العبودية المختارة

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث

تحوي الصفحة على النص الكامل للكتاب، وهي صفحة لا تزال قيد التحرير

مداخلة الأستاذ جودت سعيد



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والآمرين بالقسط من الناس

و بعد يقول الذي كتب التعريف ب «لابويسيه»:

«أن هذا النص يحظى اليوم بانتباه منقطع النظير من جانب المشتغلين بالفلسفة السياسة والاجتماع».

كتب هذا في منتصف القرن 16 الميلادي، والمؤلف مات وعمره (32) سنة وكان صديق مونتيني الذي وصفه بحق ول ديورانت: من أنه كان بارعاً في أنه كان يشعل النار ويقذف به في الهواء ولكن كان من البراعة أنه يطفئها قبل أن تصل مشتعلة إلى الأرض، وأنه كان من النبل أنه لم يكن ليهدم بيت جاره قبل أن يُعِدَ له المسكن اللائق به.

ولما نشر مونتيني -صديق لابويسيه- أعمال صديقه الشعرية لم ينشر مقالته الفلسفية المتعلقة بالسياسة مستقلة إلا بعد نحو 270 عاماً من وفاة الكاتب وفسر ذلك أن هذه المقالة «مقالة العبودية المختارة» فيها حياكة أدق والطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به ذاك العصر الفاسد.

و يمكن أن نقول إن هذه المقالة في العبودية المختارة متصلة برؤية آيات الأنفس وآية رؤية الآفاق والأنفس سنريهم آياتنا في الأفاق و في أنفسهم (فصلت، 53) أعتبرها من الآيات المفتاحية للدخول إلى عالم القرآن لأن هذه الرؤية هي التي أدت إلى دخول الإنسان عصر التسخير بمعنى متقدم كثيراً، فبعد أن كان الإنسان يعتمد على عضلاته انتقل إلى الحصان ثم إلى الطاقة بمختلف أشكالها.

و الآن بدأ الإنسان يدخل إلى كشف آيات الأنفس ليسخرها كما سخر آيات الآفاق وهذه المقالة متعلقة بكشف آيات الأنفس وأن قيمة الإنسان ليس في عضلاته! وإنما في جهازه العصبي القابل لكشف السنن وتسخيرها فإن الحداثة الحقيقية إنما بدأت حين بدأ الإنسان يكشف ذاته والقوانين والسنن التي تحكم وجوده بالذات.

والذين كشفوا شيئاً من هذه السنن واجهوا «صراعاً وخوفاً وطمعاً» خوفاً من جانب الذين يستغلون الجهل وطمعاً من قبل الذين يريدون رفع الآصار والأغلال عن الناس ولا يزال الصراع على أشده في العالم كله، وإن كان حسب ما يبدو لنا أن التقدم متسارع ومثل هذه المقالة تأخر نشرها في موطنها أكثر من قرنين ونصف ولم تصل إلينا نحن أيضاً إلا بعد مائة وخمسين سنة من نشرها.

إن جذور الديمقراطية تكونت في مثل هذه المقالات ومقالات مونتيني وإِيْرَزْموس وأمثالهم ساهم في وعي الإنسان ورفع مستواه في فهم الوقائع الاجتماعية لما يقول: كثرة الأمراء سوء نقلاً عن أوليس قبل الميلاد بقرون وتمنى أن يقف عند هذا القول ولا يضيف إليه كفى سيد واحد ملك واحد كأنه يقول يكفي سوء واحد ولكن العيب ليس في الكثرة والقلة وإنما العيب أن لا يكون هناك تنافس في الخير وإنما تنافس في الشر.

إن البشر يتنافسون في الشر ولكن التاريخ في جانب آخر حيث يذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس ينبغي أن نفهم اتجاه رياح التاريخ فإذا عرفنا ذلك أمكننا أن نقلل زمن المعاناة، والذي يعطي أهمية لمثل هذا التحليل الفلسفي للمشكلة السياسية والاجتماعية هو تلمسه وانتباهه من ملاحظة الواقع وأن ذلك ساعد على الانتباه إلى الفلسفة القرآنية التي تحكم المجتمعات، وهذه الفلسفة القرآنية هي فلسفة وحكمة وسنة وقانون «من عند أنفسكم».

هذا القانون بقدر ما هو مرسخ في القرآن والسنة والتاريخ من عهد آدم إلى يوم القيامة – وربما هذا الذي كرس له مالك بن بني تحليله لمشكلة الحضارة والثقافة – بمصطلح «القابلية للاستعمار».

إن القرآن يوجه إلى الظلم الذي يُلحِقُه الإنسان بنفسه أكثر من الظلم الذي ينزل عليه من الآخرين، هذا اتجاه في فهم طبيعة الإنسان ما أصابك من سيئة فمن نفسك (النساء، 79)وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (النحل، 33)، هذا التفسير للوضع الإنساني هو المهم لهذا لما يقص علينا الله قصة آدم والشيطان ويواجه كلاً من آدم وزوجه حواء، ويواجه الشيطان.لآدم لّما أمره بالسجود فإن جواب آدم وزوجه كان ربنا ظلمنا أنفسنا (الأعراف، 23) ولم يقولا أن الشيطان أغرانا أو خدعنا مع أن القرآن يصرح أن الشيطان مارس الإغراء لما قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين (الأعراف، 7) وقال أيضاً: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (طه، 12) وهذا دليل على قدرة الإنسان على الاعتراف بالمسؤولية وتحمل التبعة وليس البحث عن كبش فداء أو تحميل حدوث الخطأ والمعصية للآخرين وكذلك ينبغي أن نتأمل كيف يقص علينا موقف الشيطان في الامتناع عن السجود، فقد ذكر أمرين، فلسفي، تحليلي، تفسيرين لموقفه الرافض قال:

أنا خير منه خلقتي من نار وخلقته من طين (الأعراف، 12) هذا التفسير المادي العرقي افتخر بأصله المادي هذا هو التفسير المادي وأما التفسير المعنوي المبني على رفع المسؤولية عنه قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (الأعراف، 16) هذا التفسير الثاني هو التفسير الجبري الذي ينزه الذات وينسب سبب رفضه إلى الله الخالق لكل شئ، ونحن حين ننظر إلى المغزى لهذه الرواية القرآنية لِذلك الحَدَث يبين لنا السبب الذي من أجله وقعت اللعنة والطرد لإبليس، وكذلك السبب الذي من أجله استخلف آدم وزوجه وذريتهما في الأرض لأنهما تحملا المسؤولية وقبلا التحدي وإن كنا نحن البشر عامة لا نزال لم نبلغ الرشد ولا نزال على تفسير إبليس لأحداث العالم، لهذا لا يوجد في العالم من يشعر بالمسؤولية عن الفساد الذي يقع في الأرض وإنما ينسبه إلى الآخرين.

نحن ننسب إلى الاستعمار والإمبريالية وهم ينسبون إلينا أننا نحن سبب المشكلات، أي نحن الرجعيين الإرهابيين، فكأنه ليس في الميدان النموذج الثالث.

إن لهذه المقالة أهميتها الفلسفية، أن كاتبه انتبه إلى هذا الجانب المهم الإنساني وما ربك بظلام للعبيد (فصلت، 46) وكذلك الحوار الذي يذكره القرآن في يوم القيامة إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم لما تبرءوا منا (البقرة، 166) إن أهمية الموضوع: أن الإنسان لا يُظلم إلا برضاه وبجهله.

إن الله خلق الإنسان ومصيره بيده وهذا اتجاهٌ وقِبْلَةٌ ينبغي أن لا يضيعها الإنسان وهذه المقالة أهميتها الفلسفية انتباهها إلى هذا الجانب الهام الإنساني فهي مشكلة إنسانية قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (الشمس، 9) وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد، 11) الأمر يرجع دائماً إلى البشر أولاً ولكن القرآن يؤصله كثيراً ويجعل دعوة الأنبياء جميعاً إلى هذا الاتجاه، وإن كان البشر ضيعوا هذا الاتجاه وتخلوا عن تحمل المسؤولية كما فعل آدم وزوجه ولا يزال البشر يتبعون خطوات الشيطان مع أن الله يقول: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الحجر، 42) إنما سلطانه على الذين يتبعونه في الواقع إلى الآن الفلسفات السياسية والاجتماعية التي لم تنتبه إلى هذا الموضوع جيداً ولا أظهروه ببيان مبين.

فهذه المقالة حيث تشير إلى هذا الاتجاه تبشر بأن البشر بدؤوا يبصرون الطريق ولكن العالم جميعاً إلى يومنا هذا يفسرون الموضوع تفسيراً خاطئاً وإلا كيف يتقبل العالم حق الفيتو.

يقول صاحب المقال: «إنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب (الناس) متى تم خضوعه يسقط فجأة في هاوية عميقة من النسيان لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ.لا مناص من التسليم بأن سلطان الفطرة (الطبيعة) يقل عن سلطان العادة عملياً لنقل إذن إن ما درج عليه الإنسان وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي …الخ» فنحن لو تأملنا مسألة الفيتو الآن في العالم ليس له من مبرر إلا العادة المضرة المقيتة التي يخضع لها الناس باختيارهم حيث لا نجد في العالم صوتاً معلناً وراءه مؤمنون به ينكر حق الفيتو وأنا أزعم أن السبب في ذلك تعود الناس وعدم وجود من ينكر ذلك.

إن القرآن يحدثنا كثيراً عن الأقوام التي تنكر ما لم تسمع به ونحن لا نسمع من ينكر حق الفيتو مع وجود دعاة للديمقراطية ولحقوق الإنسان مع أن الديمقراطية ضد حق الفيتو وكذلك حقوق الإنسان وأن أكبر مستخدم لحق الفيتو هي أمريكا وهي أعظم وأكبر انتهاكاً من أي انتهاك يمارسه الطغاة الصغار في العالم لأن سيدهم الكبير على قدر كبره يكون إفساده للعالم كبيراً لا أحد يوجد في العالم يواجه هذا الطاغوت الأكبر وهو بكل تبجح يطارد الناس بأنهم ينتهكون حقوق الإنسان بينما لا يقدر أحد أن يواجه هذا المتكبر الأكبر، فإذا كان بويسيه يندهش ويعقد الاندهاش لسانه في بيان خضوع الناس للوهم، فإن الاندهاش يعقد لساني من إجماع الناس الخرافي للتسليم بحق الطاغية في أن لا يخضع لقانون وأن يكون فوق البشر يحي من يشاء ويميت من يشاء.

وأنا ربما أريد أن أتعمق في بحثِ سببٍ أعمق لخضوع الناس للخنوع والذل وعدم الإنكار، على الأقل نفهم أنه هذا انتهاك لحقوق الإنسان ولكن لماذا لا نفهم؟ لأننا لا نزال نؤمن بالقوة وليس بالمنطق، ولهذا نريد مواجهة ألوهية القوة بالقوة ولا نريد مواجهة القوة بالمنطق بالبداهة، البداهة عندنا أن القوة وصاحب القوة هو الحق، هذا الشيء رسخ في أعماقنا واعتدنا عليه حتى صار بدهياً، إذن علينا أن نضع العتلة تحت هذه البدهية لنرفعها ولنلقيها بعيداً فنتحرر من الوهم.

إن الإيمان بالقوة يوقعنا في خطيئتين: الأولى أننا نحاول مواجهة القوة بالقوة نفسها، ونكون بذلك قد جعلنا منطلقنا وقبلتنا واحدة وملتنا ملة واحدة معه وننتظر حتى تصير لنا قوة حتى نكون مثله ولكن ننسى أن الانتصار بالقوة لا يغير الواقع لأن الذي حل محله مثل الذي زال وليس غيره.

والمنطق يستبعد هذا أولاً: وثانياً إن إيماننا بالقوة يحول بيننا وبين أن ندرك قوة المنطق وقوة الحق وقوة العدل فلهذا لا نفهم أن المنطق والحق والعدل فيها قوة أعظم، يكفي أن نصدق هذا ونكون مؤمنين به حتى نتحرر، ولكن لم نكشف هذا !! فهذه المقالة تريد أن تنبه إلى شيء من هذا وأنا كمسلم وكمؤمن بالقرآن وبالأنبياء أشعر جيداً جداً بأن الوهم هو الذي يحكمنا، ويذلنا إنه هو الذي يتحكم فينا، ولم يوجد بعد بيننا من يفك السحر حتى نشفى من مرض الوهم.

إن بويسيه يريد أن يُنبه الناس إلى هذا السحر، ولكن علينا أن نوضح هذا أكثر ونجعله جلياً.

إن الفضيحة العالمية الآن أنه لا يوجد من ينكر أصل ومنبت وطبيعة الفيتو الذي يُعَقِّد كل مشاكل العالم، حتى أنه لا يوجد من ينكره، ولكن يوجد من يريد أن يكون له هذا الحق الذي هو فساد للحق ونبذ للعدل وكلمة السواء.

إن ما دعا إليه الأنبياء جميعاً هو: تعالوا إلى كلمة سواء أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً(آلعمران، 64) وكذلك قولهم: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه (هود، 88) وكذلك قولهم: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (البقرة، 44).

لا يوجد في العالم من يقبل كلمة السواء !! لأن كل العالم كل مجموعة ترى نفسها أنه خلق من الله وهم أبناؤه الأحبة والآخرون من البشر ليسوا على شيء وخلقوا لهم فهم من أملاكهم.

إن المنتصر بالقوة هو الحق ولو أن هتلر كان المنتصر لم يكن ليصنع قانوناً أظلم من القانون الذي وضعه المنتصرون في الحرب الثانية.

إن الديمقراطيات ساكتة عن حق الفيتو لأن ذلك لصالحهم.

إن مثقفيهم صامتون أيضاً.إن العدل لا بواكي عليه ولا دعاة له وإنما يوجد من يتلمظون ليصيروا مكان الطاغوت الأكبر، هذا السر الذي في قلوب الناس هو الجرثوم الذي يحول بينهم وبين إعلان إيمانهم بالحق والعدل.

يا عالم أيها الناس أليس منكم رجل رشيد ينصر الحق والعدل ولو بالمنطق إن بويسيه أراد أن يقول:

«فللبلد إذا أراد أن لا يتحمل مشقة السعي وراء ما فيه منفعته كل ما يقتضيه الأمر هو الإمساك عما يجلب ضرره.

إن الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمته».

إن الأنبياء جميعاً جاءوا بالخروج من ملة الإيمان بالقوة إلى ملة الأنبياء الذين يرفضون الإكراه.

إن رفض الإكراه يجب أن يكون من طرفين.لأن الذي وقع عليه الإكراه ورفض من طرف واحد أو في حالة واحدة لا تكفي لأنك حين تكون أنت الذي فرضت الإكراه وهذا لا يخطر في بالك كذلك الناس يكونون دعاة ديمقراطية ما داموا خارج القدرة على الإكراه، ولكن بمجرد أن يصير قادراً على الإكراه ينبذ الديمقراطية وراء ظهره ويصير في الميدان قائلاً أنا ربكم الأعلى وإلا فكيف دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان هم الذين يعيقون الديمقراطية في العالم ويخافون أن يصير الناس ديمقراطيين.

علينا أن نتنبه إلى ذلك حتى لا نصير مثلهم إذا صرنا في مكانهم، لهذا في القرآن يظهر هذا الجانب المغفل والمسكوت عنه والمستبعد من الانتباه إليه لأن هذا نظر مستقبلي يقول في حوار موسى مع قومه قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا (الأعراف، 129)، كأنهم يقولون لم نستفد شيئاً من دعوتك وكان جواب موسى لهم: قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (الأعراف، 129).

إنه ينبههم إلى المرض الخطير الذي يقطع الظهور ويلوي الأعناق ويوقظ جينات ثقافة الطغيان التي لم تُسْتَأصَل من النفوس.

هذا ما يقصه القرآن عن السابقين.

وهكذا يقول للذي نزل عليهم القرآن أيضاً فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم  أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها  إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (محمد، 22-25).

إن عدم الانتباه الجيد إلى هذه المشكلة أي المشكلة التي تنتظر المجتمعات حين تشعر بالقوة فإن جرثومة الطغيان النائمة تستيقظ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى (العلق، 6) هذه مشكلة إنسانية كبيرة بدأت الدراسات تنتبه إليها، كموضوع الشرعية.

متى يصير الوضع شرعياً؟ وكيف تُفْقَد الشرعية؟ وهذه المشكلة واجهت كل المجتمعات بما فيها المجتمع الإسلامي حيث فقدوا الشرعية في وقت مبكر ولم يهتدوا إليها إلى الآن.

وكذلك من الدراسات في هذا الموضوع ما أشار إليه كاتب التعريف ببويسيه: إن الفلسفة السياسية والاجتماع منذ الحرب الثانية لا تترك بُدَّاً من التفرقة بين السيادة والاستغلال.

هل الاستغلال أساس السيادة؟ إن هذه الأسئلة فتحت مجالات لدراسة الشرعية أو السيادة والسلطة بحسب تعبير البعض وتتجلى أكثر في بحوث أكثر حداثة بعناوين مثل السلطة والمعرفة.إنها مواضيع حيوية.

السيادة هي التي يتقبلها الناس طواعية بالإقناع حسب رأي البعض كما يحاول أن يفسر ذلك أركون، والسلطة هي التي تفرض بالقوة والإكراه، والقرآن لا يعترف بالإيمان الذي يأتي بالإكراه كلا ولا بالكفر الذي يأتي بالإكراه، فمن هنا كان نفي الإكراه جنس الإكراه كلياً من مبادئ الإسلام لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها (البقرة، 256)، بلا إكراه في الدين تبين الرشد من الغي فإن الذي يأتي بالإكراه هو الغي، والذي يأتي بلا إكراه هو الرشد أي يأتي بالإقناع.

والطاغوت هو الذي يأتي بالإكراه، لهذا أمر بالكفر به وعدم الإيمان بالطاغوت، وأمروا أن يؤمنوا بالله الذي ليس في دينه إكراه، وهو لا يخاف من الانهزام إن تخلى عن الإكراه، فهو يثق بالمنطق وبالإنسان وبالله الذي ليس في دينه جنس الإكراه.

فإذا كان لا إكراه في الدين فمن باب أولى رفع الإكراه عن بقية الأمور وخاصة السياسة لأن السياسة التي تأتي بالإكراه ليست بسياسة وليست برشد وإنما غي وبغي، لهذا سمى المسلمون الخلفاء الذين جاءوا بدون إكراه ولم يجعلوها وراثة في أبنائهم سموهم راشدين، لأن الرشد من الغي يتبين بالإكراه ولم يسموا بعدهم أحداً راشداً ممن جاءوا بالإكراه والوراثة فهو أصل عظيم في الإسلام للشرعية السياسية، وأصل السيادة ونظام المجتمع، علينا أن نعض عليها بالنواجذ، وإن كان السابقون لم يهتدوا إلى إمكانية إعادة الرشد بالرشد فإن آيات الآفاق والأنفس التي بدأت تظهر.وتطور التاريخ ومعاناة البشر كل ذلك جعل من هذه المواضع مواد دراسة علمية سننية تاريخية في نفي جنس الإكراه وعلى قدر الاعتماد على الإكراه يكون الرشد بعيداً والشرعية ناقصة أو معدومة مطلقاً.

يمكن القول بناء على إشارة القرآن إلى التحذير في المستقبل من الوقوع في تبني الإكراه: بأن التاريخ السابق مظلم جداً في هذا الموضوع، في طغيان الإنسان والمجتمعات حين يصير لهم القوة والغلبة والسلطان وينسون الاعتبار بالتاريخ من أن الذي يأتي بالإكراه لا يكون شرعياً وينسون الاعتبار بالتاريخ من أن الذي يأتي بالإكراه ويذهب بالإكراه لا يكون شرعياً لأن الذي ذهب مثل الذي جاء.

