكذلك علينا أن لا نَملَّ ولا نَكِلَّ ، من بيان أن ما جرى على آباء الأولين ، يمكن أن يجري على آباء الآخرين . فلولا أنه ، يمكن أن يحل الآباء ، محل العلم والقاعدة ، عند المسلمين أيضاً ، لما كان هناك فائدة من سوق الاستنكار على الأمم الماضية اتباعهم لآبائهم . ولو كان المسلمون معصومين ، من أن يتحول آباؤهم إلى عقبة أمام سنن الله ، وأن يحلُّو محل الآيات والسنن ، كما حصل لمن قبلهم ، لما ظهرت فائدة ذكر أولئك ، الذين حال بينهم وبين الحق ، اتباعهم لآبائهم ، بالتكرار الذي ورد في القرآن .

يجري على الآباء والأبناء ما يجري على كل البشر ، في وقوعهم في الخطأ وفي اهتدائهم للصواب ، في قربهم من الحق وبعدهم عنه ، يخطئون ويصيبون ، لهذا فإن تصحيح ما يمكن أن يقع فيه الآباء من الخطأ ، إنما يكون بمراجعة آرائهم وما كانوا عليه ، واختبار ذلك وامتحانها على أساس القواعد والسنن .

لهذا على المسلم أيضاً ، أن لا يضع الآباء المسلمين - المتقدمين منهم والمتأخرين - مكان القواعد والسنن . وهما أحسنا الظن فيهم ، فإنهم ليسوا فوق أن نختبر ما هم عليه ، على أساس الآيات والسنن والعلم والقوانين . والذين أعلنوا منهم أنهم لم يعودوا أهلاً للفهم والمعرفة ، حين أغلقوا باب الاجتهاد ، وسدوا منافذ الفكر ، وقالوا انطبقت القبور على أهل العلم والمعرفة ، هؤلاء كانوا صريحين أنهم ليسوا أهلاً لأن يُتبعوا . وكان كل من يخطر في باله أنه أهل للعلم والمعرفة ، يشعر بحرج عظيم ، فكأنه أساء للسلف الصالح ، أن يخرج من أخلافهم من يفهم أو يعقل عن الله آياته في الكتاب والآفاق والأنفس . فكأن الأمر الذي اتخذ مسوغاً لهم في هذا الموقف ، أن يبقى السلف الصالح في مكان الصدارة والمنزلة العالية . كأن هذه المنزلة ، لن يستحقوها إلا إذا ظل كل من يأتي بعدهم قزماً ، في أسفل سافلين . وكأن نعمة الله على البشر توقفت ، وكأن آيات الله في الآفاق والأنفس توقفت عن الظهور للبشر .

إن الأمراض التي نعيشها في مجال الفكر ، أمراض مميتة ، قاطعة لطريق الحياة . أنا لا أشعر أني قربت إليك بعيداً ، فإن ضغط إرهاب القرون الماضية في الفكر ، سيفٌ مسلط على رؤوسنا . وإزالة هذا الكابوس ، لن تتم إلا بجهود عظيمة ، من الدأب في الدرس ، وفتح الأبصار والبصائر ، والسير في الأرض والنظر إلى ما خلق الله ، وكيف بدأ هذا الخلق . وهذه كلها لم نتعود عليها بعد ، بل لا نرى فيها كثيراً من الجدوى ، مهما تكرر النداء في آيات القرآن ، وبعث الهمم إليها .

يكفي ما نظرنا فيه إلى أنفسنا بالغرور ، من أننا ورثة علم الأولين والآخرين ! … ، وأننا لم نعد في حاجة إلى أن نًشُدَّ رَحلاً لطلب علم ، أو نخصص وقتاً للإعمال الفكر ، أو أن يكون في العالم أحد ، يمكن أن يكون مظنة أن يكشف سنة من سنن الله في الكون ، أو يرى آية من آياته في الآفاق والأنفس ، سواء كان من أهل الكتاب أو لم يكن . ولنخرج مما وقع فيه غيرنا فيما سبق من الزمان ، من أننا أحباء الله ، ولكن جواب الله لمثل هذا الظن قاطع : « قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ ! .. بل انتم بشر ممن خلق » المائدة - 18 - .