ويمكن أن أقول هذا ما كان ينقص الحداثة الغربية، حيث وقعوا فيما وقع فيه السذج في الفهم حين أجازوا إزالة الإكراه بالإكراه وظنوا أنهم بذلك يصلون إلى الشرعية في إزالة الإكراه، إنهم لم يزيلوا الإكراه وإنما رسخوه، فإن الثورة الفرنسية وإن كانت تحمل نسمات إنسانية في إمكانية رؤية الشرعية إلا أنهم تلطخوا بالدماء، والثقافة الغربية أجازت الإكراه في إزالة المستبدين والمستعمرين ولكن هذا الاستحقاب والإبقاء على التعويل على الإكراه خذلهم في منتصف الطريق لأنهم لم يتخلصوا من الإكراه.

هذا الذنب هو الذي طاردهم ولم يمكنهم من التخلص من حق الفيتو إن أصلهم الإكراهي خذلهم، فهذا الذي يجعل أمام الناس مهمة ضرورة الاهتداء إلى حضارة جديدة، إلى علاقات إنسانية جديدة مبنية على التعاون في إيصال الخير إلى الآخرين لا إلى منعهم من الوصول إلى الخير، فالإكراه الذي لم يتخلص منه الغرب هو الذي جعلهم الآن مستغلين أمام العالم، إنهم ليسوا أهلاً للحكم بين الناس بالعدل وكلمة السواء وأرجو أن يتفهم المسلمون هذا فلا يكرروا الخطأ الذي وقعوا فيه قديماً حين فقدوا الرشد وأجازوا صنع الحكم بالإكراه والقوة، فجاءت الحضارة الغربية وبدلاً من أن تخفف من المشكلة زادت الطين بلة حين أجازوا الإكراه في إزالة الخطأ.

إن فوكوياما حين خرج على الناس بمقولته نهاية التاريخ كان مصيباً! لأن نهاية هذه الحضارة فعلاً قد اقتربت إذ أن أمام التاريخ مهمات كبيرة لقبول كلمة السواء وهذا لا يأتي من الكبار المستكبرين في الأرض وإنما من المستضعفين الذين هم أقدر على الاستفادة من التاريخ.

أن الكبار السكارى لا يمكنهم أن يغيروا طريقهم، فإن هذه المقالة التي كتبها بويسيه تحمل ملامح اليقظة على المستضعفين أن يتبينوا جيداً، فإذا كان فوكوياما أعلن نهاية التاريخ فهذه نهايتهم وكذلك حين أعلن هتنغتون صومئيل صراع الحضارات.

إن هؤلاء الذين بنوا حقوقهم الإنسانية والديمقراطية على أساس فاسد في تفريق الناس وجعلهم شيعاً كما فعل فرعون يستضعف طائفة منهم «يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين» (القصص، 4).

إن الذين لا يفهمون إلا الصراع لا يمكن أن يفهموا معنى التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ومع ذلك كان قد بقي الحنين في قلبه فقد كان يحمل الغل في قلبه ومنعه ذلك من الوصول إلى سلامة القلب من الإكراه، يظهر هذا حين يقول:

إن من يظن أن الجنود وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ بشكل كبير فالحرس تَصُدُّ من لا حول لهم على اقتحام القصر لا المسلحين القادرين على العزم، ثم إن من قتلهم حراسهم من الطغاة أكثر ممن حماهم حراسهم».

ينبغي أن لا تفلت من يدنا الشرعية شرعية اللاإكراه وشرعية الرشد.

لا بد من أن يسلم الجميع بأن اللجوء إلى العنف مَنْفِيٌ نفياً قاطعاً وإنما يلجؤون إلى الإقناع يعيدون الشرعية للجهاز العصبي الإنساني وهو أبدع ما خلق الله تبارك الله أحسن الخالقين وليس بعضلاته (إن عضلات كثير من الحيوانات أقوى منه)فلهذا سميت بحق شريعة من يعتمد على القوة شريعة الغاب لا يكون بقبول مخاطبة ما شرف به الإنسان وهو وعيه.

وينبغي أن نفهم بعمق أن الديمقراطية ثمرة، شجرتها وعي الأمة وبدون وعي الأمة لا ينفع اقتراع ولا برلمان وسَلَفُنَا وبويسيه لم يشاهدوا ما حدث في العالم كيف تتحد أوربا الآن ليس على أساس الإكراه والعنف والقوة، إن هتلر ونابليون لم يوحدا أوربا وإن فتحا أوروبا إلى روسيا وإلى جنوب البحر الأبيض حيث وصل كلاهما إلى روسيا وإلى جنوب البحر فحارب رومل في العلمين على حدود مصر وتجاوز نابليون مصر إلى محاصرة مدن في فلسطين ولكن هتلر مات منتحراً ونابليون مات منفياً والآن تتحد أوربا ليس على أساس التسلط وإنما الإقناع يربح الجميع ولا يخسر أحد.

ويتحدون لا على أساس ألمانيا فوق الجميع أو فرنسا أو بريطانيا العظمى التي لم تكن تغيب عن ممتلكاتها الشمس، يتحدون الآن على أن الجميع سواء وهذا يمكن أن نفعله نحن العرب والمسلمين، علينا أن نكشف جذور الإيمان النبوي الذي لم نعلم نبأه إلى الآن، ولكن سنفهم رغماً عنا ويظهر صدق قوله تعالى ولتعلمن نبأه بعد حين (ص، 88) ولهذا يقول القرآن لنا: انظروا إلى التاريخ الماضي وإن لم تكفِ عِبَرُهُ فانتظروا المستقبل فإن المستقبل سيَأتي بأدلة أقوى تضطر الناس أن يخرجوا من شريعة الغاب إلى شريعة العدل وكلمة السواء، والبشرية تتقدم إلى هذا رغماً عنهم وإن كان التقدم ببطء إلا أنه تقدم راسخ وثابت والله تعالى يقول يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون…ويأبى الله إلا أن يتم نوره (التوبة، 32) ونور الله هو اللاإكراه في الدين وهو الرشد وهو الإيمان بالله والكفر بالإكراه لهذا يقول الله بعد آية لا إكراه في الدين: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلماء إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات… (البقرة، 257) هذا هو نور الله وهو اللاإكراه وهو الرشد وهو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه، والإنسان ما دام في قلبه حنين إلى القوة ليصنع الرشد بالقوة مثل الذي عنده حنين لأن يصنع التوحيد بالشرك، إن تجارب التاريخ تنفي هذا، إن لم تقنعنا تجارب البشر جميعاً فإن تجربة المسلمين من ألف وأربعمائة عام تدلنا على أن الذي يريد أن يعيد الرشد بالإكراه وبالعنف لا يمكن أن يَنْجَحَ، ألا يكفي المسلمين أنهم أرادوا أن يعيدوا الحق إلى نصابه بالقتل فقتلنا عثمان وقتلنا علي وقتلنا بني أمية حتى نبشنا قبورهم وقتل الذي اسمه المأمون أخاه الذي اسمه الأمين وإلى يومنا هذا يقتل الطغاة رفاقهم، فمن هنا كان لابويسيه يلامس الواقع في تحليله للعبودية المختارة فهو يلامس معنى الشرعية في أعماقه في القدرة الإنسانية على رفض العبودية وأن الإنسان قادر على ذلك إلا أن يتنازل بإرادته وليس رغماً عنه وهذا ما يحتاج إلى تسليط الأضواء عليه وإلى بدء القول في بحثه وإعادة البحث مرة بعد مرة من غير ملل إنه من أشرف البحوث وأكرمها وأعظم كشف لطبيعة الإنسان وكيفية استثمار طاقة الإنسان أعظم استثمار وذلك ليس بقهره وإكراهه وإنما بإقناعه فإن أعظم الاستثمار للإنسان لا يكون بقهره وإكراهه وينبغي أن نعيد القول ونكرره من أن الإيمان الذي يأتي بالإكراه ليس بإيمان كلا ولا الكفر الذي بالإكراه يكون كفراً وكذلك السياسة التي تأتي بالإكراه ليست سياسة وبهذا يمكن أن نفهم أن الشرعية وأن الرشد ليس هو الذي فيه الإكراه وإنما الإقناع ولهذا راهن الأنبياء جميعاً على التشبث والتمسك والعض عليه بالنواجذ على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الكفر بالطاغوت الذي يمارس الإكراه والإيمان بالله الذي لا إكراه في دينه وبهذا التصور يَكُوْنُ معنى الشرعية التي هي الخروج من الظلمات إلى النور من ظلمات الاشتباه إلى نور الوضوح واليقين وسيتم هذا في المستقبل أكثر وسيتم وعد الله بإتمام نوره لأنه تعالى يأبى إلا أن يتم نوره فهذا وعد الله في قرآنه خاتمة الكتب السماوية وبهذا نعلم أن التاريخ هو مرجع الكتب السماوية وأوضح ما يكون ذلك في القرآن فإن مرجع القرآن على صدق أحكامه وقائع التاريخ، وأحداث الأمم في نجاحها وهلاكها، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد والقرآن مليء بفتح أبصار الناس إلى عواقب التاريخ وينبغي أن نتذكر أن التاريخ ليس ما يكتبه الناس من تمجيد الطغيان ولكن التاريخ هو ما آلت إليه الأمور، ألم تر كيف فعل ربك بالاتحاد السوفيتي الذي كان يكره الناس في هذا العصر المتأخر جداً كيف تمزق اتحادهم الإكراهي وخرَّ صريعاً من دون تدخل عدو خارجي وإنما تهدم من الداخل فأتى الله بنيانهم من القواعد و خر عليهم السقف من فوقهم وهم الذين عبدوا القوة إلى درجة القدرة على تدمير الأرض وكل الكائنات الحية عدة مرات.

إن لم تكفِ العبر الماضية على كثرتها فإن القرآن يحول التحدي إلى المستقبل من أن المستقبل كذلك سَيُفْشِل الذين يمارسون الإكراه ويحاولون أن يفرضوا الامتيازات بالقوة على الناس لأن البشر قادرون -حين يعتبرون بالتاريخ-على رفض العبودية، وقلنا إن لابويسيه يلامس هذه المواضيع في مقالته المبكرة وأن شريعة الطغيان لا تطيق الذين يفتحون أعين الناس على المعرفة التاريخية فيقول: «ما من طاغية يظن أبداً أن السلطان استتب له إلا بعد أن يصفي المأمورين بأمره من كل رجل ذي قيمة» هذا الذي أشرنا إليه حين قلنا إن الحل لا يكون بالإكراه والقتل والتصفية الجسدية وإنما بالإقناع بالرشد برفع مستوى وعي الناس لأنه هو رصيد الرشد ورصيد الديمقراطية ورصيد تعميم الرشد وتعميم اللاإكراه وتعميم الديمقراطية التي لن تدخل بلداً إلا إذا اعترف الفرقاء جميعاً بنبذ العنف في صنع السياسة وصنع الحكم.

ومن الأمور العميقة والهامة التي يلامسها لابويسيه انتباهه إلى جوهر الإنسان وأنه خلقٌ ذو طبيعة مزدوجة فحين خلق الكون كله بطبيعة واحدة وباتجاه واحد تميز الإنسان بأنه يتمتع بالاختيار.«إن الشموس والأقمار والمجرات لا قدرة لها على الاختيار فهي ذات اتجاه واحد لا قدرة لها على الخروج و لكن الإنسان ذو اتجاهين يمكن أن يسلك أحد طريقين باختياره ليس كالشمس ولا القمر ذوات اتجاه واحد، ولهذا لما يتحدث الله عن الشمس والقمر والليل والنهار والأرض في سورة الشمس يذكرها معرفة ولكن حين يذكر النفس الإنسانية يذكرها نكرة ويقول ونفس وما سواهافألهمها فجورها وتقواهاقد أفلح من زكاهاوقد خاب من دساهاكذبت ثمود بطغواها (الشمس، 7-11).

إن النفس الإنسانية هي التي تعرف بنفسها وإنها تخرج من بطون أمهاتها نكرة لا تحمل مستقبلها وإنما تختار مستقبلها فإنها تخرج من بطون أمهاتها لا تعلم شيئاً. أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً (النحل، 16) فقط تخرج وهي ملهمة أن تكون تقية أو فاجرة وأن الإنسان هو الذي يختار أحد الطريقين أفلح من زكاهاوقد خاب من دساها (الشمس، 9-10) وهديناه النجدين (البلد، 10) «بالطريقين الفجور والتقوى التدسية والتزكية يمكن أن يكون الإنسان في أحسن تقويم ويمكن أن ينتكس إلى أسفل سافلين يمكن أن يكون سيد الأشياء وهو مسخر له الكون كله سماواته وأرضه أو يتحول إلى التسخير فيصير مثل بقية الأشياء ويفقد الاختيار بفعلته، ولكن التاريخ يؤدبه ويعلمه بأسلوبه الخاص وحتماً سيتعلم ورغماً عنه سيتعلم هذا هو الذي لامسه لابويسيه حين قال وكرر القول من أن الإنسان باختياره وإرادته يتنازل عن حريته وقدرته على الاختيار وليس بإكراهه كما يخيل للنظر القاصر ولأول وهلة، لهذا لما يقول لابويسيه:

فلو أن الظفر بحريته كان يكلفه شيئاً لوقفت عن حثه … ولكن لا أطمع منه هذه الجرأة ولكن إذا كان نوال الحرية لا يقتضي إلا أن نرغب فيها وكان يكفي فيه أن نريد أكنا نرى على وجه الأرض شعباً يستفدح ثمناً لا يعدو تمنيها» هل هذا الكلام صحيح هل مجرد الرغبة والتمني يحقق حرية الاختيار ويزيل عن الإنسان سلطة الإكراه والطاغوت إنني أقول سلفاً إنه لفتح جديد وفهم مبتكر لم يسبق إليه الانتباه، وأنا أقول إن أعمق الفلسفات وأكبر الكشوفات وأهم التحليلات الذي ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون في إظهاره، وأنا أحث الشباب الذي يحبون التطلع إلى المجد والشرف أن يحدقوا جيداً في هذا الموضوع ويتتبعوا منابته وأنا أشعر بالقصور في البيان والتوضيح لأن المواضيع التي هجرت في البحث والبيان يصعب على الإنسان التوجه إلى بحثه وحتى فهمه وإذا فهمه فإنه يعجز عن تفهيمه ويُعْتَبَرُ جنوناً وخُرافة فمن هنا كان الأنبياء يُتَّهمون بالجنون، لقد قال الله كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (الذريات، 152) إن لابويسيه يلامس هذا الجنون حين يقول: إن استعادتك لإنسانيتك لا يكلفك شيئاً ولا يقتضي منك إلا أن ترغب فيه وتتمناه وتحبه فتحصل عليه مجاناً هكذا كان يقول عيسى عليه السلام:«أخذتم مجاناً وتعطونه مجاناً».

هذا الاتجاه اتجاه جديد مبتكر قديم وجديد في آن واحد وصعب تصديقه ورؤيته بوضوح إنه صحيح وصادق، هل حقاً لا تحتاج الحرية إلى الكفاح الدموي بالأموال والأرواح ويمكن تحصيلها بمجرد الرغبة فيها كأهل الجنة لهم فيها ما يشتهون ويدعون.

ليس عليهم إلا أن يشتهوا ويتمنوا ويرغبوا فيعطون ويقدَّم لهمْ إن كشف هذا في هذه الدنيا لأمر يدعو إلى العجب… ولكن ليس بعيداً عن الإنسان الذي يقول الله عنه من أنه سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض، هل في الإمكان كشف هذا الموضوع «الحل بدون خسارة لأي أحد بل يربح الجميع» هل هذا في الإمكان، هل في الإمكان توضيح إمكانه وإقناع الناس بأن ذلك ممكن وسهل أيضاً، وليس علينا إلا أن نبحث جيداً فكما تسخرت لنا الصواعق يمكن أنيتسخر الإنسان لخدمة الحق وخدمة الخير وخدمة النافع للناس جميعاً وليس لبعضهم إنه عالم مختلف كلياً عن العالم الذي كَوَّنه الفلاسفة والشعراء والذين نسميهم حكماء.

حُقّ أن يقول عيسى عليه السلام «مملكتي ليست في هذا العالم» يعني أن المملكة التي أريد ليست موجودة في هذا العالم الذي كان معاصراً له كما أنه ليس في هذا العالم الذي نعيشه نحن الآن إنه عالم قادم لا محالة ليس بقتل العدو تُحَلُّ المشكلة وإنما بتحويل العدو إلى ولي حميم فمن هنا اعتبر الناس قول عيسى عليه السلام:«أحبوا أعداءكم وباركوا لأعينكم وأحسنوا إلى الذين يسيئون إليكم» اعتبروا هذه الوصايا جنوناً مطبقاً غير معقول ولا منطقي ولا واقعي وإنما أحلام وأضعاث أحلام وخيالات وأمنيات ويوتوبيا وما شئت من ألفاظ الاستبعاد والاستهجان هل يمكن أن ننقذ هذا المنهج وهذا التصور هل يمكن أن نخرجه من الجنون إلى المعقولية الإمكانية وأنه يمكن تطبيقه عملياً ويمكن أن نرى عواقبه.

إن التطور (=الزيادة في الخلق ) و( = يخلق ما لا تعلمون) «وآيات الآفاق والأنفس» تجعلنا نرى ما لم يره من قبلنا بل يصعب على من يعيش معنا.

إن ثقافتنا وما درجنا عليه من الأمثال والأشعار والمأثورات أن من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب، ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم، وأمير شعراء هذا العصر يقول أيضاً، وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق.

وحتى الآيات القرآنية تُستخدم لتثبيت وترسيخ هذا الشيء لا أنه يمكن أن يخلق الله أحداثاً يمكن أن يظهر أساليب يتسخر فيه الأحداث للإنسان إن الله يقول : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتننا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (العنكبوت، 2-3).

ولكن إلى جانب هذا يقول أيضاً: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان(الحجر، 42) ويقول: «إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً(آلعمران، 120) ويقول في آية أخرى: لن يضرونكم إلا أذى (آلعمران، 111) على قدر التزامنا للسنن يكون ما يصيبنا ويمكن أن نُعيد ما قلناه سابقاً من أن الله والرسول وآدم والشيطان يتفقون على أن المشكلة عندنا.

يقول الله من عند أنفسكم (آلعمران، 165) ويقول الرسول: من وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ويقول آدم وزوجه: ربنا ظلمنا أنفسنا (الأعراف، 23) ولم يقولوا: خدعنا الشيطان ويقول الشيطان أيضاً: ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم  (إبراهيم، 22) أي ليس له سلطان ولا يقدر علينا إن نحن رفضنا، لعل نقطة لابويسيه تلوح أنه مهما كان سلطان الثقافة التي تري الناس أن لا قدرة لهم على شيء ويقولون «ما بيطلع بأيدنا شيء» لقد تسلط عليهم ظن، أنه بغير قوة لا يمكن أن يخرجوا من طاعته، لعلها تلوح إلى إمكانية تغيير هذه الثقافة لأنها مكتسبة.

إذا تخلصنا من الفكرة المسيطرة على ضرورة قتله أو إطاعته فقط فهناك ستظهر قارة جديدة من الحل، ليس هناك طريقان فقط كما يخيل للناس إما أن تقتله وإن لم تتمكن من ذلك ينبغي أن تكون بندقية بيده أو كما يقولون عبد مأمور لا حول له ولا قوة.وهذا ما يلمحه لابويسيه.

وهذا ما نريد أن نكشف عنه من أسلوب حل المشكلة من غير أن يتمكن أحد أن يؤذيه ويضره، هذا ما جاء به الأنبياء وتم وظهر بأجلى ما يمكن أن يكون على يد خاتم الأنبياء، حيث صنعوا المجتمع الذي ليس فيه إكراه في الدين والرأي، هذا ما يسمى في هذا العصر حرية الرأي ويسمى في القرآن الشهادة بالحق والقوامة بالقسط كونوا قوامين لله شهداء بالقسط (المائدة، 8) وفي آية أخرى كونوا قوامين بالقسط شهداء لله (النساء، 135).

إن الذي يجعل قول الحق وحرية الرأي صعباً لأنه في الواقع ليس عندنا رأي يحل المشكلة من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع، نحن في نظرنا لا بد أن يخسر أحد الأطراف ولا بد أن يزول من الوجود، إننا لا نعطي للخطأ حق الوجود.

إن هذا التعصب هو الذي حرم أهل الحق أيضاً من الوجود فلو أعطينا للخطأ حق الوجود أيضاً لصار للحق أيضاً حق الوجود.

نحن غالينا في تعصبنا للحق وحكمنا بالإعدام على الباطل، بينما الله سمح للرأي الخطأ بالوجود والبقاء، هذا معنى لا إكراه في الدين أي لا يُزَالُ الدينُ الخطأ بالإكراه والإبادة وإنما بالإقناع أي يزول زوالاً طبيعياً ويتركه الناس برضائهم هذا هو ميزة الحق وإلا يكون الحق مثل الباطل والصواب مثل الخطأ فهذا هو الوهم الذي سيطر على البشر وعلى أساسه منع حرية الرأي وعلى أساسه منع قول الحق، فمن هنا يمكن أن نقول إنه ليس عندنا رأي حتى تكون لنا حرية رأي وليس عندنا حق حتى يصير لنا قول لأن الذي عِنْدنا هو إبادة الآخرين وإزالتهم من الوجود فإذا كان هناك قول مأثور يقول: «اطلبوا الموت توهب لكم الحياة» فلا يقل عن هذا صدقاً (أعطوا للخطأ حق الحياة فسيموت موتاً طبيعياً) من غير أن يأسف عليه أحد بل سيتعافى الناس من الخطأ، إنني على أشد اليقين من صحة الفكرة وسلامة هذا القانون ولكن لا بد من بيانه وإثبات ذلك بالتجربة العملية يمكن بحث هذا الموضوع من جوانب مختلفة ومتعددة.

على الإنسان أن لا يظن أن العالم لم يبقَ فيه شيء غير قابل للكشف، هناك قارات مجهولة لا بد من كشفها لنتعافى من الأمراض المهلكة.

إن الناس كانوا يموتون بالأوبئة حين كانوا يجهلون مسببات الأمراض: الجراثيم الخفية المبثوثة في الغذاء والشراب والهواء، كانت تتحرك من غير أن يكون للإنسان إدراك لها ولا سلطان، ولكن لما كشف ذلك أوقف الأوبئة وتعافى الناس من الآلام وطالت الأعمار التي لم يكن الناس يظنون أنه يمكنهم أن يتدخلوا فيها.إن سننها صارت معروفة.

والآن يموت الناس بالحروب الأهلية والاستعمارية بالهجومات والدفاعات الخاطئة التي لا تظهر سننها، إن البلد الذي يحدث فيه حرب أهلية لا يقال عنه أنه قضاء وقدر من الله كما كانوا يقولون عن الأمراض الجسدية ولكن الآن حين يصاب بلد ما بالوباء يقال عنه أنه بلد قذر جاهل لا أنه قضاء وقدر، هل يمكن أن ننقل هذا الذي صار واضحاً إلى حد ما أقول إلى حدٍ ما لأن كثيراً من الناس لم يفهموا ذلك أيضاً جيداً فإذا نقلنا المرض الجسدي والمشكلات التي كانت تفرض علينا ضريبة الآلام إلى المرض الفكري النفسي فيمكن أن نقول بنفس القانون أن البلد الذي تحصل فيه حروب أهلية مدمرة لا نقول أنه قضاء وقدر وإنما بلد أيضاً ملوث فكرياً وأن الجراثيم الفكرية هي التي تحدث هذه الآلام والأحزان من فقدان الأموال والأرواح بشكل مأساوي.

إن هناك بلداناً وبشراً أمثالنا حلوا مشكلات الأمراض المتوطنة وتعافى الناس منها، كذلك هناك بلدان تخلصوا من الحروب الأهلية بل هناك في مستويات أكبر يتحدون بدون فتوحات عسكرية بعلم ومعرفة ليس على أساس سيطرة وهيمنة وإنما على أساس إقناع يربح الجميع ولا يخسر أحد منهم شيئاً لا أرضاً ولا مالاً ولا زعامة وإنما يبقى لهم ما عندهم ويزاد أيضاً ونحن في العالم العربي يمكن أن نفعل هذا ولكن لم نتخلص بعد من الحنين والاعتماد على العنف والقوة فهذا الذي يمنع من التفكير في القارات الأخرى التي ينبغي أن نثبت أننا بلغنا الرشد بكشف الأساليب التي لا يخسر فيها أحد ويربح الجميع، فإذا كشفنا هذا يمكن أن نزيل الأحقاد التي تأكل الأكباد وأن نزيل الغل والحقد والكراهية من القلوب وهذا واجب الذين بلغوا الرشد في الفكر والذين تخلصوا من إرث الأباء الذين لم يكن ليتمكنوا من رؤية حل للمشكلة من دون قتل الباطل ومن دون إزالة الآخر من الوجود، علينا أن نواجه هذه المشكلات بكل الجدية والوضوح والصراحة من غير أن يبقى في قلوبنا زوايا ميتة تحتفظ بالجراثيم العضوية والفكرية والعقد النفسية والأفكار المنسوخة التي فات أوانها.

وربما أحاول أن أشير ولو إشارة خفيفة وموجزة جداً بأن سلامة وصحة النفس صار أمراً ملحاً فالأنبياء لم يأتوا ليعلموا الناس الصحة الجسدية ولكن الأنبياء جميعاً جاءوا ليعلموا الناس الصحة النفسية الفكرية القلبية، فلهذا حين يتحدث القرآن عن الصحة أو القلب السليم ليس المراد السليم بعضلاته القلبية وإنما مفاهيمه الفكرية، لهذا لما يقول:يوم لا ينفع مال ولا بنونإلا من أتى الله بقلب سليم (الشعراء، 88) واليوم علينا أن نكشف القلب السليم من الغل من الكراهية من الأحقاد، إن الإنسان حين يكشف الحلول لا يعود يحمل حقداً ولا كراهية بل ينظر إلى الأمور نظراً سننياً كما ننظر إلى الصحة الجسدية

وأرى أنه يجب علي هنا أن أضيف من أنه لا بد أن نفرق بين المرض والمريض سواء في مستوى الفكر أو مستوى الجسد فنحن في مستوى المرض الجسدي يمكن أن نتصور إمكان الفصل بين المرض والمريض في المرض الجسدي ولا سيما حيث صرنا نعرف سنن انتقال الأمراض، فلهذا يمكن أن نحب المريض ونتفانى في خدمته ومساعدته ونكره مرضه ونحارب مرضه بكل ما نملك من قدرات فهذا واضح في الأمراض الجسدية وخاصة حين يكون المريض من الأحباب.

ولكن تصور إمكان الفصل بين المرض والمريض في مرض الأفكار والأنفس والقلوب، يصعب علينا التمكن من فصل المرض عن المريض وهذا يجعلنا نخطئ خطأ مأساوياً حين نصير نكره المريض في هذه الحالة، لهذا يكون حكمنا عليه بالموت والإبادة، لا أن نفكر كيف نعافيه ونخلصه من المرض.

ألا من كان له أذنان للسمع فليسمع مثلما كان المسيح عليه السلام يقول في الإنجيل:«من كان له أذنان فليسمع».

في الأمراض الفكرية يمكن أيضاً الفصل بين المريض والمرض فنكره المرض الفكري ونحب المصاب بالمرض الفكري ونبذل كل الجهد بالحب والخدمة والتعاون معه في تخليصه من المرض وحين نفهم هذا يمكن أن نفهم كلمة عيسى عليه السلام:«أحبوا أعداءكم»، هذا الحب هو الذي تعجز عنه المملكة الإنسانية التي نعيشها نحن البشر جميعاً إلى الآن، إن علاجنا للمريض فكرياً بكراهيتة وبالحقد عليه وبإعلان الحرب عليه حرب لا هوادة فيه… أين الراشدون؟ أين أطباء القلوب؟ أين الذين كشفوا سنن سلامة تصور الإنسان للإنسان؟ إن الإنسان لم يخلق شريراً وطاغوتاً وإنما نحن الذين صنعناه، هذه النفس خلقها الله قابلة للفجور والتقوى وقابلة للتدسية وللتزكية ولكن نحن الذين نجعلها مزكاة أو مدساة فاجرة أو تقية أَلا مَنْ كان له أذن للسمع فليسمع فإن حب الأعداء ليس جنوناً ولا مستحيلاً لأن هؤلاء الذين نعتبرهم أعداء «هم ونحن» مليئون بالكراهية والحقد، كأنهم خلقوا سيئين بالطبع فإذا فهمنا هذا يزول الغل والحقد من قلوبنا عليهم ومن قلوبهم علينا، فإذا كان عيسى عليه السلام يقول للحواريين «احبوا أعداءكم» فإن الله يقول عن حواريي محمد:ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم (آل عمران، 119).

إن هذا الموضوع شيق وجذاب يبعث في النفوس حب الاستطلاع ومحاولة الكشف والتجارب ليصير الموضوع علمياً ومخبرياً وقابلاً للتطبيق، إن إعادة الثقة إلى الناس بأن الناس يمكن أن يوثق بهم شيء كبير، إن الذين لا يثقون من إمكان تغيير النفوس والقلوب والأفكار لا يمكن أن يبذلوا أي جهد، إن كلمات الأنبياء تصير عميقة وواضحة ومستقبلية حين ندخل إلى هذا العالم عالم الحب حب الخير للإنسان الآخر كما تحب الخير لنفسك، فمن هنا يقول عيسى عليه السلام للذي سأله: كم مرة يخطئ إلي صاحبي فأغفر له؟ قال له عيسى عليه السلام: لا أقول سبع مرات وإنما أقول سبعين مرة سبع مرات هذا هو اليقين من أن الإنسان مهما كان فاقداً الثقة بالإنسان فإنه يضطر أن تعود إليه الثقة بالإنسان، الثقة التي تفتقدها مملكة العالم الذي نعيش فيه فمن هنا أيضاً كلمة الإنجيل «إذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون»إذا كنا نفتقد في القيادة الفكرية الثقافية الدعوة إلى مثل هذا التصور أو على الأقل الأمل فيه في المستقبل بحيث لا يستبعد استبعاداً مطلقاً وأن هذا الإنسان أو هذه المملكة غير ممكنة في هذا العالم إذا كنا نتمكن من فهم قدرة المجتمع على صياغة الإنسان إلى درجة حمله على الانتحار، فما هو هذا الذي لا يمكن أن نصوغ عليه الإنسان إنني صرت أرى إمكانه يقيناً فهذا الذي كان يقبل أن يُقدَّم قرباناً لمثل أعلى أو يقبل أن يقدم الإنسان قرباناً يرضي الطرفين، هذا يقدم لنا نموذجا من قدرة الإنسان على التوجه إلى التزكية والتدسية إلى درجة الفناء والتماهي في الاتجاهين فما علينا إلا أن نكشف السنة لتحويله إلى الجهة الإيجابية والتاريخ وتجارب الأمم تدعم هذا الاتجاه والعواقب تغري مهما تجاهلنا أو تنكبنا الآن التوجه إلى هذا الوعي لا بد من الرؤية الواضحة لقدرات الإنسان الكامنة بالقوة والمتحققة بالفعل وأن ما يحدث بالصدفة يمكن تحويله إلى سنة وقانون، لا بد أيضاً من إظهار البدائل عن الواقع الذي سد علينا منافذ الفكر والقدرة على الرؤية.

إن رغبة الناس في تبرير الواقع وبحثهم المتفاني على تنزيه الذات وتشويه الحقيقة رغبة جامحة يمكن أن يخدع الناظر لأول وهلة فلهذا نبحث عن كبش الفداء وتبرئة الذات وتلمس الغدر عن المهانات التي يعيشها البشر هذا الواقع عقبة يحرم الإنسان من البحث عن بديل بل يحرمه من أرضية لإمكان تصور بديل، لهذا علينا أن نبذل كل الجهد لجعل إعادة النظر في المنطلقات ممكناً فمن هنا تظهر أهمية هذه المقالة في فلسفة السياسة والاجتماع، إنها تشير إلى هذا الاتجاه المستبعد إلى الآن وعلى قدر ترسخ اعتراف الإنسان بإمكان البديل يبدأ البحث عن الحلول الأخرى التي تقطع تسلسل الخطأ وتوقف إعادة إنتاج الخطأ هذا الخطأ الفاضح هو الذي لا يملك لابويسيه نفسه من العجب والاندهاش كيف البشر لا يفطنون ولا ينتبهون وبعد دهشته وحيرته يقول: «كأن البشر إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته».

إن تفهم هذا الموضوع هو الذي يجعلنا نفهم النداء بدعوة الناس إلى التنبه إلى أن بغيهم على أنفسهم.

يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم (يونس، 23) وكذلك لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (فاطر، 43) فمن هنا يمكن أن نفهم السبب العميق للسكوت المطبق وعدم الاعتراض على حق «الفيتو»، إن السبب هو ما في قلوب ضحاياه من تمني أن يكون لهم هذا الحق، لا أن يلغى هذا الحق في حياة الناس، وبهذا لا يكون هدف الناس تغيير النظام وإنما الهدف تغيير مواقع الناس من هذا النظام نظام الاستكبار والاستضعاف فالمستضعفون والمستكبرون لا قدرة لهم على تصور زوال الواقع المؤلم من ظاهرة الاستكبار والاستضعاف حتى الفناء والمستضعف يتلمظ أن يحل محل المستكبر فالأطراف جميعاً من ملة واحدة ملة إبقاء الاستكبار والاستضعاف.

أما ملة الأنبياء التي ترى عالماً آخر خالياً من الاستكبار والاستضعاف فهذا ما اعْتَبَرَتْهُ ملة الأقوام مستحيلاً وكأن العالم كله لا يزال على استبعاد عالم خال من الاستكبار والاستضعاف من المستعمر والمستعمر من المستغِل والمستغَل لأن العالم لم يرَ مثل هذا المجتمع في التاريخ كله ظالم ومظلوم وهذا ما يؤكد شاعر الحكمة والفلسفة لما يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

مثل هذه الأقوال السائرة على ألسنة الناس ترسخ في لا وعي الناس وتوحى إليهم استحالة العدالة بين الناس، ربما نوافقهم على شيء من الاستحالة على مستوى الصغائر.

ولكن لما بيانات اليونسكو تنشر نظام توزيع الثروة في العالم من أن 20%من سكان العالم يستهلكون 80% من إنتاج العالم وأن العشرين في المائة الأفقر لا يناله إلا 1.4% من إنتاج العالم فهذا لا يمكن أن يوزن لا بميزان الجواهر ولا بميزان القبان وأن 60% الباقي من سكان العالم ينالهم 18.6% من إنتاج العالم.

و لكن هذا الإحصاء العالمي للفقراء والأغنياء ينطبق أيضاً على كل دولة بحد ذاتها في أن 80% من ثروة الأمة يتمتع بها 20% من سكان نفس أي بلد وهذا يدل على مقدار تغلغل ثقافة الإمبريالية عالمياً وهذا ما يشير إليه القرآن في أن سبب فساد العالم المترفون الذين جعلوا أموال العالم جميعاً وأموال كل بلد دولة بين الأغنياء منهم وهذا التوزيع السيء يغطى ويموه بذكر نسبة الدخل المتوسط ولا يذكرون أن 80% من الدخل ل20% من السكان وأن العشرين % الأفقر لا ينالهم إلا 1.4%.

هذه إحصاءات عالمية ولكن كنت مرة سألت عاملاً في الولايات المتحدة من المهاجرين عن عمله هناك فكان مما قال لي من أنه يعمل في شركة عمالها ومصانعها ومواد خامها في جنوب شرق آسيا وأن السّلعة لا تكلف إلا عشر سنتات كل كلفتها المادة الخام والأيدي العاملة الرخيصة هناك وحين تصل السلعة إلى السوق يبيعونها بستة دولارات أي قريب من نفس النسبة التي في الإحصاءات العامة لليونسكو ففي أي ميزان يمكن قبول أن أصحاب المادة الخام والأيدي العاملة لا يصل إليهم إلا واحد من ستين وأن المترفون في الأرض يأخذون ربحاً 60/59 هذا لا يحتاج إلى معرفة دقيقة ولكن الذين وصفهم القرآن الذين سيطر عليهم الاستلاب لأموال الناس وصفهم الله ب كالذي يتخبطه الشيطان من المس.

فلهذا لا يمكن حل المشكلة إلا بوعي الناس وليس بالمظاهرات العفوية التي تتحول إلى إشعال النار في السيارات والمباني فأولئك يتخبطهم الشيطان من حب المال وهؤلاء يتخبطهم الحقد والبغض فيكون أسلوب مقاومتهم بفرض حالة الطوارئ واستدعاء الجيش فهذا ما يحدث في البلدان المتخلفة ولكن هذا نفسه ما حدث في ولاية كاليفورنيا في لوس أنجلوس مدينة هولي وود في حادثة ضرب الشرطة للسائق الأسود إن المشكلة لا تحل بالغضب والتدمير.