وهكذا قص الله علينا نفسية الماضين والجامدين من أهل الكتاب ، نحن قد دخلنا إلى تلك الاجحار ، وعشنا فيها منحنين حتى تقلصت عضلاتنا ، مغمضين ، حتى صار نورُ الفكر يُعْشِينا ، ومع ذلك نزعم كما زعم الأولون ، من أننا : عبادُ الله المصطفون وأحباؤه المقربون . إننا لم ننظر إلى التاريخ البشري على أساس السنن ، وإنما نظرنا على أساس الخصوصيات والمحسوبيات ، وأن المجد ميراث من غير جد .

كل ذلك لأننا لم نفتح أبصارنا ، ولا نريد أن نبصر . وكأن العذاب بالذنوب لم ينطبق علينا ، وكأننا لسنا من البشر الذين خلقهم الله ويخضعون لسننه . وكأننا لم نقرأ : « لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا » النساء - 123 - .

إن مثل هذا الفهم لم يترسخ في أذهاننا وأعماقنا ، وأسلوب نَقدنا لن يُخجل بعدُ غَبَاءَ المسلم ، فهو إلى الآن لا يزال يظن أنه على شيء ، ويحمل النقد على أنه نوع من الفخر بأنه اعتراف ، ولكن لما يَدخُلِ الإيمانُ في القلوب بعدُ ، وحين نسمع كلمات إقبال في كشف زيف المسلم ، نظن أنه عيرُ جادٍّ ، وإنما هو يُداعبُ خواطرنا ، ويُطيبُ نفوسنا ، ويُخففُ من هواننا ، كتعويضٍ يرفع وطأة الانقلاب على العقبين . يقول محمد إقبال:

« إن كعبتنا عامرةٌ بأصنامنا ، وإن الكفرَ ليضحكُ من إسلامنا . وإن شيخنا قامر بالإسلام في عشق الأصنام . ولتخذ خيط مِسبَحَتِهِ من الزُنار . هو في سفر دائم مع مريديه ، وفي غفلة عن حاجات أمته . الوعاظ والصوفية عبدوا المناصب ، وأضاعوا حرمة الملة البيضاء : واعظنا إلى بيت الصنم ناظر ، ومفتينا بالفتوى يتاجر »(1) .

وقال في هذا أيضاً : « إنك أيها المسلم لا تزال أسيراً للمتزعمين للدين ، والمحتكرين للعلم، ولا تستمد حياتك من حكمة القرآن رأسا . إن الكتاب الذي هو مصدر حياتك ومنبع قوتك ، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاةُ فتُقْرأُ عليك سورة « يس » لتوت بسهولة . فواعجبا ، لقد أصبح الكتاب الذي أنزل ليمنحك الحياة والقوة ، يتلى عليك الآن لتموت براحة وسهولة »(1) .

وربما كان ما أصيب به المسلمون من الجمود على رأي الآباء ، أقوى من جمود غيرهم من الأقوام . لأن الآباء حلوا محل الآيات ، سواء آيات الكتاب أو آيات الآفاق والأنفس .

والمسلمون من أشد الناس تقديساً لدينهم ، يَسمُونَ به إلى درجة عالية من المثالية . وهذا تقديس حق . إلا أن هذا التقديس كله ، حين تحول إلى الآباء ، حمل معه قوته وعمقه ، فصار التمسك بما عليه الآباء ، وقبوله مع كل علاته ، وإضفاء طابع العصمة ، سبباً في جعل المسلمين أبعد من غيرهم ، في إمكان رؤية مكان الخطأ في آبائهم الأولين . ويخطر لي كثيراً أن هذا ، هو السبب في بطء التقدم الذي يحرزه المسلمون ، في رفع مستواهم أمام هذا العالم المتسابق في تنظيم الحياة . بينما الوثنيون -كاليابان مثلاً - كانوا أقدر على إثبات وجودهم . إنه ربما كان تقديسهم لمواريثهم الآبائية ، ليس له من الجلال والدعم ، مثل الذي كان للمسلمين ، وما أقروه من ذلك بوسائل تربوية وثقافية متشابكة الأطراف . وهذا ما مكَّن قادة اليابان من التغلب على مشاكل تغيير ما بالنفس ، أو مكنهم من التلاؤم في تسخير الوسائل الجديدة للأهداف القديمة .

وكل التحذير الذي بوجهه القرآن إلى اتباع الآباء ، حمله المسلمون على غيرهم . كأن مشكلة اتباع الآباء ، ليست مشكلة إنسانية ، أو أن ضررها لا يمكن أن يلحق المسلمين . فهذه غفلة عن هذه السنة ، وحمل الآيات - التي تحذر من اتباع الآباء على غير بصيرة - على الأمم السابقة ، كل هذا أفقد المسلمين قيمة التحذير من اتباع الآباء . فبقيت الآيات في الكتاب ، ولكن لم ينتفعوا منها بشيء وهذا مثل واضح عن فقدان الكتاب قيمته الإصلاحية حين يعجز البشر عن التفاعل معه . ومن هنا تبرز أهمية إدراك العلاقة ، بين ما بالنفس وآيات الكتاب .