إن بلالاً رضي الله عنه لم يكن مارس شيئاً من هذا كله ولكن كان يقول ما أنتم عليه خطأ ونحن نريد أن نصنع مجتمعاً يتساوى فيه الناس أمام القانون ومجتمعاً ليس فيه «حق الفيتو أي اغتيال القانون» ونبذه وراء الظهر لقد حق للابويسيه أن يتعجب ولو كان حياً لكان عجبه أشد من صمت العالم وكان سيتعجب من مثقفي القرن العشرين الذين لا يدلّون معاصريهم بالأخذ بيدهم ليعلموهم كيف يمكنهم أن يصلوا إلى حقهم من العدل بين الناس بسهولة ويسر فهذا الذي جعل مقال لابويسيه «يحظى إلى الآن بانتباه منقطع النظير من جانب المشتغلين بالفلسفة السياسية والاجتماع» وهذا الذي يجعل مصداقية لقول لابويسيه «حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته» ونحن لا بد أن نفهم هذا وأن الأنبياء جميعاً جاءوا بهذا وهذا هو مضمون التوحيد الواحد في جميع الأديان والقرآن يعرض هذا الموضوع على أساس رسالة الأنبياء جميعاًولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل، 36)إزالته ليس بقتله بل باجتنابه في المعصية فقط حتى لا حرج في طاعته في المعروف إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية الخالق لأي مخلوق هذا هو التوحيد والتنفيذ والعملي من غير خسارة ونبي الإسلام جعل هذا واقعاً عملياً يمكن دراسة تاريخه يومياً من يوم غار حراء ونزول اقرأ إلى يوم حجة الوداع الذي ودع فيه الرسول العالم وختم القرآن بالآية المتوهجة:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة، 3) سنكتشف هذه السنن المجانية التي يقول عنها لابويسيه «يرفضون الكسب الجميل لفرط سهولته» لا يخسر أحد ويربح الجميع حتى المستكبر يربح الراحة والأمن لأنه يعيش في رعب دائم وهذا شقاء وليس أمناً وهكذا صنع الرسول  المجتمع السواء الذي لا مستكبر فيه ولا مستضعف من غير أن يُقتل شخصٌ واحد من المعارضين وقُتِلَ شخصان فقط من المسلمين، لم يحدث في التاريخ الماضي أن قامت أمة مجاناً بهذا الكسب الجميل في قلة خسائره وعظم فوائده وهذا ما جعل النزاع قليلة التكاليف إلى درجة أن الناس لم يمكنهم فهم هذا الموضوع على أساس سنن وقوانين هذا الأسلوب في التفسير هو الذي كان سبباً في انقطاع هذا النموذج النبوي في إقامة المجتمع والعودة إلى شريعة الغاب بينما نموذج النبوة قليلة التكاليف كثيرة الفوائد من الجهود القليلة التي يمكن للناس أن يكسبوه، لم يكن في الإمكان أن يُفْهَمَ سابقاً إلا على أساس خارق وخصوصيات للرسول بينما هي سنة إلهية، هذا ما بدأ الناس يدركونه الآن وبدأ إمكان فهم الدين وما كان يفسر على أنه خوارق صار يمكن فهمه على أساس سنة وقانون قابل للتكرار، وإذا تمكنا من فهم الأمور على هذا الأساس يمكن جعل الخوارق سننية حتى يمكن جعل مساعدة الملائكة ليس أمراً خارقاً وإنما نحن لما نهيئ سننه فإن الملائكة والعواقب الضخمة نتيجة المواقف السلبية تجاه الطاغية ينتج عنها فوائد لا يمكن أن تنتج عن المواقف العنيفةالتي نظنها إيجابية أو لا تحل المشكلات إلا بها، يمكن أن نلاحظ أن بدء العصر الكلاسيكي كان يمثله مفكرون كبار سننيون إنسانيون أمثال صاحب هذه المقالة وكانت نظرتهم التي أخرجتهم من العصور الوسطى والظلام والخوارق والسحر والتفسيرات غير السننية يمكن أن تتطور.ولكن حصل عندهم تراجع وهذا التراجع وعدم قدرتهم على المتابعة وخاصة بدء التراجع بعد الثورة الفرنسية التي تعتبر بدءاً للحداثة ولكن هذه الحداثة كانت تراجعاً وعودة إلى الاستكبار وعدم الاعتراف بإزالة الامتيازات وأن المساواة إنما بين الأوربيين أو الإنسان الأبيض، وحقوق الإنسان بضاعة محلية غير قابلة للتصدير، هذه العودة إلى الامتيازات هي ما تعانيه الحداثة وما بعد الحداثة لأن عصر الأنوار تراجع إلى الظلام ولا يزال يتخبط في الظلام.

وربما لا نجد مثلاً يضيء هذا التراجع إلا التراجع الذي حصل للعالم الإسلامي حين فقدوا الرشد وانتكسوا إلى الامتيازات بحيث لا يطبق القانون إلا على الضعفاء وليس على أصحاب الامتيازات هذا هو حق الفيتو وهذا هو العودة إلى الشرك الأكبر الذي جاء الأنبياء جميعاً لإزالته من الوجود واعتبروه محور الحركة الإنسانية حين اعتبروا الشرك هو الذنب الذي لا يغتفر وأن التوحيد إذا خلص لا تضر معه معصية وإذا انتقض لا تنفع معه الطاعات.

وحق الفيتو نكسة عن ثورة حقوق الإنسان ونكسة عن الديمقراطيات، إن العالم يعيش في مخاض كبير الآن، إن الحضارة الغربية إن لم تقبل إسقاط حق الفيتو وتعميم الديمقراطية إنها ستسقط هي وبهذا التمسك بحق النقض يسقطون أنفسهم وهذا معنى الآية التي سبق أن ذكرناها وهي يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم (يونس، 23).

و إذا سقطوا فإن من سيحل محلهم سيسقط أيضاً كما سقطت روما وبريطانيا وكذلك ستسقط أمريكا إنها ليست بدعاً من الأمم إنها سيأتي عليها قانون الله.

أن أهل الظلم سيهلكون وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (القصص، 59) ستسقط لأنها ضد التاريخ وضد اتجاه النمو الإنساني والذي يطيل المخاض أن خصوم أمريكا يحملون نفس مرض أمريكا وأنهم يريدون أن يحلوا محلها، لا أن يُغيروا نظام العالم، فالذي يعارضهم يريد أن يصير له حق الفيتو، حق الربوبية العليا، وقديماً قال فرعون أنا ربكم الأعلى(النازعات، 24)وما علمت لكم من إله غيري، لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين (الشعراء، 29) وإن لم تعملوا بإرشادي وإذني فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى (طه، 71).

فالذي يعارض من نفس الطينة وليس شيئاً متطوراً وعلينا أن نظل نذكر هذا ونكرره إلى درجة الإملال لأن هذا السكوت المطبق عن المرض يطيل بقاءه ويطيل المعاناة الإنسانية ويؤخر موعد العدالة لا بد من أن يتعاون الآمرون بالقسط من الناس جميعاً في مساعدة الجميع، «المستكبرين والمستضعفين» للخروج من مأزق الاستكبار الذي يعيد إنتاج نفسه.

إن الميلاد الجديد لم يعد بعيداً، إنه ليس يوتوبيا ولا مثاليات ولا مستحيلات بل هو شيء صار قريباً.

إن الوحدة الأوربية نموذج فواح حيث ليس فيه حق الفيتو وإنما يتحدون على كلمة السواء ويمكن أن يكون نواة لوحدة عالمية وأما الأمم المتحدة فلا يمكن أن تكون نواة لوحدة عالمية بل إنها ضدها.

ونحن العرب علينا فوراً أن نختصر التاريخ ولا نكرر الأخطاء، يكفي نجاح واحد لتثبت السنة والقانون وينبغي أن نذكّر العرب بهذا الذي يحدث أمامهم من الاتحاد الأوربي وتخليهم عن العنف، لأن الديمقراطية لن تدخل عالماً يعتمدون فيه على العنف لا بد أن يعلن جميع الأطراف عن إيمان بتخليهم عن العنف ولجوئهم إلى الإقناع وعلينا أن نتذكر كيف أن اتحاد وتعاون بلدين عربيين لحظة من الزمن في عام 73 كيف رفع قيمة العرب في عيون الناس وكيف دهش العالم جميعاً واضطر العرب أن يدعموا هذا التعاون وكيف دهش العالم من الحدث الذي لم يكونوا يتوقعونه وكيف ارتفع أسعار سلعهم حين ارتفع للحظة واحدة وعيهم وظهر تعاونهم.

كذلك على العرب أن يتذكروا هذا ولا ينسوه كما ينبغي أن يتذكروا جيداً بالمقابل كيف أن بلدين عربيين لما تنازعا كيف تمزق العرب وتشتتوا وكيف ذهبت ريحهم وحتى بعد مرور سنين طويلة لا قدرة لهم على أن يتقابلوا وجهاً لوجه.

يا مثقفون يا مفكرون يا من لهم أعين لمراقبة الأحداث وما يحدث في العالم لا تقفوا متبلدين حيارى ارفعوا صوتكم للتفاهم وأزيلوا من أنفسكم سحر البطل الذي سيوحد العالم العربي بالعنف، لقد فات أوانه من زمن بعيد من أيام محمد علي باشا وابنه إبراهيم، علينا أن نفهم التاريخ الذي هو مرجع الله رب العالمين في إيقاظ البشر إنه يأمرنا بالاعتبار «فاعتبروا يا أولى الأبصار».

ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد  إرم ذات العماد  التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد  وفرعون ذي الأوتاد  الذين طغوا في البلاد  فأكثروا فيها الفساد  فصب عليهم ربك سوط عذاب  إن ربك لبالمرصاد (الفجر، 6-14) إنه سيكرر في المستقبل ما حدث في الماضي.

أليس علينا أن نقول بنفس الأسلوب: ألم ترَ كيف فعل ربك بهتلر الذي فتح من روسيا إلى العالم العربي ونابليون الذي ملأ اسمه التاريخ والاتحاد السوفيتي الذي كان يمكن بقوته أن يدمر الأرض كلها عدة مرات كثيرة، فإذا كان هذا في الذين سقطوا بنفس الأسلوب وبنفس التوجه يمكن أن ننظر إلى النجاحات التي حدثت في العالم.

ألم ترَ كيف فعل ربك باليابان الذين يشبهون قوم يونس كيف تحرروا من عبودية القوة والعنف ووسائله وكيف تحرروا بدون حرب تحريرية وبدون ملايين الشهداء، كيف صاروا قوة عظمى في العالم مع السبعة الكبار وإن كان لا يحمل رسالة وإنما دخل إلى مذهب الاستكبار بطريق آخر إن لابويسيه لما يقول: «إن نوال الحرية لا يقتضي إلا أن نرغب فيها ويكفي فيه أن نريد».

إن التعاون العربي لا يقتضي منا إلا أن نرغب بوعي وفهم عميق فيه ويكفي أن نريد ولكن أقول لكم: إن هذه الرغبة وهذه الإرادة وهذه الأمنية لا تصير واقعاً إلا إذا أخرجنا من قلوبنا الأفكار العتيقة المسيطرة علينا والتي ترسخت فينا، ألا وهو الحنين لتحقيق ذلك بالعنف، بالبطل المنتظر الذي سيوحد العرب بإزالة الفساد والمفسدين بحد السيف الصارم، ما هكذا يا عرب تورد الإبل ولا هكذا تحل المشكلات في عالم اليوم، اخرجوا من العالم المنسوخ الذي فات أوانه، إن هذا الحنين إلى القوة من هذا النوع هو المرض ذاته الذي ترسخ في ثنايا قلوبنا، علينا أن نقتلعها من جذورها من دون أن تبقى لها باقية لأنها الجرثوم المميت لأنه الحقد الذي يعمي الأبصار الأضغان التي تسد منافذ الفهم، إن هذه الأغلال التي في القلوب هي التي تعيق حركتنا  ولا تجعل في قلوبنا غلاً  (الحشر، 10) ولننزع من قلوبنا هذه الأغلال التي تحول دون تلاقينا ولندخل في جنة الدنيا.

إن من يفهم الأمور لا يبقى في قلبه غلاً إن الغل من الجهل والعجز عن معرفة حل المشكلات فالذي يعرف حل المشكلة لا يَبْقَى غلٌ في قلبه، فهنا يتعافى القلب ويحل فيه الأمن والسلام ويغير العالم بالأمانة والسلام.

إذا أزلنا من قلوبنا الغل والحقد والكراهية التي بيننا إلى درجة أننا نخاف من بعضنا أكثر مما نخاف من عدونا، فكم المرض الذي فينا عميق وخطير لأن مرضنا حين برز في حرب الخليج الثانية بعنفوانه نسينا عداوة إسرائيل وأمريكا والتجأنا إلى كنفهم، علينا أن نفهم وسنفهم رغماً عنا لأن أستاذنا التاريخ لا يبالي بعواطفنا كالآباء الجاهلين.

فإن نظفت قلوبنا، فإن قلوبنا ستكون مستعدة لتستقبل الأمنيات الجميلة، أمنية حل المشكلات من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع ويزدادون ربحاً مجاناً للجميع، علينا أن نتمكن من تنظيف قلوبنا وأعماق ثقافتنا التي تشربت، أن ليس هناك من طريق إلا الذبح فإذا غيرنا ما بأنفسنا فستتغير حتماً مشكلاتنا، يمكن أن نحل المشكلة من غير أن يخسر أحد شيئاً لا أرضاً ولا مالاً ولا زعامةً وإنما يربح الجميع، علينا أن نفتح عقل الإنسان العربي لنضع فيه هذه البذرة، هذه الأمنية التي يمكن أن لا يخجل منها ولا أن يعتبر النطق بها جريمة منكرة، علينا أن نؤمن إيماناً عميقاً ونفهم فهماً لا غموض فيه ونصير متمكنين من نقلها إلى الإنسان العادي المرعوب المحرم عليه أن يفتح فاه لينطق بكلمة، هو ليس محرماً أن ينطق ولكن أقنعناه أنه محرم عليه أن ينطق لأننا لم ندله على حل للمشكلة بغير قوة وعنف، فهذا الذي مزق الإنسان العربي والمسلم، وحكم عليه بالذلة المسكنة وحرّم عليه النطق، لأنه مفرغ القلب والدماغ من أن يكون هناك حل بغير عنف وإذا لم تتمكن من القوة والعنف فليس أمامك إلا أن تقبل العبودية وأن تكون مثل البندقية يستخدمك كل من يملك القوة قوة العضلات وقوة المادة ولم ندخل بعد إلى قوة الفكر والفهم والعلم، لأن معركة الفكر والفهم والعلم لا يدخل فيها قوة اليد والعضل، فمن هنا ينبغي أن نعلم معنى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»أن معركة الفكر والعلم والفهم لا إكراه فيه وإنما فيه الإقناع والأساليب العلمية والفهمية وليس أساليب العضلات والقنابل، لهذا حتى بعد أن تنتصر عليه في ميدان العضل لا سلطان لك على عالم فكره ولا يجوز لك أن تقول غَيِّر فهمك وإلا قتلتك.

إن الله حمى عالم الأفكار من أن يدخل فيها العنف والإكراه والعضلات، لأن عالم الأفكار عالم خاص لا يجدي فيه العضلات.ولكن يمكن أيضاً أن نفهم أن العالم جميعاً، لا يبالي بعالم الأفكار وإنما اهتمامه بعالم العضلات، فمن هنا يمكن أن نقول: إلى الآن البشرية لم تعترف بعالم الأفكار وكل همها في عالم العضلات لهذا الفرق بين المؤمن والكافر هو في هذا المجال، فالذي يؤمن بعضلات الإنسان لا بفكره فهو الكافر بالإنسان قبل أن يكفر بالله الذي ميز الإنسان بفكره لا بعضلاته، لأن كثيراً من الحيوانات أقوى عضلة من الإنسان ولكن وحده هو الكائن القادر على الفهم والتفهيم بالحوار والاعتبار بالتاريخ وأحداث الماضي لهذا القرآن لما كان مليئاً بأمر الناس بالاعتبار بالأمم التي خلت لأن التاريخ مصدر معرفة كيف هلك من هلك من الأمم، والأمم كانت تهلك لأنها ظالمة والله يقول والكافرون هم الظالمون(البقرة، 254)، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (القصص، 59).

و التاريخ حديث العهد، لأن التاريخ الحقيقي إنما بدأ من وقت بدء الكتابة وما قبله قالوا عنه «ما قبل التاريخ» لأن الخبرات كانت تضيع وتنسى، ولكن الكتابة هي التي حفظت التاريخ ولكن تطور وعي الإنسان وأساليب تأويل الأحداث كشف للناس تاريخ الإنسان قبل الكتابة وبعد الكتابة، لهذا أرجعنا الله إلى الأرض لنسير فيها وننظر كيف بدأ الخلق، إن الأنبياء هم الذين قرأوا التاريخ والكتب السماوية هي التي فتحت باب المستقبل، فإن معرفة الماضي هو الذي سيعلم الإنسان ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

إن البشر المقيدين بالماضي لا يدركون التغيرات التي حدثت ولا يمكنهم تصور التغيرات التي ستحدث في المستقبل.

إن العالم مدفوع رغماً عنه إلى الاعتراف بعقل الإنسان لا بعضلاته، فإن القنبلة النووية اضطرت الإنسان إلى أن يتوقف ليفكر، لأن العضلة إن لم يكن يتحكم فيها العقل والفهم والعلم والفكر فسيحطم اليد الدماغ الناعم اللين الهش المحمي بالجمجمة.

إن القنبلة النووية ألغت الحرب بين الكبار، فلن يتمكنوا من الدخول فيه، وإنما يدخلون إلى عالم التفاهم، وإمكانية العيش جميعاً بدون أن يدمر بعضهم بعضاً ولكن الذين لم يصلوا إلى هذا لا يفهمون هذا الفهم، لهذا يسعون إلى أن يكبروا عضلاتهم لا أدمغتهم، إلا أن مثل اليابان والاتحاد السوفيتي قدما المثل السلبي والإيجابي من أن السلاح لا يحمي من يملكه ولا يذل من يحرم منه، لأن العز والذل ليس في العضلات، اليابان استسلم بدون قيد أو شرط، ومحرم عليه التسلح ولكن استطاع أن يقف أمام العالم على قدم المساواة مع السبعة الكبار، وكذلك الاتحاد السوفيتي الذي ملك من القوة ما يمكن أن يدمر الأرض عدة مرات تمزق إرباً ولم تنفعه ألهته التي عبدها وتحطم من الداخل وليس من عدو خارجي، ولكن العالم الذي لم يعترف بعد بالفكر ولا يزال الحكم فيه للقوة لا قدرة له على تأمل هذه الأحداث الجديدة التي حدثت، لأنها حديثة العهد والسيطرة للفكر القديم الذي نُسِخَ، ولكن لم نفهم بعد أنه نُسِخَ والناس عليهم أن تأتيهم أمثلة كثيرة حتى يرغمهم أن يغيروا مسلماتهم.

إن إيمان الناس بأن الشمس لا تدور حولنا أخذ وقتاً طويلاً ولا عجب أيضاً أن يأخذ وقتاً طويلاً لفهم أن عقل الإنسان وفهمه لا يدور حول القوة المادية، بل القوة المادية كلها بما فيها ما في السماوات والأرض مسخرة لفهم الإنسان.

أنا لا قدرة لي على التأثير في الفكر إلا إلى درجة محدودة جداً وعند عدد قليل من الناس، فمن هنا لما أقول أنا على مذهب ابن آدم وأقول كما قال الرسول كن كابن آدم الذي كفر بقوة عضلة اليد وآمن بفكر الإنسان فهذه القصة رمز أن الإنسان ليس بقوة يده لهذا قال ابن آدم الذي كفر بعضلة الإنسان كوسيلة لتفضيله وآمن بفكر الإنسان وقال: أنا خرجت من صراع العضلات أنا صرت خلقاً آخر قال هذا لأخيه الذي سيطر عليه الإيمان بالعضلات، لهذا الناس جميعاً العالم بما فيه الأمم المتحدة ومجلس الأمن على مذهب المؤمن بالعضلات والكافر بفكر الإنسان وكذلك الأسرة مبنية على العضلات فالذي يفقد القوة في الأسرة يستضعف أيضاً، إن الثقافة ثقافة الكفر بالفكر والإيمان بالعضلات والسلاح ونحن لن ندخل عالم «الإيمان بقوة الفكر» ولن نخرج من عالم «الكفر بقوة الفكر» إلا إذا آمنا بالقطيعة بين عالم الفكر وعالم العضلات عالم حل المشكلات بالفهم وعالم حل المشكلات بالعنف.

وأهمية ما لمع في ذهن لابويسيه أنه بدأ يظهر له إمكان حل المشكلة بدون أن يكلف الإنسان شيئاً مجرد تغير فكره يحل المشكلة تلقائياً بدون دماء وبدون قوات مسلحة بمجرد مجيء الفكر الذي يحل المشكلة من غير أن يخسر أحد شيئاً ويربح الجميع، هذا الفكر بمجرد مجيئه وبروزه وصيرورته مفهوماً يموت الباطل والخطأ، يموت الخطأ و لا يموت الإنسان الخاطئ بل يموت الخطأ، عندها الإنسان الخاطئ سيشعر بالراحة وسيشعر بالراحة كل الأطراف بالراحة ولن نطارد الهارب ولن نعاقب على ما سبق من التاريخ الماضي لأننا سنبدأ تاريخاً جديداً ونقضي على ثقافة المستكبر والمستضعف ليظهر عالم جديد يذهب فيه الزيد جفاء ويمكث فيه ما ينفع الناس، أنا لا أشعر أني أدخلت الناس بهذا الذي أكتبه في عالم ثقافي جديد لأن خبرتي من نصف قرن تعلمني أن الأفكار تتدعم بالكوارث لأن الكوارث هي التي توقظ الناس، إن الحربين العالميتين هي القارة الحديثة والعتيقة في آن واحد يحدث فيها شيء جديد لم يحدث مثله من قبل في العالم إنهم يتحدون على الفكر والفهم وليس على أساس أنا قوي وأنت ضعيف ولكن الذين أنهكهم الصراع لا قدرة لهم على تأمل هذا الحدث إن الاتحاد الأوربي مثل رائع عجيب لفهم فكر لابويسيه في حل المشكلة بالفهم والرغبة في الحل الأفضل الذي لا يخسر فيه أحد شيئاً ويربح الجميع هذا حدث جديد وعميق وابتكار وليس سحر ولا خوارق وإنما إيمان بالفكر الإنساني الذي يمكن أن يحل المشكلات بدون خسائر ودماء وقتال إنه مثل كبير سنضطر أن نفكر فيه بعقولنا لا بعضلاتنا وحين يعجز الناس عن حل المشكلات بالعضلات لعلهم سيشعرون ولو فيما بين أنفسهم لأنهم إلى الآن يخجلون من إعلان حل المشكلات بدون عنف ولكن حين يصير العجز عن العنف ثقيل الوطأة سيفكر الناس بأدمغتهم في أساليب لحل المشكلات بالعدل وبكلمة السواء وبالإحسان والبر والأخذ بيد المقصر أيضاً بالإحسان.

إن الفهم يكون في فهم الإنسان وحين يسلم بأنه يمكن حل المشكلات بالفهم سيخرج من قلبه الكراهية والبغضاء وبعد ذلك لن ينطق لسانه بالحقد والغيظ ولن يستخدم يده في حل المشكلات.

يا عرب هب أنكم لا قدرة لكم على حب الآخرين ولكن من الذي تستطيعوا أن تثقوا به بعد أن لجأتم إلى الإنسان الذي ترونه العدو اللدود لينصركم على أخيكم الشقيق فهل بقي عندنا بعد ذلك من نثق به، إننا فقدنا ثقتنا بالإنسان فلم يبقَ لنا ثقة بأحد فنحن نبذنا الثقة والأمانة فماذا بقي لنا بعد أن نبذنا الثقة بالفهم، لم يبقَ أمامنا إلا شريعة الغاب عليها ننام وعليها نستيقظ ولكن أستاذنا كبير الصبر سيصبر علينا حتى نفهم ولا يستعجل علينا.

إن التاريخ لن يغير هدفه من أجل قصورنا ولن يغير التاريخ سننه ولكن نحن الذين سنغير نظرنا.

(قل اعملوا على مكانتكم إنا عاملون).

(وانتظروا إنا منتظرون).



جودت سعيد

بئر عجم

6-9-1998


مقدمة المترجم

ولد أتين دي لابويسيه في العام 1530، في مدينة سارلا، إلى الجنوب من ليموج، وإلى الشرق من بوردو، منتمياً إلى عائلة ميسورة من النواب الذين كلفتهم الطبقة الأرستقراطية بإدارة أعمالها، لانصراف هذه الطبقة إلى البقاء في خدمة ملوك فرنسا.وكان أبوه، الذي توفي وهو طفل، من رجال الكنيسة المتضلعين في اللاهوت والأدب، فنشأ أتين على تقديس «الإنسانيات» اليوناني واللاتينية.وقد التحق، من ثم، بجامعة أورليان التي كانت تعد ثانية جامعات فرنسا بعد جامعة باريس، فانصرف إلى دراسة القانون التي كانت دراسة لغوية فيلولوجية(أي منصبة على النصوص) في المقام الأول.ولماَّ حصَّل درجته الجامعية في العام 1553، حصل من الملك هنري الثاني على تصريح يبيح له حق العمل قاضياً ببرلمان بوردو(كان الحصول على المنصب بالشراء لحاجة الملك إلى المال).وقد انعقدت أواصر صداقة بينه وبين ميشيل دي لوبيتال، مستشار كاترين دي ميديسين – أم الملك، فكلّفه صديقه الذي يكبره بربع قرن أن يشرح لبرلمان بوردو، الذي انتصر اعضائه للفريق الكاثوليكي المتعصب في صراعه ضد «الهجْنُوت»(وهو الاسم الذي أطلق على أشياع كَالفِن في فرنسا)، سياسة التسامح الديني التي ينتهجها، ، فكاد ينجح في عقد لقاء وطني بين الطرفين، لكن أعمال العنف توالت.ولّما صدر مرسوم شباط(فبراير) 1562، القاضي بترك حرية العبادة لأشياع كالفن، دون اعتبارهم هرا قطة، كتب مذكرة شرح فيها النتائج المنحوسة التي تنجم عن المنازعات الدينية، وبيِّن أن الردع الدموي لا يؤدي إلى القضاء على الخصوم، بل إلى تفاقم العداوة تفاقماً يهدد البلاد بحرب أهلية.

كان لابويسيه قد تعرّف، أثناء عمله قاضياً ببرلمان بوردو في العام 1557، إلى مونْتني، فانعقدت بين الرجلين صداقة خلدها الأخير في مقالاته.ولَّما توفي لابويسيه في الثامن عشر من آب(أغسطس) 1562، نشر مونْيني أعمال صديقه في قسمين: شعر نظمه في مقتبل العمر، وترجمات عن المؤرخ اليوناني كسينوفون، وأخرى متعددة عن بلوتارك.ولكن مونتني لم ينشر أعمال صديقه الأدبية، لأنه رأى فيها «حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به هذا الفصل الفاسد»، وهي عبارة تحوي الإشارة إلى الصراع السافر الذي انتهت إليه العلاقة بين حركة الإصلاح الديني وبين الدولة الملكية، والذي تجاوز حداً لا عودة عنه بعد مذبحة أشياع كالفن في العام 1572، وهي المذبحة المعروفة باسم ليلة القديس بارتوليمي.والأرجح أن لابويسيه كان قرأ «مقالة في العبودية المختارة» على بعض أقرانه في جامعة أورليان فاستنسخوها.ولمَّا صار بعض هؤلاء المستنسخين في عداد الكالفينيين، اقتبسوا أجزاء من هذه المقالة في كتاباتهم، مع تصاعد العداء واستحكامه، واستخدموها لأغراض سياسية.لكن استتباب الأمر للحكم الملكي، خلال القرن السابع عشر، جعل«مقالة في العبودية المختارة» نصاً لا يلتفت إليه إلا قلّة من القراء، وكان قدرها أن لا تظهر منشورة إلا في ظل «مقالات» مونتني، حتى العام 1835، إذ نشر النّص على حدة.

إن هذا النص، إذا كان يحظى اليوم بانتباه منقطع النظير من جانب المشتغلين بالفلسفة السياسية، والاجتماع، فلأن أحداث العصر الذي نعيشه، منذ الحرب العالمية الثانية، لا تترك بدَّاً من التفرقة بين السيادة والاستغلال، ومن مواجهة هذا السؤال: هل استغلال الإنسان للإنسان هو أساس السيادة، وما هذه إلا نتيجته، أم أن للسيادة جذوراً أخرى ما كان الاستغلال ليستتبّ بغيرها في صورة الدولة؟

على أن القارئ قد يستخلص جملّة من دروس أخرى في مقالة لابويسيه، وحسبنا أننا نقدمها إليه هنا من ترجمة المفكر مصطفى صفوان، مع هوامش من وضعه مثبتةٍ في آخر النص.



العبودية المختارة

كثرة الأمراء سوء، كفى سيد واحد.ملك واحد .

بهذه الكلمات خطب أوليس القوم في هوميروس.ولو أنه وقف عند قوله:

«كثرة الأمراء سوء»

لأحسن القول بما لا مزيد عليه.لكنه حيث وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين لا يمكن أن يأتي منها الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد، متى تسمى باسم السيد، صعبة الاحتمال منافية للمعقول راح يعكس الكلام فأضاف:

«كفى سيد واحد، ملك واحد».

بيد أن أوليس ربما وجبت معذرته إذ لم يكن له مفر من استخدام هذه اللغة حتى يهدئ ثورة الجيش مطابقاً بمقاله المقام بدل مطابقة الحقيقة.فإن وجب الحديث عن وعي صادق فإنه لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيد واحد، يستحيل الوثوق بطيبته أبداً ما دام السوء في مقدوره متى أراد، ، فإن تعدّد الأسياد تعدّد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم.وما أريد في هذه الساعة طرق هذه المسألة التي كثر الجدل فيها: إذا ما كانت أشكال الجماعة الأخرى تفضل حكم الواحد .ولو أردت لوددت قبل النظر في مكانة هذا الحكم بين الأشكال الأخرى أن أعرف أولاً هل له مكانة ما، لأن من الصعب الاعتقاد ببقاء شيء يخص الجماعة حيث ينفرد واحد بكل شيء، ولكن هذه مسألة متروكة لوقت آخر وتقتضي مقالاً يفرد لها وإلا جلبت معها جميع المنازعات السياسية.

فأما الآن فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته.إنه لأمر جلل حقاً وإن انتشر انتشاراً أدعى إلى الألم منه إلى العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر بل هم(فيما يبدو) قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الاسم الذي ينفرد به البعض، كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته، فليس معه غيره، ولا أن يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية ووحشيته.إن ضعفنا نحن البشر كثيراً ما يفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في الارجاء ما دمنا لا نملك دائماً أن نكون الأقوى.فلو أن أمة أجبرت بقوة الحرب على أن تخدم واحداً(مثل أثينا الطغاة الثلاثين ) لما وجب الدهش لخادِمِيّتِها بل الرثاء لنازلتها، أو بالأحرى ما وجب الدهش ولا الرثاء بل الصبر على المكروه والتأهب لمستقبل أفضل.

إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسطاً لا بأس به من مجرى حياتنا.فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير الأعمال الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه، والاستغناء أحياناً عن بعض ما فيه راحتنا لنزيد به شرفاً وامتيازاً من نحب ومن استحق هذا الحب.فلو أن بلداً رأى سكانه كبيراً منهم يبدي بالبرهان فطنة كبيرة في نصحهم وجرأة شديدة في الدفاع عنهم، وتروياً جماً في حكمهم فانتقلوا من ذلك إلى طاعته وإسلام قيادهم له، إلى حد إعطائه ميزات دونهم فما أدري أهي حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدي الخير إليهم إلى حيث يصبح الشر في مقدوره.أن التخلي عن خشية الشر ممن لم نلق منه إلا الخير لحكمة لو كان محالاً ألا يخالط طيبته نقص.

و لكن ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي تعس هذا؟ أي رذيلة، أو بالأصدق أي رذيلة تعسة؟ أن نرى عدداً لا حصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون ولا أقول يُحكمون بل يُستبد بهم، لا ملْك لهم ولا أهل ولا نساء ولا أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم ‍‍! أن نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون بل خنث ، هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً، لا ألفة له بغبار المعارك وإنما بالرمل المنثور على الحلبات(إن وطأها) ولا يحظى بقوة يأمر بها الناس، بل يعجز عن أن يخدم ذليلاً أقل أنثى  ! أنسمي ذلك جبناً؟ أنقول أن خدامه حثالة من الجبناء؟ لو أن رجلين، لو أن ثلاثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ضد واحد لبدا ذلك شيئاً غريباً، لكنه بعد ممكن، ولوسعنا القول عن حق إن الهمة تنقصهم.ولكن لو أن مائة، لو أن ألفاً احتملوا واحداً ألا نقول: إنهم لا يريدون صده ليس لأنهم لا يجرأون على الاستدارة له، لا عن جبن بل احتقاراً له في الأرجح واستهانة بشأنه؟ فأما أن نرى لا مائة ولا ألف رجل بل مائة بلد، ألف مدينة، مليون رجل، أن نراهم لا يقاتلون واحداً أقصى ما يناله من حسن معاملته أي منهم هو القنانة والرقّ فأنّى لنا باسم نسمي به ذلك؟ أهذا جبن؟ إن لكل رذيلة حدّاً تأبى طبيعتها تجاوزه.فلقد يخشى إثنان واحداً ولقد يخشاه عشرة.فأما ألف، فأما مليون، فأما ألف مدينة إن هي لم تنهض دفاعاً عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن لأن الجبن لا يذهب إلى هذا المدى، كما أن الشجاعة لا تعني أن يتسلق امرؤ وحده حصناً أو أن يهاجم جيشاً أو يغزو مملكة.فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذا الذي لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه وتأبى اللغة تسميته؟

ضع بجانب خمسين ألف رجل مدججين بالسلاح.وضع مثلهم بالجانب الأخر.دعهم يصطفون للمعركة ثم يلتحمون، بعضهم أحرار يقاتلون دفاعاً عن حريتهم والبعض الأخر بغية سلبهم إياها.ترى من تظنك تُعد بالنصر؟ من تظن أنهم ذاهبون إلى ساحة القتال بخطى مقدامة؟ من يأملون الاحتفاظ بحريتهم جزاءً على عنائهم أم أولئك الذين سواء كالوا الضربات أو تلقوها لم ينتظروا أجراً عليهم سوى استعباد الغير؟ الأولون يضعون دائماً نصب أعينهم سعادة الحياة الماضية وتوقع نعيم يماثلها في المستقبل، ولا يفكرون في القليل الذي تلزم مكابدته زمن المعركة، بقدر ما يفكرون فيما سيُفرض عليهم أبد الدهر، هم وأولادهم وجميع ذريتهم.فأما الأخرون فلا حافز لهم إلا وخز من الطمع لا يلبث أن يسكن أمام الخطر، ولا يمكن أن يبلغ التهابه حداً لا تطفئه أول قطرة من الدم تنض بها جروحهم.خذ المعارك المشهودة التي خاضها ميلسيادس وليونيداس وثميستوكل منذ ألفي عام ، والتي ما زالت تحيا في صفحات الكتب وذاكرة البشر حتى اليوم كأن رحاها لم تدر إلا بالأمس على أرض الإغريق، من أجل الإغريق ومن أجل أن تكون مثلاً للدنيا قاطبة: ما الذي في زعمك أعطى فئة قليلة قلة الإغريق إذ ذاك لا أقول القوة بل الجرأة على الصمود في وجه أساطيل بلغ من حشدها أن ناء بثقلها البحر، وعلى أن يدحروا أمماً بلغ من كثرتها أن كتيبة الإغريق بأسرها ما كان يكفي جنودها تزويد أعدائها ولو بالقواد ليس غير؟ ماذا سوى أن المعركة لم تكن في هذه الأيام المجيدة معركة الإغريق ضد الفرس، بقدر ما كانت تعني انتصار الحرية على السيادة، وانتصار العتق على جشع الاسترقاق؟

إنّا ندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التي تملأ بها الحرية قلوب المدافعين عنها.أما ما يقع في كل بلد لكل الناس كل يوم: أن يقهر واحد الألوف المؤلفة ويحرمها حريتها، فمن ذا الذي كان يسعه تصديقه لو وقف عند سماعه دون معاينته؟ ولو أن هذا القهر لم يكن يحدث إلا في بلد أجنبي وأرض قاصية ثم تردد نبأْهُ أكان أحد يتردد في ظنه كذباً وافتراء لا حقيقة واقعة؟ ومع هذا فهذا الطاغية لا يحتاج الأمر إلى محاربته وهزيمته، فهو مهزوم خلقة، بل يكفي ألا يستكين البلد لاستعباده.ولا الأمر يحتاج إلى انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن عطائه.فللبلد إذا أراد ألا يتحمل مشقة السعي وراء ما فيه منفعته، كل ما يقتضيه الأمر هو الإمساك عما يجلب ضرره.الشعوب إذاً هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل أنفسها بأنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمته.الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده.هو الذي ملك الخيار بين الرق والعتق فترك الخلاص وأخذ الغل.هو المنصاع لمصابه أو بالأصدق يسعى إليه.فلو أن الظفر بحريته كان يكلفه شيئاً لوقفت عن حثه: أليس أوجب الأمور على الإنسان أن يحرص أكبر الحرص على حقه الطبيعي وأن يرتد عن الحيوانية ليصبح إنساناً؟ ولكنني لا أطمع منه في هذه الجرأة، ولا أنا أنكر عليه تفضيله نوعاً آمناً من أنواع الحياة التعسة على أمل غير محقق في حياة كريمة.ولكن ! ولكن إذا كان نوال الحرية لايقتضي إلا أن نرغب فيها، وكان يكفي فيه أن نريد، أكنا نرى على وجه الأرض شعباً يستفدح ثمناً لا يعدو تمنيها، أو يقبض إرادته عن استرداد خير ينبغي شراؤه بالدم، ويستوجب فقدُه على الشرفاء أن تصبح الحياة مرة عندهم والموت خلاصاً؟ إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم، كلما وجدت حطباً زادت اشتعالاً ثم تخبو وحدها دون أن نصب ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تُهلك، تُهلك نفسها وتُمسي بلا قوة وليست ناراً.كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا , كلما دمروا وهدموا، كلما موّناهم وخدمناهم زادوا جرأة واستقووا وزادوا إقبالاً على الفناء والدمار.فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين لا شبيه لهم بشيء إلا أن يكون فرعاً عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوى.

إن الشهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم، كما أن الأذكياء لا يحجمون عن المشقة.أما الجبناء والمغفلون فلا يعرفون احتمال الضرر ولا تحصيل الخير، وإنما يقفون عند تمنيه، يسلبهم الجبنُ قوة العمل عليه، فالرغبة في امتلاكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة.هذه الرغبة، هذه الإرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث، ويشترك فيه الشجاع والجبان، به يودون تلك الأشياء التي يجلب اكتسابها السعادة والرضى.شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه: الحرية التي هي مع ذلك الخير الأعظم والأطيب، حتى أن ضياعها لا يلبث أن تتبعه النواكب تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه وطعمه.الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيه لا لسبب فيما يبدو إلا لأنهم لو رغبوا لنالوها، حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته.

يا لذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها، يا لأمم أمعنت في آذاها وعميت عن منفعتها، تُسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان، تتركون حقولكم تُنهب ومنازلكم تُسرق وتُجرّد من متاعها القديم المورث عن آبائكم ! تحيون نوعاً من الحياة لا تملكون فيه الفخر بمِلْك ما، حتى لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقى لكم ولو النصف من أملاككم وأسركم وأعماركم، وكل هذاالخراب، هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم بل يأتيكم يقيناً على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده.هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد ، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم، التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم.فأنّى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أنّى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقوا بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للصّ الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟ تبذرون الحب ليُذْريه.تؤثثون بيوتكم وتملأونها حتى تعظم سرقاته.تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته.تنشئون أولادكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه جرهم إلى حروبه وسوقهم إلى المجزرة، ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومنفذي رغباته الانتقامية.تتمرسون بالألم كيما يترفه في مسراته ويتمرغ في ملذاته القذرة، وتزيدون وهناً ليزيد قوة وشراسة ويَسِمَكم بلجامه.كل هذه الألوان من المهانة التي إما البهائم لا تشعر بها، أو ما كانت تحتملها، يسعكم الخلاص منها لو حاولتم لا أقول العمل عليه بل محض الرغبة فيه، اعقدوا العزم ألا تخدموا تصبحوا أحراراً.فما أسألكم مصادمته أو دفعه بل محض الامتناع عن مساندته.فترونه كتمثال هائل سُحبت قاعدتُه فهوى على الأرض بقوةٍ وزنهٍ وحدها وانكسر.