فحين نعلو بآيات الكتاب إلى أرفع المستويات ، دون أن نفطن إلى الشروط النفسية عند الإنسان ، نقع في حيرة ، ويخفى علينا موطنُ المشكلة ، ويتداخلُ الأمرُ . فينسُبُ من يَنْسُب ، تخلف المسلمين إلى الإسلام ، فيُصدَّق من لا يعلم ، ويتشكك من لم يتمكن من العلم . وينبري المحامون عن الإسلام في الدفاع عنه ، ولكن لا يخطر لهم ، أن المشكلة في الإنسان وليست في المبدأ ، وأن اختلاط المبدأ بالبشر - حيث صار البشر في مكان المبدأ - لا يجعل للنقد والدفاع ، ثمرة مرجوة .

ولو أن مكان المشكلة تحدد بوضوح ، لحصل السعي للتعرف على كيفية تغيير ما بالنفس ، وما ينبغي أن نغيره . فهنا موطن الداء . فنحن لا نحسن فهم المشكلة ، ولا نخضعها للسنن النفسية وإنما نتركها للمصادفة . … ولقد حرصت في أكثر من مناسبة ، أن أقرب إلى الوعي ؛ كيف يفقد الإنسان الاستفادة من آيات الكتاب , وأعود هنا لأذكر مرة أخرى أيضاً ،م ما يمكن أن يتهم به ، ما كدنا نقربه إلى الوعي ، من أن هذه الآيات تنطبق على المسلمين ، كما تنطبق على غيرهم .

إذ يعترض المعترض على هذا بأن يقول : كيف لم يُفهم هذا ؟ وكيف خفي على الأجيال ؟ فهو إن لم يعترض بهذا صراحة ، فإنه يحمل في طيات نفسه بحيث يمنعه من أن يأخذ هذا النقد مأخذ الجد . وأكرر الجواب أيضاً ، بأن المشكلة ليست مشكلة الأجيال الماضية وفهمهم ، وإنما مشكلة ضياع الأجيال الحاضرة وعطالتهم ، والسؤال : « فما بال القرون الأولى » ؟ جوابه « علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » طه - 52 . « تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون » البقرة - 134 . وهؤلاء قد لا يكونون مؤاخذين عند الله ، وقد يكون مغفوراً لهم ، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك . ثم لم يكن كلهم كذلك ، وإنما نحن اتبعنا الذين أخطأوا دون الذين أصابوا .

والقرآن الكريم يزكَّي اتباع الآباء فيما إذا خضع ما عند الآباء للبرهان ، وعند ذلك يقول القرآن الكريم : « واتبعتُ ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون » يوسف - 38 .

وقال الله تعالى ، عن الذين يقدمون ما عليه الآباء على الكتاب - مهما كانت حجتهم بأنهم يعلمون مالا نعلم - قال الله فيهم : « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 . فإن من لا يقدر على التمييز بين القاعدة والشخص ، يفتح على نفسه باب التيه . والنجاة من هذا التيه ، تكون بإخضاع ما عليه الآباء للعقل والقاعدة . وهذا العمل هو الذي يجعل الفائدة من تراث الآباء مضمونة ، مع تفادي ما يمكن أن ينتج عنه من ضرر . وقال الذين يكتفون بما وجدوا عليه آباءهم إزاء دعوة الكتاب لهم : « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون » المائدة - 104 .

والخطورة الآبائية يكرر الله أقوالهم فيقول تعالى : « وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا » الأعراف - 28 ، وقال تعالى : « قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا » يونس - 78 ، وقال الله تعالى : « قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونذر ما كان يعبد آباؤنا » الأعراف - 70 .

فإذا نزعنا عن هذه الآيات صفة الخصوصية ، ونظرنا إليها على أنها مواقف تابعة لما بأنفس القوم الذين شأنهم هذا ، نعرف كيف تتشابه دوافع النفوس في اتخاذ مواقف متحدة . فإذا تجاوزنا هذا المستوى من البحث ، ونزلنا إلى مستوى العوام من النساء والرجال - في استعبادهم للعادات والتقاليد الخرافية الحديثة منها والقديمة ، في صورة لا مجال فيها لأي فكر أو عقل أو محاكمة البتة - نرى ذلك ، أو نسمع كل يوم حين يقولون : (الناس كلهم هكذا) ، وطبعاً كلمة (الناس كلهم هكذا) ، هي الكلمة المقابلة لقوله تعالى : « بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون » الشعراء - 47 - وإن اختلفت العبارات ، فإن الدوافع في النفوس تخضع لقاعدة واحدة .