بيد أن الأطباء محقون بلا شك إذ ينهون عن لمس الجروح التي لا برء منها، ولا أظنني أسلك مسلكاً حكيماً إذا أردت أن أسدي هنا الموعظة إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل، وصار فقدان حساسيته بالألم دليلاً كافياً على أن مرضه قد صار مميتاً.لنحاول أذن أن نتبين لو أمكن ذلك كيف استطاعت جذور هذه الإرادة العنيدة، إرادة العبودية، إلى هذا المدى البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء لا يمت إلى الطبيعة بسبب.

أولاً، إنه لأمر لا أظن الشك يتطرق إليه أننا لو كنا نعيش وفاقاً للحقوق الممنوحة لنا من الطبيعة والدروس التي تُلقننا إياها لكنا طيعين للوالدين بالطبع، خاضعين للعقل، غير مسخرين لأي كان.فالطاعة التي يحملها كل منا لأبيه وأمه دون أن يهديه إليها إلا صوت الطبيعة أمرّ الناس جميعاً شهود عليه كلّ عن نفسه.فأما العقل وهل يولد معنا أم لا فمسألة تقارع فيها الأكاديميون ، ولم تتخلف مدرسة من المدارس الفلسفية عن الخوض فيها، ولا أظنني أجانب الصواب، الآن إذ أقول إن بنفوسنا بذرة طبيعية من العقل تزدهر في شكل الفضيلة، إذا تعهدناها بالنصيحة الطيبة والقدوة الحسنة، ولكنها على العكس كثيراً ما تغلبها الرذائل فتخمد وتنفق.غير أن الشيء المحقق هو أنه إذا كان في رحاب الطبيعة شيء واضح باد للعيان ولا يجوز أن نعمى عنه فذلك أن الطبيعة وهي وزيرة الخالق وآمرة الخلق قد سوتنا جميعا على شبه واحد حتى لكأنها، إذا جاز التعبير، قد صبتنا في القالب ذاته، وذلك حتى يعرف في الآخرين رفاقه أو بالأصدق إخوته.وإذا كانت الطبيعة وهي توزع هباتها قد أسبغت على البعض مزية جسدية أو عقلية، وإذا كانت رغم ذلك لم تتركنا في هذه الدنيا كأننا في حقل مغلق، ولم تفوض الأقوياء والمكرة بافتراس الضعفاء كقطاع طرق أطلق سراحُهم في الغابة، فلذلك دليل على أنها إذا أعطت البعض نصيباً أكبر، والبعض الأخر نصيباً أصغر، لم تكن تهدف إلا إلى أن تترك المجال للتعاطف الأخوي حتى يظهر وجوده ما دام البعض يملك قوة العطاء، والبعض الآخر الحاجة إليه.فإذا كانت هذه الأم الطيبة قد جعلت لنا من الأرض قاطبة سكناً، وأنزلتنا جميعاً المنزل نفسه، وهيّأتنا على نموذج واحد كيما يتسنى لكل منا أن يتأمل نفسه ويقترب من معرفتها في مرآة الآخرين، وإذا كانت قد وهبتنا جميعاً تلك الهبة الكبرى، هبة الصوت والكلام حتى نزيد تعارفاً وتآخياً وحتى تتلاقى إرادتنا بالأعراب المتبادل عن أفكارنا، وإذا كانت قد جهدت بكل السبل حتى نزيد توثق عُرى التحالف والاجتماع بيننا، وإذا كانت قد بينت في كل ما تصنع أنها لا تهدف إلى توحيدنا جميعاً بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميعاً آحاداً، فقد ارتفع بذلك كل شيء في أننا جميعاً أحرار بالطبيعة، ما دمنا رفاقاً، وامتنع أن يدخل في عقل عاقل أن الطبيعة قد ضربت علينا الرق بيننا هي قد آلفت بيننا.

غير أن الحقيقة هي أن الجدل فيما إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً أم لا، لن يكون إلا تحصيلاً للحاصل ما دمنا لا نسترق كائناً دون أن نلحق الأذى به، وما دام الغبن أكره الأشياء إلى الطبيعة التي هي مستودع العقل.إذن يبقى أن الحرية شيء طبيعي، ويبقى بهذا عينه أننا(فيما أرى) لا نولد أحراراً وحسب، بل نحن أيضاً مفطورون على محبة الذود عنها.فإن اتفق بعد ذلك أن ساورنا شك فيما أقول وأن بلغ من فسادنا أننا لم نعد نستطيع تمييز مصالحنا، ولا مشاعرنا الطبيعية، لم يبق إلا أن أكرمكم الإكرام الذي تستحقون، وأن أترك الحيوانات التي لا تمت إلى المدنية بصلة تصعد المنبر لتعلمكم ما هي طبيعتكم وما وضع وجودكم.إن الحيوانات(أخذ اللّه بعوني !) إذا البشر لم يصموا آذانهم لسمعوها تصرخ فيهم: عاشت الحرية ! الكثير منها لا يكاد يقع في الأسر إلا مات.فكما السمك يترك الحياة إذا يترك الماء، كذلك هي تترك الضوء وتأبى العيش بعد فقدان حريتها الطبيعية.فلو كانت لها مراتب لجعلت من الحرية عنوان نبالتها.فأما البقية من أكبرها إلى أصغرها، فهي لا تستسلم للأسر حين نقتنصها إلا بعد أن تظهر أشد المقاومة بالأظافر، والقرون، والمناقير، والأقدام، معلنة بذلك مدى إعزازها لما تفقد.ثم هي تبدي لنا العلامات الجلية مدى إحساسها بمصابها حتى أننا لنعجب إذ نراها تؤثر الضوى على الحياة، كأنها إنما تقبل البقاء لترثي ما خسرت وليس لتنعم بعبوديتها.هل يقول الفيل شيئاً آخر حين يقاتل دفاعاً عن نفسه حتى يستنفذ قواه ويرى ضياع الأمل وشوك الأسر، فإذا هو يغرس فكيه محطماً على الشجر سنّيه، هل يقول شيئاً آخر سوى أن رغبته الشديدة في البقاء حراً تلهمه الذكاء، فتحثه على مساومة قناصيه لعلهم يتركون له الحرية ثمناً لعاجه ولعله يفتدي به حريته؟ إننا نستأنس الجياد منذ مولدها لندربها على خدمتنا، فإذا كنا مع ذلك حين نجيء إلى ترويضها نعجز عن ملاطفتها إلى الحد الذي لا يجعلها تعض الحَكَمَة، وتنفر من المهماز، فما هذا في اعتقادي إلا شهادة منها بأنها إنما تقبل خدمتنا كارهة لا مختارة.ما القول إذاً؟

حتى البقر أَنَّ تحت النير وشكا في أقفاصه الطير

كما عنَّ لي قوله حين شغلني فيه نظمنا الفرنسي ، لأني وأنا أكتب إليك يا لُونجا مازجاَ بالكلام أشعاري التي لا أقرأها أبداً، لا أخشى قط أن يجرك ما تبديه من الرضا عنها إلى جعلها مدعاة لفخري.خلاصة القول أنه لَمَّا كانت جميع الكائنات الحاصلة على الحس تشعر إذ تحصل عليه بألم خضوعها وتسعى وراء حريتها، ولما كانت الحيوانات، وهي المجعولة لخدمة الإنسان، لا تستطيع أن تألف العبودية دون أن تبدي احتجاجاً يعرب عن الرغبة في الضد، فما هي تلك الرذيلة التي استطاعت أن تمسخ طبيعة الإنسان، وهو وحده المولود حقيقة ليعيش حراً، وأن تجعله ينسى ذكرى وجوده الأول وينسى الرغبة في استعادته؟

هناك ثلاثة أصناف من الطغاة: البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم.فأما من انبنى حقهم على الحرب فنعلم جيداً أنهم يسلكون، كما نقول، في أرض محتلة.وأما من ولدوا ملوكاً فهم عادة لا يفضلون قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان، يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد، ويتصرفون في شؤون المملكة كما يتصرفون في ميراثهم، كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ.أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة، فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون.ولقد يكون الأمر كذلك على ما اعتقد لولا أنه ما أن يرى نفسه يرتقي مكاناً يعلو به الجميع، وما أن يستغويه هذا الشيء الغريب المسمى بالعظمة، حتى يعقد النية على ألا ينزاح من مكانه قط.وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئاً عجباً: نشهد إلى أي مدى يبزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل، بل في قسوتهم، دون أن يروا سبيلاً إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد، سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم، حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم.فكلمة الحق هي أني أرى بعضاً من الاختلاف بين الطغاة، ولكني لا أرى اختياراً بينهم، لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم لا يكاد يختلف: فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً.

فَهَب في هذا الموضع أن الصدفة شاءت أن يولد نمط جديد من البشر، لا ألفة لهم بالعبودية ولا ولع بالحرية، ولا يعلمون ما هذه ولا تلك، بل يجهلون حتى اسميها، ثم خيروا بين الرق وبين الحياة أحراراً، فعلام يجمعون؟ لا مجال للشك في أنهم سوف يؤثرون طاعة العقل وحده على خدمة رجل ما، هذا إلا إذا كان هؤلاء القوم هم شعب* إسرائيل الذي نصب طاغياً عليه بغير إكراه ولا احتياج: وإنه لشعب لا أقرأ قصته أبداً دون أن يملكني حنق عظيم حتى لأكاد أتجرد من الإنسانية فأفرح بجميع ما نزل عليه بعدئذٍ من البلايا .ولكن طالما بقي بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقيناً لا ينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين: إما مكرهاً وإما مخدوعاً** .مكرهاً إما بسلاح أجنبي مثل مدينتي إسبرطة وأثينا، إذ قهرتهما قوات الاسكندر، وإما بطائفة من مجتمعه، مثلما حدث في أثينا في زمن أسبق حين استولى بيسيسترانس على مقاليد الحكم .فأما الخديعة من حيث تؤدي أيضاً إلى فقدان الحرية فرجوعها إلى تغرير الغير في أكثر الاحيان عن رجوعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم.مثال ذلك شعب سيراقوصة(عاصمة صقيلة) إذ هجم عليه الأعداء من كل جانب ولها* فكرُه عن كل شيء إلا عنالخطر الحاضر، فرفع ديونيسيوس إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل، وأسند إليه قيادة الجيش، ولم يدرك إلى أي حد قوّاه إلا حين رجع هذا الداهية منتصراً كأنه قد غزا مواطنيه لا أعداءهم، فتسمى باسم القائد ثم بالملك ثم بالملك المطلق .وإنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى تم خضوعه، يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليُهيَأُ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته.صحيح أن الناس لا يقبلون على الخدمة في أول الأمر إلا جبراً وخضوعاً للقوة، ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف، ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطراراً.ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أطعموا وتربوا في ظل الاسترقاق، دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما ولدوا.ثم انه لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر لا يطرأ على بالهم، فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعي.ومع هذا فما من وارث إلا نظر أحياناً في مستندات أبيه ليرى هل يتمتع بحقوق تَرِكَته كاملة، أم أن غبناً قد أصابه أو أصاب سلفه.لكن لا شك أن العادة، مع سيطرتها علينا في كل مجال لا تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر حين تلقننا العبودية، وحين تعلمنا، مثلما قبل عن ميثريدات الذي صار السم عنده شراباً مألوفاً ، كيف نجرع سم الاسترقاق دون الشعور بمرارته.لا جدال في أن للطبيعة نصيباً كبيراً في توجيهناحيث تشاء، وأننا نولد على ما تدخره لنا من فطرة حسنة أو سيئة، ولكن لامناص من التسليم بأن سلطانها علينا يقل عن سلطان العادة لأن الاستعداد الطبيعي مهما حسن يذهب هباء إذا لم نتعهده، في حين أن العادة تفرض علينا صَوْغَها أياً كان هذا الاستعداد.فالبذور التي تنشرها فينا الطبيعة ضئيلة واهية إلى حد لا يجعلها تحتمل أقل غذاء منافر لها، فرعايتها لا تتم بمثل السهولة التي تتبدد بها وتفنى، شأنها شأن أشجار الفاكهة: كل شجرة منها لها طبيعتها التي تؤتي بمقتضاها ثمارها إذا تركتها، ولكنها تخرج عن طبيعتها وتؤدي ثماراً غريبة غير ثمارها إذا طعّمتها.كذلك الأعشاب: كل عشب له خاصيته وطبيعته وتفرده، ولكن البرد والجو ثم التربة ويد البستاني تعين نموه كثيراً، أو تعوقه كثيراً حتى أن النبات الذي نراه في قطر لا نكاد نعرفه في قطر آخر.تخيل رجلاً رأى أهل مدينة البندقية – وهم قلة من الناس يعيشون أحراراً، حتى ليأبى أقلهم جاهاً أن يتوج ملكاً على جميعهم، ولدوا ونشأوا على ألا يعرف أي منهم مطمعاً إلا الإدلاء بأحسن النصح من أجل الحفاظ على الحرية والسهر عليها، تربوا منذ المهد وتشكلوا على ألا يمدوا أيدهم إلى سائر نِعم الأرض مجتمعة عوضاً عن ذرة من حريتهم – أقول تخيل رجلاً رأى هؤلاء القوم، ثم ذهب بعد أن غادرهم إلى أراض ينشر عليها سلطانه من لقبناه بمَلِكِ زمانه ، أرض يرى فيها أناساً لا يولدون إلا لخدمته ولا يعيشون إلا لدوام قوته، ترى هل يظن أن هؤلاء وأولئك من عجينة واحدة، أم الأرجح أنه سوف يعتقد أنه قد ترك مدينة آدمية ودخل حظيرة للدواب؟ يحكى أن ليكورج(مشرع إسبرطة ) قد ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا الثدي ذاته، فجعل أحدهما يسمن في المطابخ، وترك الأخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد.فلما أراد أن يبين لشعب لاسيدومونيا أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط السوق، ووضع بينهم حساء وأرنباً، فإذا أحدهما يجري وراء الطبق والأخر وراء الأرنب.فقال ليكورج: ومع هذا فهما أخوان ! هكذا نجح بفضل قوانينه ودستوره في أن ينشئ سكان لاسيدومونيا تنشئة، جعلت كلا منهم يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه سيداً آخر سوى القانون والعقل.

و يطيب لي هنا أن أتذكر حديثاً جرى في قديم الزمان بين أحد المقربين إلى اكسرس ملك فارس الأعظم وبين رجلين من لاسيدومونيا.أخذ اكسرس، وهو يعد جيشه الضخم لغزو اليونان، يبعث رسله إلى المدن اليونانية يطلبون إليها الماء والتراب: وهو تعبير كان يستخدمه الفرس، إشارة إلى أنهم يأمرون المدن بالاستسلام.إلا أثينا وإسبرطة، فقد تجنب أن يرسل لهم أحداً.ذلك أن الأثينيين والإسبرطيين كان قد سبق لهم أن أمسكوا بسفراء أبيه داريوس فزجوا بعضهم في الحفر والبعض الآخر في الآبار قائلين: خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوماً لا يطيقون ولو كلمة تمس حريتهم.غير أن الإسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع، أدركوا أنهم قد جروا على أنفسهم غضب الآلهة وغضب تالثيبيوس، إله الرسل، بنوع خاص، فقرروا أن يرسلوا إلى اكسرس مواطنين من بينهم ليَمْثُلا بين يديه وليصنع بهما ما يشاء انتقاماً لمن قُتِلَ من رسل أبيه.فتطوع رجلان ليدفعا هذا الثمن، اسم أحدهما سبرثيوس واسم الآخر بولس.وبينما هما في الطريق صادفاً قصراً يملكه رجل فارسي اسمه هندران، كان الملك قد عينه والياً على جميع المدن الواقعة على الساحل، فرحب بهما أكرم ترحيب، وأطعمهما بغير حساب، ثم سألهما بعد أن أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث لِمَ يرفضان إلى هذا الحد صداقة الملك.قالَ «أنظرا إليَّ أيها الإسبرطيان واتخذا مني مثالاً تعلمان منه كيف يعرف الملك تشريف من استحق، وتذكرا أنكما لو صرتما من أتباعه، لرأيتما من صنيعه ما رأيت وإنكما لو دنتما له بالطاعة وعرف أمركما لما خرج كلاكما عن أن يكون أميراً لمدينة من مدن اليونان».فأجابه محدثاه: «لهذا يا هندرمان أمر لا تملك فيه إسداء النصح إلينا، لأنك جربت النعمة التي تعدّنا بها ولكنك لا تعلم شيئاً عن نعمتنا، لقد ذقت حظوة الملك، وأما الحرية فلست تعرف ما مذاقها ولا مدى عذوبتها، ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع بل بالأسنان والأظافر».هذا الجواب وحده هو الصدق، ومع هذا فلا شك أن ثلاثتهم تحدثوا وفاقاً لنشأتهم، فما كان للفارسي أن يستشعر الأسف على الحرية وهو لم ينلها قط، ولا للإسبرطي أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق الحرية.

و كان كاتو الأوتيكي وهو طفل تحت الوصاية كثير التردد على منزل الدكتاتور سيلا ، يروح ويجيء متى شاء لا يُصد الباب في وجهه أبداً لكرم محتده، ولِما كان بينه وبين سيلاً من أواصر القرابة.وكان معلمه يصحبه في كل زيارة على ما جرت به العادة إذ ذاك مع أبناء الأسر العريقة.ولم يلبث أن تبين له أن مصائر الناس تحسم بتلك الدار بمحضر من سيلا نفسه أو بأمره: البعض يُسجن والبعض يُدان، هذا ينفى وهذا يشنق، هذا يُطالب بمصادرة أملاك أحد المواطنين وذاك يطلب رأسه.تبين له بالاختصار أن الأمور لا تجري على ما ينبغي لدى مسؤول أعملته المدينة بل لدى طاغية استبد بالشعب، وأن المكان لم يكن ساحة للعدل بل مصنعاً للطغيان.عندئذ قال الفتى لمعلمه: «أنَّى لي بخنجر أدسه تحت ردائي فإني كثيراً ما أرى سيلّا في حجرته قبل أن يستيقظ، وإن بساعدي لقوة تكفي خلاص المدينة منه».هذه حقاً كلمة تليق برجل من معدن كاتو، وهكذا بدأت حياة هذا البطل الذي مات كريماً مثلما عاش كريماً.ومع هذا هب أنك لم تذكر الاسم ولا البلد مكتفياً بذكر الواقعة كما هي: لا شك أن الواقعة سوف تتحدث عندئذ عن نفسها بنفسها، لسوف يستدل السامع منها أن قائل هذا القول روماني ولد بأحضان روما حين كانت روما مدينة حرة.لِمَ أقول ذلك؟ طبعاً لا لأني أظن أن البلد أو الأرض يضيفان إلى الشيء ما ليس فيه، فالعبودية مرة بكل قطر وجوٍ والحرية عزيزة، ولكن لأني أرى أن من سَبَق النيرّ مولدهم جديرون بالرثاء، فواجبنا عذرهم أو الصفح لهم إذا كانوا لا يرون ضراً في عبوديتهم ما داموا لم يروا ولو ظِلَّ الحرية، ولا سمعوا عنها قط.فلو كان ثمة بلد كبلد السِمَرَيِّين فيما يقول هوميروس، بلد لا تشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا، وإنما بعد أن تفيض عليهم بنورها ستة أشهر متوالية تتركهم نياماً في الحلكة خلال النصف الآخر من السنة: من ولدوا في غياهب هذا الليل الطويل إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحداً يتحدث عن الضوء، هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ إنا لا نفتقد ما لم نحصل عليه قط وإنما يأتي الأسف في أعقاب المسرة، ودوماً تأتي ذكرى الفرح المنقضي مع خبرة الألم.أجل إن طبيعة الإنسان أن يكون حراً وأن يريد كونه كذلك، ولكن من طبيعته أيضاً أن يتطبع بما نشأ عليه.