تحدثنا هنا ، عن الآفات التي تحول بين العقل والسنن ، وذكرنا الإعراض والتكذيب والغفلة ، واتباع الهوى ، واتباع الآباء ، ومنها أيضاً ، الغرور بما عندهم من القوى البشرية المستغلة . كل هذه تحول بين الإنسان وإدراك الحقيقة ، وتُمكنه من التعامي وتجاهل الحقيقة .

إن هذه الآفات ، كلها ذرية الآفة الأساسية ، آفة ظن أن الله لم يجعل لهذا الكون سنناً ، إذا اتبعها الإنسان يمكنه أن يستمطر رحمة الله ، وبتجاهلها يتعرض للهلاك .

فالغفلة عن إدراك هذا النظام الرباني المودع في الكون ، يفقد الإنسان ميزته الأساسية ، وأمانته التي حمله الله إياها ، والسلطان الذي أعطاه الله تعالى له ، لتسخير ما خلق الله له . ويصير هذا الإنسان المكرم في أسفل سافلين ، بل يصير الإنسان نفسه مسخراً للذين يعلمون سنن الله .

والإنسان حين لا يدرك أن للكون نظاماً ، وللعقل سلطاناً ، يعيش في فوضى . تأتيه النكبات تلو النكبات ، ولا يعرف لها سبباً معقولاً ، ولا يشعر أنه إنما يصيبه ذلك لأنه عطل ما أودع الله فيه من قوى : « وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » النحل - 33 - .

وهذا المسلم بعد ذلك ، يتفنن في اختراع أسباب لتفسير الأحداث ، فهو إن لم يعلق السبب بالنجوم ، فلا جناح عليه أن يرى ذلك في الزمان الذي أشرف على نهايته ، وإن تجاوز مشكلة آخر الزمان ، فمشيئة الله تعالى وإرادته جاهزة . فهذه المشيئة هي التي تفعل هذه الأمور التي لا يحبها ، ولا يرى فيها معقولية . وهذا السند ، هو المشجب الأساسي الذي يعلق به المسلمون كل مهازلهم التي يصابون بها . ويجدون بذلك ، نوعاً من الراحة والطمأنينة في رفع المسئولية عن أنفسهم . كما يغريهم بهذا الاتجاه ، ما يُلبسون نظرتهم من تعظيم الله ليثبتوا له حرية الإرادة والمشيئة المطلقة . كأن هذه لا تثبت له ، إلا بالتصرف الذي لا معقولية فيه ولا نظام . هذا ، فضلاً عن سلب الحكمة عن مشيئة الله تعالى وإرادته . كما وأن نظرتهم هذه ، فيها سلب للقدرة التي منحها الله للبشر ، على تغيير ما بأنفسهم وتغيير واقعهم .

إن الخلط العجيب ، بين سلطان الله وما منح الله للبشر - من تمكين في توجيه حياتهم ، وعدم رؤية المجال الذي أعطي للإنسان - يبطل النظام الذي أبدعه الله لحياة البشر .

وأحياناً ، يميل المسلم إلى الحط من قيمة قدرة الإنسان ، ليبقي لله عظمته . فكأن عجز الإنسان ، هو الذي يثبت عظمة الله . لهذا يتخوف من القدرات التي تتفتح أمام الإنسان ، ومن الإمكانيات التي يظهر فيها سلطانه . ولو أن المسلم تأمل قليلاً ، لما شعر بأن زيادة سلطان الإنسان ، تقلل من عظمة الله . بل من جلال الله سبحانه وتعالى ، أن يمنح عبده هذه القدرات .

لكن نظرة المسلم في هذا الموضوع ، شابها كثير من الأخلاط على مر العصور ، من جبرية ، ومرجئة ، وقدرية ، ونماذج أخرى من أقطاب وأبدال ، وشخوص محدثة ، أو من هم أقدم قليلاً ، يلتجئُ إليهم عند المصائب . والأمور الملهمة ، ليفتوا في العقيدة والاجتماع وأمور الدنيا والآخرة .

إن الفوضى الفكرية والعملية ، التي يعيشها المسلمون ، ترشح من هذا المستنقع ، الذي اجتمع فيه ما هب ودب . ومما يتصل بانقطاع الصلة بين العقل والسنن في المجتمع الإسلامي ، وكشاهد على ذلك ، أني كنت منذ قريب ، مع نخبة طيبة من الشباب الذين يُحبون الإسلام جهد طاقتهم ، ويتألمون لوضع المسلمين . وكان البحث في مشكلة المسلمين ، فكأنهم رغبوا أن يسمعوا مني رأياً في هذا الموضوع ، فقلت : إن في نفسي شيئاً في هذا الموضوع ، ولكن لا أعرف كيف سأعرضه عليكم بمبرراته ، لذا أشعر أني لست متمكناً من نقله إليكم . وبعد محاولة لتقريبه إليهم ، قلت ما معناه : كأن شيئاً ينقصنا لتغيير هذا الإنسان ! ولو أننا كشفناه فإنه يساهم في إزالة هذا العجز الذي يتصف به المسلم . لاحظتُ أن أحدهم التقطَ في ذكاء ما أقصدُ إليه ، ولعله لما يعلم عني من اتجاهٍ ، في أن مشكلة المسلمين يمكن أن تخضع للعلم . قال : هل تعني أن يخضع ذلك لقواعد علم محدد ؟ فقلت بشيء من الشعور بخيبة الأمل ، وبشيء من الإخفاق والخجل ، لعل هذا هو الذي أريد . فكأنه بحركة بسيطة عدل بها من جلسته ، وبنغمة صوتية خفيفة ، أفهمني أن هذا الأمر ليس كذلك . وشعرت بزهده الشديد ويأسه ، من أن يكون هذا الاتجاه في النظر إلى المشكلة يأتي بشيء له جدوى .

أجدني في أحيان كثيرة في حيرة - وإن كان هذا يمكن أن يُردَّ إلى عدم تمكني من الموضوع - من أمري ، كيف سأقنع الشباب بأسلوب علمي جديد ، بما قاله ابن الوردي قديماً « في ازدياد العلم إرغام العدا » من أننا إذا زدنا معرفة وخبرة فإن هذه الزيادة في المعرفة تزيد من كفاءتنا في أداء أعمالنا أياً كان هذا العمل فكأننا لا نقرُ أن كيان الإنسان المعنوي يتكون من مجموع اللحظات التي امتص فيها المعرفة بشعور منه أو دون شعور .

في الواقع إن وضع هذا الأمر تحت إدراك الوعي يساهم في تغيير الموقف . إن هذا الزهد الشديد الذي عندنا في السعي لطلب المعرفة ، ما هو إلا ذرية هذه الآفة التي نبحثها ، آفة عدم رؤية السنن في نظام الكون ، وعلاقة العقل الإنساني بهذه السنن كعلاقة تسخيرية .

وإن ظاهرة الضجر التي عندنا ، في مطالعة موضوع يحتاج إلى جهد كري في التأمل ، راجع إلى تلك العقيدة ، عن علاقة الإنسان بنظام الكون . وما أسرع ما نتهم البحوث الجدية بالتعقيد والإغلاق ، كأن عقولنا لم تعد تتذوق طعم الأغذية الفكرية الجيدة ، لطول ما تعودنا على العلف الذي ذكره إقبال في الأسرار والرموز :

جَوْهرُ الآسَادِ أضحَى خَرَفَا حِيْنَ صَارَ القُوْتُ هذا العَلَفَا

ذكر إقبال في هذه القصيدة نماذج من المواعظ التي يتلقاها المسلم ، الذي لم يَعُدْ لهُ مَهمَّةٌ في هذه الحياة ، ليعطي له نوعاً من المبرر للوجود أيا كان هذا الوجود . ذكر ذلك إقبال على لسان الكبش الذي ادعى الإلهام ، وأنه مرسل كرسول لأولئك الأقوام الذين من عقيدتهم تسخير قوى هذا الكون لشريعة رب العالمين ووضع إقبال عنوان هذه القصيدة : « قِصَّةٌ في معنى أن مسألة نفي الذات من مخترعات الأُمم المغلوبة لتُضْعِفَ الأمم الغالبة بهذه الطريقة الخَفية » .

ونفي الذات وإثبات محور فلسفة إقبال. ويعني بذلك إظهار ما أودع الله في هذا الإنسان من قوى ، فهذا إثبات وإهمال تلك هي رموز نفي الذات .