لنقل إذن أن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي، فلا شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة التي لم يمسها التغيير.ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة: كشأن الجياد الشوامس تعض الحكمة بالنواجذ في البدء، ثم تلهو بها أخيراً وبعد أن كانت ترجم، ولا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبخر في دروزها، تقول إنها كانت منذ البدء ملكاً لمالكها، وإن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الإلزام، ويمر الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها.ولكن الحقيقة هي أن السنين لا تجعل أبداً من الغبن حقاً وإنما تزيد الإساءة استفحالا .آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل، ولا يتمالكون عن هزه هزاً ولا يرضون أنفسهم أبداً على التبعية والخضوع، بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب الأرض والبحر عساه يرى الدخان الذي يصعد من داره، لا يمسكون قط عن التفكير في حقوقهم الطبيعية وعن تذكر من تقدموهم وتذكر وضعهم الأول.أولئك هم الذين إذ ملكوا فهماً نافذاً ورأياً بصرياً، وانصقلت عقولهم، لم يكتفوا كما يفعل العامة بالنظر إلى مواطئ أقدامهم دون التفات إلى ما أمامهم وما وراءهم، ودون أن يتذكروا وقائع الماضي ليسترشدوا بها في الحكم على المستقبل وسبر الحاضر.أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيباً.أولئك لو أن الحرية امّحت على وجه الأرض وتركتها كلها لتخيلوها، وأحسوا بها في عقولهم، وتذوقوها ذوقاً ولم يجدوا للعبودية طمعاً مهما تبرقعت.

لقد أدرك قراقوش الترك هذا الأمر أحسن أدراك: أدرك أن الكتب والثقافة الصحيحة تزود الناس أكثر من أي شيء آخر بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف، والاجتماع على كراهية الطغيان، دليل ذلك خلو أرضه من العلماء، وبعده عن طلبهم.وفي سائر الأرض بوجه عام تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للحرية، وتظل محبتهم دون أن يكون لهما أثر مهما كثر عددهم لانقطاع التواصل بينهم: فالطاغية يسلبهم كل حرية: حرية العمل وحرية الكلام، ولو أمكن فحرية الفكر* ، فإذا هم منفردون منعزلون كلُّ في تخيله.وعليه فما بالغ الإله الساخر موموس في سخريته، إذ شهد الإنسان الذي صنعه فولكان فنصحه أن يضع أيضاً بقلب صنيعه نافذةً صغيرة لكي تتسنى رؤية أفكاره من خلالها.ولقد قيل إن بروتوس وكاسيوس حين شرعا في تحرير روما، أو بالأصدق تحرير العالم أجمع، أبيا أن يشركا شيشرون.وهو المدافع المنقطع عن المصلحة العامة، فيما عقدا العزم عليه إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من أن يثبت في هذا الموقف العصيب.كانا يثقان في صدق أرادته دون أن يضمنان شجاعته.وإن لفي وسع من أراد استقراء وقائع الماضي وسجلات التاريخ، أن يتحقق أن من رأوا بلدهم تُساء سياسته وتستحوذ عليه أياد جانية فعقدوا العزم على تحريره بنية صادقة، مستقيمة، لا تردد فيها قلَّ ألاّ يحالفهم النجاح، وأن الحرية تساندهم في الدفاع عن قضيتها.انظر هارموديوس وأرسطجيتون وثراسيبول وبروتوس الأقدم وفالريوس وديون : لقد كان عملهم ناجحاً مثلما كان فكرهم فاضلاً، لأن الحظ لا يكاد يتخلى أبداً في مثل هذه القضية عن مناصرة الإرادة الطيبة.كذلك نجح بروتوس الأصغر وكاسيوس في رفع العبودية، وإن كانا إذ استرجعا الجمهورية قد خسرا الحياة خسارة لا تحط من شأنهما(فأي سبّة هذه أن تنسب الحطة إلى أمثال هؤلاء القوم سواء في الحياة أو في الممات !) بل خسارة عانت منها الجمهورية أكبر الضرر، وعانت البؤس أبد الدهر، واندثرت اندثاراً كأنها قد دفنت بدفنهما.فأما ما تلا ذلك من الحركات الموجهة ضد الأباطرة الرومانيين، فلم تكن إلا مؤامرات حاكها قوم طامحون لا يستحقون الرثاء على سوء مآلهم، فقد كان من الواضح أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج، مدعين طرد الطاغية مع الإبقاء على الطغيان.هؤلاء قوم ما كنت نفسي أود لهم نجاحاً، وإنه ليسرني أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية المقدس لا يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد.

و لكني لكي أعود إلى موضوعنا الذي كاد يغيب عن نظري أقول إن السبب الأول، الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد، هو كونهم يولدون رقيقاً* وينشأون كذلك.إلى هذا السبب يضاف سبب آخر: إن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين.ولكم أشكر أبا الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلك، وعبر عنه أحسن تعبير في كتابه الّمعلَّى عن الأمراض.لقد كان هذا الرجل يملك يقيناً في جميع أحواله قلباً يزخر بالمروءة، أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس جذبه بالعطايا والهدايا فأجابه أنه لن يسلم من وخزات الضمير لو أنه أشتغل بعلاج الأجانب، الذين يريدون موت الإغريق، وراح يخدمهم بفنه بينما هو يريد إخضاع بلادهم.ولا يزال خطابه المرسل إلى ملك الفرس ماثلاً إلى يومنا هذا بين سائر كتاباته، يشهد مدى الدهر على قلبه الطيب وطبيعته النبيلة.من المحقق إذاً أن الحرية تزول بزوالها الشهامة.فالقوم التابعون لا همة لهم في القتال ولا جلد، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شداً، أشبه بنيام يؤدون واجباً فرض عليهم، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق في قلوبهم، هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر، ويود لو اكتسب بروعةِ موتهِ الشرفَ والمجدَ بين أقرانه.إن الأحرار يتنافسون كلُّ من أجل الجماعة ومن أجل نفسه، وينتظرون جميعاً نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المُستعْبَدون فهم عدا هذه الشجاعة في القتال يفقدون أيضاً الهمة في كل موقف، وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال.وهذا أمر يعلمه الطغاة جيداً، فهم ما أن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزيدوا استنعاجاً.

لقد وضع كْسينُوفون ، وهو مؤرخ جاد من أئمة المؤرخين اليونانيين، كتاباً تخيل فيه حواراً بين سيمونيد وبين طاغية سيراقوصة هيرون حول كروب الطاغية.هذا الكتاب مليء بنظرات نقدية طيبة جادة، وإن اتسمت مع ذلك في رأيي بأقصى ما يمكن من اللطف.ليت طغاة الأرض وضعوا هذا الكتاب نصب أعينهم أنّى وجدوا لتكون لهم منهم مرآة لهم ! فلو فعلوا لتبينوا رذائلهم ولأخجلتهم مساعيهم.في هذا الحوار يصف كسينوفون كرب الطغاة.إذ يضطرهم الأذى الذي يلحقونه بالناس جميعاً إلى خشيتهم جميعاً، قائلاً بين ما يقول إن الملوك الفاسدين يستخدمون المرتزقة الأجانب في شن الحروب فَرَقاً من ترك السلاح في أيدي رعاياهم، الذين أمعنوا في غبنهم.(هذا وإن يكن من الصحيح أن التاريخ قد شهد بين الفرنسيين، أنفسهم، وفي الماضي أكثر منه في الحاضر، ملوكاً صالحين جندوا جيوشاً من الأمم الأجنبية لا عن حذر، بل حرصاً على بني وطنهم، وتقديراً منهم أن خسارة المال يبخس ثمنها في سبيل صيانة الأرواح عملاً بما يسند إلى سيبيون، وأظنه الأفريقي ، من قوله أنه يفضل لو أنقذ مواطناً على أن يدحر ألف عدو).ولكن الشيء المحقق هو أنه ما من طاغية يظن أبداً أن السلطان قد استتب له إلا أن يبلغ تلك الغاية التي هي تصفية المأِمورين بأمره* ، من كل رجل ذي قيمة ما.بحيث يحق لنا أن نوجه إليه التقريع الذي يفخر تيراسون في إحدى مسرحيات تيرانس بتوجيهه إلى مروض الأفيال: ألأنك تأمر الأنعام.تجرؤ هذه الجرأة ؟

بيد أن هذا التحايل من قبل الطغاة على التغرير برعاياهم لا يمكن أن يتجلى على نحو يفوق تجليه فيما صنع كسرى إزاء الليديين ، إذ دحرهم بثرائه واستولى على عاصمتهم سارد، وأسر كريسوس ملكهم الذي ضربت بثرائه الأمثال، وعاد به إلى بلاده فبلغه أن أهل سارد قد ثاروا.وكان يسعه سحقهم إلا أنه رغب عن تدمير مدينة فاق جمالها الأوصاف، ثم هو لم يكن يريد أن يجمد بها جيشاً لحراستها.فتفتق ذهنه عن حيلة كبيرة توصل بها إلى مأربه: فتح دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية* ، ونشر أمراً يحض السكان على الإقبال على هذا كله.فكانت له من هذه الحيلة حامية أغنته إلى الأبد عن أن يسل السيف في وجه الليديين، فقد انصرف هؤلاء المساكين البؤساء إلى التفنن في اختراع الألعاب من كل لون وصنف، حتى أن اللاتينيين اشتقوا من اسمهم الكلمة التي يدلون بها على اللهو فقالوا لودي، وكأنهم يريدون أن يقولوا ليدي.صحيح أن الطغاة لم يعلنوا جميعاً عما يسعون إليه من تخنيث الشعوب.ولكن ما فعله هذا صراحة يتوخاه معظم الآخرين خفية.والحقيقة هي أن تلك طبيعة العامة الذين تضم المدن القسط الأوفر منهم، فهم شكاك فيمن أحبَّهم، سذج حيال من خدعهم.فلا تظنن أن ثمة عصفوراً يسهل اقتناصه بالصفافير ، أو سمكة تهرع إلى الطعم بمثل العجلة التي تسرع بها إلى العبودية كل الشعوب منجذبة، كما نقول، بأقل زَغَبة تقرب فاها.وإنه لأمر عجيب أن نراها تندفع هذا الاندفاع، يكفي فيه مجرد زعزعتها.المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات، هذه وغيرها من المخدرات كانت لدى الشعوب القديمة طُعْمُ عبوديتها، وثمن حريتها، وأدوات الاستبداد بها.هذه الوسيلة وهذا المنهج وهذه المغريات هي ما تذرع به الطغاة القدامى حتى تنام رعيتهم تحت النير.هكذا تأخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه الملاهي، وتتسلى بلذة باطلة تخطف أبصارها في تعود العبودية بسذاجة تشبه سذاجة الأطفال، الذين تخلب لبهم الكتب المصورة فيحاولون فك حروفها، ولكن بتخبط أكبر.واكتشف الطغاة الرومانيون اكتشافاً آخر فوق هذا كله: موائد العشرات يكثرون من الدعوة إليها في الأعياد تمويهاً على هؤلاء الرعاع، الذين لا ينقادون لشيء مثلما ينقادون للذة الفم، والذين ما كان يستطيع أشدهم مكراً، وأقربهم إلى أسماعهم، أن يترك وعاء حسائه ليسترجع حرية جمهورية أفلاطون.كان الطغاة يجودون برطل من القمح، ونصف ليتر من النبيذ، وبدرهم، وكان أمراً يدعو إلى الحسرة أن يعلوا عندئذ الهتاف: عاش الملك ! فما كان يخطر على بال هؤلاء الأغبياء أنهم إنما كانوا يستردون جزءاً مما لهم، وحتى هذا الجزء ما كان الطاغية ليجود به عليهم لولا سبقه إلى سلبهم إياه.من يلتقط اليوم الدرهم ويأكل حتى التخمة مسبحاً بحمد تيبريوس، ونيرون، وبسخاء عطائهما، لا ينبس بحرف يزيد عما ينبس به الحجر، ولا تصدر عنه خلجة تزيد عما يصدر عن الجذع المقطوع، حين يرغم غداً على أن يترك أملاكه لجشع هؤلاء الأباطرة المفخمين، وأطفاله لشهواتهم، لا بل دمهم نفسه لقسوتهم.ذلك كان شأن الشعب الجاهل دائماً: مفتوح الذراعين، مستسلم للذة التي كانت الأمانة* تقضي بالإمساك عنها، فاقد الإحساس بالغبن والألم، اللذين كانت الأمانة تستدعي الشعور بهما.إني لا أرى اليوم أحداً يسمع حديثاً عن نيرون إلا أرتعد لمجرد ذكر اسم هذا المسخ الكريه، هذا الوباء الشنيع القذر الذي لوث العالم أجمع، ومع هذا فلا سبيل إلى إنكار أن هذا السفاح، هذا الجلاد، هذا الوحش الضاري، حين مات ميتة لا تقل خزياً عن حياته ، قد أثار بموته هذا حزن الشعب الروماني النبيل، الذي راح يتذكر ألعابه وولائمه حتى أوشك على الحداد – هذا ما كتبه كورنيليوس تاسيت، وهو مؤلف جاد محقق في طليعة من يوثق بهم .ولا أظننا سنعجب لذلك كثيراً إذا تذكرنا ما صنعه هذا الشعب من قبل حين مات يوليوس قيصر، الذي استهان بالقوانين والحرية معاً، والذي لا أرى في شخصه مزية ما لأن إنسانيته التي كثر الحديث عنها في كل معرض ومقام كانت أبلغ ضرراً من قسوة الوحوش الضارية، فالحقيقة هي أن هذه الحلاوة المسمومة، التي سكرَت طعم العبودية لدى الشعب الروماني، ولكنه ما أن مات حتى شرع هذا الشعب ولَمّاَ تزل ولائمه في فمه، وعطاياه بذاكرته، في تكريمه وتكديس المقاعد المنتثرة في الميدان العام ليوقد منها النار التي تحوله تراباً، ثم بنى له نصباً تذكارية ملقباً إياه بأبي الشعب(هذا ما جاء بعالية النصب)، وأبدى له من مظاهر التشريف ميتاً ما لم يكن ينبغي إبداؤه لحي إلا إذا أردنا أن نستثني قاتليه .ثم لقب وكيل الشعب هذا أيضاً لم ينسه الأباطرة الرومان التلقب به الواحد بعد الآخر، لما كان لهذه الوظيفة من الحرمة والقداسة، ثم لأن القانون اقتضاها للدفاع عن الشعب وحمايته في ظل الدولة.بذا أرادوا اكتساب ثقة الشعب كأنما كان هم هذا الأخير هو سماع الاسم لا الشعور بنتائجه.وما يُحسن عنهم صنعاً طغاة اليوم، الذين لا يرتبكون شراً مهما عظم دون أن يسبقوه بكلام منمق عن خير الجماعة وعن الأمن العام: لأنك تعلم حق العلم، يا لونجا ، ثبت الصيغ المحفوظة التي يريدون بها تغذية فصاحتهم، وإن جانبت الفصاحة غالبيتهم لنفورها من وقاحتهم.كان ملوك آشور، ومن بعدهم ملوك ميديا، لا يظهرون علانية إلا بعد وقت متأخر بقدر المستطاع، ليتركوا الجمهور في شك أهم بشر أم شيء يزيد، وليُسّلموا لهذه الأحلام أناساً لا ينشط خيالهم إلا حيث يعجزون عن الحكم على الأشياء عياناً.هكذا عاشت في ظل الإمبراطورية الآشورية شعوب متعددة ألفت خدمة هذا السيد الغامض، وخدمته طائعة بمقدار جهلها أي سيد يسودها، لا بل هي كانت لا تكاد تعلم إن كان لمثل هذا السيد وجود، فخشيت جميعها بعين الاعتقاد واحداً لم يره أحد قط.كذلك ملوك مصر الأوائل كانوا لا يظهرون علانية إلا وقد حملوا على رؤوسهم حيناً قطاً، وحيناً فرعاً، وحيناً ناراً، تقنعوا بها وتبرجوا كالمشعوذين، وبذا أثاروا بغرابة المنظر المهابة والإعجاب في نفوس رعاياهم، وكان أجدر بالناس لولا فرط حمقهم وعبوديتهم ألا يروا في هذا كله، على ما اعتقد، إلا مدعاة للهو والضحك .إنه لأمر يدعو إلى الرثاء أن نسمع بأي الوسائل تذرع الطغاة حتى يؤسسوا طغيانهم، وإلى أي الحيل التجئوا دون أن تتخلف الكثرة الجاهلة في كل زمان عن ملاقاتهم، فلا يرمون شبكة إليها إلا ارتموا فيها، وخلا تغريرهم بها من المشقة حتى أنهم إنما ينجحون في خداعها أكبر النجاح حين يسخرون منها أكثر السخرية.

ثم ماذا أقول عن محرقة أخرى تلقفتها الشعوب القديمة كأنها نقد لا زيف فيه؟ لقد دخل في اعتقادها أن إبهام بيرَّوس ، ملك الإيبيريَّين، كان يصنع المعجزات ويشفي أمراض الطحال، ثم جمّلوا القصة فأضافوا أن هذا الإصبع قد ظهر سليماً وسط الرماد، لم تصبه النار بأذى بعد أن احترق الجسد كله.هكذا يصنع الشعب نفسه الأكاذيب كيما يعود ليصدقها.هذه الحكايات قد سجلها كثير من الناس، ولكن على نمط لا يترك مجالاً للشك في أنهم لم يعدوا نقلها عما تردد في جلبة المدن، وعلى أفواه العامة.منها أن فاسياسيان رجع من آشور فمر بالإسكندرية متوجهاً إلى روما، فصنع في طريقه المعجزات: قوّم العُرج ورد البصر إلى العُمي، وأتى عجائب أخرى من هذا القبيل، لا يغفل في رأيي عن زيفها إلا من أصابه عمى يغلب عمى الذين ينسب إلى فاسياسيان شفاؤهم.إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال ما يصيبه على رؤوسهم من الإساءة إنسان مثلهم، لهذا احتموا بالدين واستتروا وراءه، ولو استطاعوا لاستعاروا نبذة من الألوهية سنداً لحياتهم الباطلة.إليك بسالونيوس الذي تروي العرافة، في ملحمة فرجل، أنه يرقد الآن في قاع الجحيم عقاباً على هزئه بالناس إلى حد جعله يريد تقمص جوبيتر أمامهم:

لحقه شديد العذاب إذ ابتغى

محاكاة جوبيتر رعده وصواعقه

فشد أربعة جياد صواهل إلى عربته الفانية

ثم علاها ممسكاً بشعلة من النار الساطعة

و جرى في سوق إليدا ناثراً الرعب بين سكانها

المجنون ادعى ملك السماء وادعى بالصاج

محاكاة الرعد الذي يأبى دويه المحاكاة !

و لكن جوبيتر رماه بالصاعقة الحقة

فقلب عربته في زوبعة من النار

غطتها هي وجيادها وربها وصاعقته.

كان النصر قصيراً ولكن العذاب مقيم.

فإذا كان هذا المأفون لا يزال يلقى هذا العقاب في الدار الأخرى، بينا هو لا يعدو أن ركبته نزوة من الحمق، فيقيني أن من تذرعوا بالدين تحقيقاً لشرورهم ينتظرهم كيل أعظم.

أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموزاً لا أدري كنهها كالضفادع، والزنابق، والقارورة المقدسة، والشعلة الذهبية ، وكلها أشياء لا أريد أياً كانت ماهياتها أن أثير التشكك فيها ما دمنا، وما دام أجدادنا، لم نر مدعاة للارتداد عن تصديقها، إذ وهبنا على الدوام ملوكاً طيبين في السلم، شجعان في الحرب، حتى ليخال المرء أنهم وإن ولدوا ملوكاً لم تسوهم الطبيعة على غرار الآخرين، وإنما اختارهم الله القدير قبل أن يولدوا لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها .وحتى لو لم يكن الأمر كذلك لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا، ولا نقدها نقداً دقيقاً، حتى لا أفسد جمالاً قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار وباييف وبلاي ، الذين لا أقول أنهم حسنوا شعرنا، بل خلقوه خلقاً جديداً، وبذا تقدموا بلغتنا تقدماً يجعلني أجرؤ على الأمل في ألا تعود بعد ذلك لليونانية واللاتينية مزية عليها سوى حق الأقدم.فلا شك في أني سوف أسيء الآن إلى نظمنا(ولا أنكر أني استخدم هذه الكلمة طواعية، لأنه إذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظم صنعة آلية، فمن الحق أيضاً أن هناك عدداً كافياً من القادرين على استرجاع نبله ومقامه الأول)، أقول أني أسيء الآن إلى نظمنا لو أني جردته من حكايات الملك كلوفيس الجميلة، بعد أن رأيت بأي رشاقة وسهولة يسبح فيها وحي رونسار في فرنسويّاته.إني أحس أثر الرجل في المستقبل، إني أعرف توقد فكره وأعلم لطفه: لسوف يوفي الشعلة الذهبية حقها مثلما صنع الرومان بدروعهم: دروع السماء الملقاة على أرضنا .

كما يقول فرجيل، لسوف يرفق بقارورتنا رفق الاثينيين بسلّة إريكتون ، ولسوف يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد الأثينيون بغصن الزيتون، الذي لا زالوا يحفظونه في برج مينرفا.لهذا كنت أتجاوز الحد يقيناً لو أني أردت تكذيب كتبنا وجريت في مراتع شعرائنا.ولكني لكي أعود إلى موضوعي الذي لا أدري كيف أفلت مني خيطه، ألحظ أن الطغاة كانوا يسعون دائماً كيما يستتب سلطانهم، إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب، بل بالإخلاص كذلك .فكل ما ذكرته حتى الآن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليعلموا الناس كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب.

إني أقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما أعتقد زنبلك السيادة وسرها، ويكمن أساس الطغيان وعماده.إن من يظن أن الرمّاحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ، في رأيي، خطأً كبيراً.ففي يقيني أنهم إنما يعمدون إليها مظهراً وإثارة للفزع لا ارتكازاً إليها.فالقوّاسة تصدّ من لا حول لهم ولا قوة على اقتحام القصر، ولكنها لا تصدّ المسلحين القادرين على بعض العزم.ثم أن من السهل أن نتحقق أن أباطرة الرومان الذين حماهم قوَّاسوهم يقلون عدداً عمن قتلهم حراسهم.فلا جموع الخيالة، ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة، تحمي الطغاة.الأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى، ولكنه الحق عينه: هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية، في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية، يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه، وخلان ملذاته، وقواد شهواته، ومقاسميه فيما نَهَبَ.هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها، بل بشروره وشرورهم.هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع، يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم الأقاليم، وإما التصرف في الأموال، ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم، وليطيحوا بهم متى شاؤوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاءً إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم.ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك !

إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة وسعَهُ أن يرى لا ستة آلاف، ولا مائة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل، مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب إليه الآلهة جميعاً.من هنا جاء تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس ، وجاء خلق المناصب الجديدة، وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه، كل هذا يقيناً لا من أجل إصلاح العدالة، بل أولاً وأخيراً من أجل أن تزيد سواعد الطاغية.خلاصة القول إذاً هي أن الطغاة تُجنى من ورائهم حظوات، وتجنى مغانم ومكاسب، فإذا من ربحوا من الطغيان، أو هكذا هُيَءَ إليهم، يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية.فكما يقول الأطباء إن جسدنا لا يفسد جزء منه إلا إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء الفاسد، دون غيره، كذلك ما أن يعلن ملك عن استبداده بالحكم إلا التف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها، وما أعني بذلك حشد صغار اللصوص والموصومين الذين لا يملكون لبلد نفعاً، ولا ضراً، بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ، يلتفون حوله ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة، وليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير* .هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد، وفريق يلاحق المسافرين، فريق يقف على مَرْقَبة وفريق يختبئ، فريق يقتل وفريق يسلب.ولكنهم وإن تعددت المراتب بينهم، وكانوا بعضاً توابع وبعضاً رؤساء، إلا أنه ما من أحد منهم إلا خرج بكسب ما، إن لم يكن بالغنيمة كلها فيما انتشل.ألا يحكى أن القراصنة الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم حداً لم يجعل بداً من إرسال بومبي أعظم قواد العصر لمهاجمتهم، بل هم فوق ذلك قد جرّوا إلى التحالف معهم عدداً كبيراً من المدن الجميلة، والثغور العظيمة، التي كانوا يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أسلابهم؟

هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض، يحرسه من كان أولى بهم الاحتراس منه لو كانوا يساوون شيئاً، وهكذا يصدق المثل: لا يفل الخشب إلا مسمار من الخشب ذاته.ها هو ذا يحيط به قواسته وحراسه وحاملوا حرباته، لا لأنهم لا يقاسون الأذى منه أحياناً، بل لأن هؤلاء الضالين الذين تخلى اللّه عنهم، وتخلت الناس، يستمرئون احتمال الأذى حتى يردوه لا إلى من أنزله بهم، بل إلى من قاسوه مثلهم دون أن يملكوا إلا الصبر.غير أني إذ أنظر إلى هؤلاء الضالين الذين يجرون وراء كُرَات الطاغية، حتى يحققوا مآربهم من وراء طغيانه، ومن وراء عبودية الشعب على حد سواء يتملكني أحياناً كثيرة العجب لرداءتهم، وأرثي أحياناً لحماقتهم: فهل يعني القرب من الطاغية، في الحقيقة، شيئاً آخر سوى البعد عنالحرية واحتضانها بالذراعين، إذا جاز التعبير؟

ليتركوا ولو حيناً مطامعهم، وليتجردوا ولو قليلاً من بخلهم، ولينظروا بعدئذ إلى أنفسهم وليقبلوا على معرفتها: لسوف يرون عندئذ أن أهل القرى والفلاحين، الذين يحلو لهم دوسهم بالأقدام طالما استطاعوا، وتحلو لهم معاملتهم معاملةً أشر من معاملة السخرة والعبيد، سوف يرون أن هؤلاء المستضعفين هم مع ذلك أسعد حظاً وأوفر حرية بالقياس إليهم.فالأجير والحرفي، وإن استعبدا، يفرغان مما ضُرب عليهما بأداء ما يطلب إليهما.ولكن الطاغية يرى الآخرين يتزلفون إليه ويستجدون حظوته، فعليهم لا العمل بما يقول وحسب بل عليهم أيضاً التفكير فيما يريد، وغالباً ما يحق عليهم أن يحدسوا ما يدور بخلده حتى يروضه.فطاعتهم له ليست كل شيء بل تجب أيضاً ممالأته، والانقطاع له، ويجب أن يعذبوا أنفسهم، وأن يَنفقوا في العمل تحقيقاً لمراميه.ثم لمّا كانت نفوسهم لا تلذ لهم إلا إذا لذت له، فليتركوا أذواقهم لذوقه، وليتكلفوا ما ليس منهم، وليتجردوا من سليقتهم، عليهم الانتباه لكلماته وصوبه، ولما يبدر منه من العلامات، ولنظراته، لينزلوا عن أعينهم وعن أرجلهم وأيديهم، وليكون وجودهم كله رصداً من أجل تحسس رغباته وتبين أفكاره.أهذه حياة سعيدة؟ أتسمى هذه حياة؟ هل في الدنيا شيء أقسى احتمالاً، لا أقول على رجل ذي قلب، ولا على إنسان حسن المولد، وإنما على كائن حظي بقسط من الفهم العام، أو له وجه إنسان لا أكثر؟ أي وضع أشد تعساً من حياة على هذا النحو لا يملك فيها المرء شيئاً لنفسه، مستمداً من غيره راحتَهُ وحريته وجسدهُ وحياته؟

لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها الأملاك: كما لو كان في مستطاعهم أن يغنموا شيئاً، بينا هم لا يستطيعون أن يقولوا أنهم يملكون أنفسهم.يودون لو حازوا الأشياء كأن للحيازة متسعاً في ظل الطاغية، ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة* على أن يسلب الجميع كل شيء، دون أن يترك لأحد شيئاً يمكن القول إنه له.إنهم يرون أنه ما من شيء يعرض الناس لقسوته مثل الخير، وأنه لا جريمة نحوه تستحق الموت في نظره كحيازة ما يستقل به المرء عنه.إنهم يرون أنه لا يحب إلا الثروات، ولا يكسر إلا الأثرياء.وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزار كي يمثلوا بين يديه، ملأى مكتنزين، ولكي يستثيروا جشعه.هؤلاء المقربون قد كان أولى بهم ألا يتذكروا من غنموا من الطغاة كثيراً، بل أولئك الذين بعد أن كدسوا المغانم بعض الوقت خسروا المغانم والحياة جميعاً، كان أولى بهم أن يتعظوا لا بالكثرة، التي أثرت، بل بالقلة التي استطاعت الاحتفاظ بما كسبت.لنستعرض كل القصص القديمة ولنستعد تلك التي تعيها ذاكرتنا: لسوف نرى ملء عيوننا إلى أي مدى كثر عدد الذين اجتذبوا آذان الطاغية بطرق بخسة، محركين سوء جِبلَّتهم، أو مستغلين غفلتهم، ثم إذا هم بعد ذلك يُسحقون في النهاية سحقاً بأيدي الأمراء أنفسهم، لا يعدل مقدار السهولة التي علّوهم بها إلا مقدار ما خبروه من انقلاب إلى ضربهم.هذا العدد الغفير من الناس، الذين عاشوا في حمى هذه الكثرة من الملوك الأرذال، لم يسلم منهم يقيناً إلا القليل، إن لم نقل لم يسلم منهم أحد، من قسوة الطاغية التي بدأوا بتأليبها ضد الآخرين:ففي معظم الأحيان يثرى الغير بما يسلبون بعد أن أثروا هم بما سلبوا في ظل ما تمتعوا به من الحظوة.

أما القوم الأفاضل، لو وجد بينهم رجل واحد يحبه الطاغية، فهم مهما لقوا من قبوله، ومهما سطعت فيهم الفضيلة والنزاهة اللتان لا يقربهما أحد، ولو كان أردأ الناس صنفاً، إلا أثارتا فيه بعضاً من الاحترام، هؤلاء القوم لا دوام لهم في كنف الطاغية: فهم يؤولون إلى ما آل إليه الجميع، ولا يجدون مفراً من أن يعرفوا بخبرة مرة ما هو الطغيان.خذ مثلاً هؤلاء الأفاضل: سينيكا، وبورّوس، وترازياس .الأولان منهما كان من نكد طالعهما أن عرفا الطاغية فترك لهما إدارة أشغاله، وأكن لهما التقدير والإعزاز، خاصة وأن أولهما كان قد تعهده في طفولته، وكان له في ذلك ضمان لصداقته، ولكن ثلاثتهم يشهد موتهم الأليم شهادة كافية بأن حظوة السيد الرديء ليس أقل من ضمانها.وفي الحق أي ضمان يرتجى من رجل قسا قلبه حتى شمل كرهُه مملكتَه المذعنة لأمره، ونضبت فيه معرفة الحب، فلم يعد يعرف إلا كيف يعدم نفسه ويدمر إمبراطوريته؟

فلو قلنا إن هؤلاء الثلاثة إنما تردوا في هذه العواقب لحسن خلقهم، كفى أن نسدد النظر حول نيرون نفسه لنرى أن الذين لقوا حظوته واستقروا فيها بأرذل الوسائل، لم يدم عهدهم زمناً أطول.من الذي سمع عن حب استسلم له صاحبه بلا حد، عن إعزاز بلا قيد؟ من الذي قرأ في أي زمن من الأزمنة عن رجل ولع بامرأة ولعاً عنيداً ملازماً كولع نيرون هذا قبل بوبيا ؟ ثم بعدئذ دس لها السم* ! ألم تقتل أمه أجريبّينا زوجها كلوديوس حتى تفسح له الهيمنة على الإمبراطورية؟ ألم تبذل ما وسعت، ألم تُقبل طواعية على كل إثم إعلاء له؟ ومع هذا ما لبث إبنها هذا، رضيعها، امبراطورها الذي صنعته بيدها، ما لبث بعد أن جحدها مراراً، أن انتزع حياتها في النهاية، وإنه لعقاب ما كان أحد ينكر أنه جزاؤها المستحق لو أن يداً أخرى أنزلته بها غير يد من مَكّنته.أي رجل كان أسهل انقياداً، وأكثر سذاجة، أو بالأصح أكثر بلهاً من الإمبراطور كلوديوس؟ أي رجل ركبته امرأة مثلما ركبته مسالينا ؟ ومع هذا أسلمها أخيراً ليد الجلاد ! إن الغباوة تلازم الطغاة دائماً، حتى حين يريدون إسداء الحسن إذا أرادوا إسداءه، ولكنهم حين يريدون البطش بالمقربين إليهم يستقيظ فيهم، لا أدري كيف، القليل من فصاحتهم.ألا تعلم هذه النادرة التي فاه بها هذا الذي رأى صدر المرأة، التي شغف بها أيما شغف، حتى بدا كأنه لا يستطيع الحياة دونها، رآه عارياً فداعبها بهذه المزحة: هذا العنق الجميل قد يقطف قريباً لو أردت؟ لهذا كان معظم الطغاة القدامى يلاقون حتفهم لم يستطيعوا الاطمئنان إلى إرادة الطاغية بقدر ما حذروا قوته.هكذا قَتل دُومِيسيانَ اتينْ، وقتلت كومودس إحدى محظياته، كما قتل أنطونان على يد مارسان، وهكذا في سائرهم .

إن من المستيقن أن الطاغية لا يلقى الحب أبداً، ولا هو يعرف الحب.فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر، إنها لا تعرف لها محلاً إلا بين الأفاضل، ولا تؤخذ إلا بالتقدير المتبادل وليس بإغداق النعم.فالصديق إنما يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته، ضمانته هي استقامته وصدق طويته وثباته.فلا مكان للصداقة حيث القسوة، حيث الخيانة، حيث الجور.فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا، لا حب يسود بينهم وإنما الخشية، فما هم بأصدقاء بل هم متواطئون.

و حتى لو صرفنا النظر عن هذه العوائق لتبينا أن من الصعب أن يضم فؤاد الطاغية حباً يوثق به، لأنه إذا علا الجميع، وعدم كل رفيق، قد خرج بهذا عينه عن حدود الصداقة التي مقعدها الحق هو المساواة، والتي تأبى دوماً التعثر في خطواتها المتساوية أبداً.لهذا نرى(فيما يقال) شيئاً من القسط بين اللصوص عند اقتسام الغنيمة، لأنهم متزاملون متكافلون، وإذا كانوا لا يتبادلون الحب فهم على الأقل يتبادلون الحذر، ولا يرغبون في إضعاف قوتهم بالتفرق بدل الوحدة.أما الطاغية فما يستطيع المقربون إليه الاطمئنان إليه أبداً، ما دام قد تعلم منهم أنفسهم أنه قادر على كل شيء، وأنه لا حق.ولا واجب يجبرانه، وما دام تعريفه صار يقوم في اعتبار إرادته العقل وفي انتفاء كل نظير وسيادة الجميع.أليس أمراً يدعو إلى الرثاء أن كل هذه الأمثلة الواضحة، وهذا الخطر الدائم، لا تدعو أحداً إلى الاتعاظ بها، وأن يتقرب إلى الطاغية طواعية هذا العدد الغفير من الناس دون أن يجد أحد الحصافة والجرأة اللتين تمكناه من أن يقول ما قاله الثعلب، على ما ورد في الحكاية، لملك الغابة الذي اصطنع المرض: «كنت أزورك طواعية في عرينك لولا أني أرى وحوشاً كثيرة تتجه آثارها قدماً إليك، و ما أرى أثراً يعود».

هؤلاء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية، وينظرون مشاهد بذخه وقد بهرتهم أشعتها، فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم إنما يلقون بأنفسهم في اللهب، الذي لن يتخلف عن إهلاكهم.هكذا صنع الساتير الطفيلي، الذي تحكي الحكاية أنه شهد النار التي اكتشفها بروميثيوس وهي تضيء، فرأى لها جمالاً فائقاً فذهب يقبّلها فاحترق.مثله مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في النار أملاً في الحظوة بلذة من نورها، فإذا هي تعرف قوتها الأخرى: قوتها الحارقة، كما يقول الشاعر التوسكاني .ولكن لنفرض أن هؤلاء الأغرار يفلتون من قبضة من يخدمون، أيعلمون أي ملك آت من بعد؟ إذا كان طيباً وجبت الإجابة عما صنعوه ولِمَ صنعوه، وإذا كان سيئاً شبيهاً بسيدهم فلسوف يصحبه أيضاً أتباعه الذين لا يقنعون بالاستحواذ على مكان الآخرين، بل تلزمهم أيضاً في معظم الأحايين أملاكهم وحياتهم.أيمكن إذاً وهذا مدى التهلكة، ومدى قلة الأمن، أن يكون هناك امرؤ يرغب في ملئ هذا المكان البائس ليقاسي خدمة سيد هذا مبلغ خطره؟ أي عذاب، أي استشهاد هذا، أيها الرب الحق، أن يقضي المرءُ النهار بعد الليل وهو يفكر كيف يرضي واحداً، بينما هو يخشاه مع ذلك أكثر مما يخشى أي إنسان آخر على وجه البسيطة، أن يكون عيناً دائمة البصّ وأذناً تسترق السمع، حتى يحدس مأتى الضربة القادمة، وموقع المصائد، وحتى يقرأ في وجوه أقرانه أيهم يغدر به، يبتسم لكل منهم وهو يخشاهم جميعاً، لا عدواً سافراً يرى ولا صديقاً يطمئن إليه، الوجه باسم والقلب دام، لا قبل له بالسرور ولا جرأة على الحزن!

و لكن الأغرب هو أن نرى ما يعود عليهم من هذا العذاب الشديد، والكسب الذي يستطيعون توقعه من مكابدتهم وحياتهم البائسة.فالذي يقع هو أن الشعب لا يتهم الطاغية أبداً بما يقاسيه، وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه: هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوبُ والأممُ، ويعرفها العالم قاطبة، حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها، ويصبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم، كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معاً في قلوبهم، ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة.هذا هو الشرف، وهذا هو المجد، اللذان ينالون جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما شقا، ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه، فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم، يسود بمداده أسماء آكلي الشعوب هؤلاء، ويمزق سمعتهم في ألف كتاب، وحتى عظامهم ذاتها، إذا جاز هذا التعبير، يمرغها الوحل عقاباً لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.

لنتعلم، إذاً.لنتعلم مرة أن نسلك سلوكاً حسناً.لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا، أو من محبة الفضيلة ذاتها، أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقيناً بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء وتبجيله، ولهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا، والقاضي العادل في أخطائنا.أما فيما يتعلق بي فإني لأرى، ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله، وهو الغفور الرحيم من الطغيان، إنه يدخر في الدار الأخرى للطغاة وشركائهم عقاباً من نوع خاص.