الشعور بالأمن والثقة بالأفكار
من Jawdat Said
أيها المسلم، أيها المؤمن! لا تلبس إيمانك بالدنس والظلم والجاهلية، لا تنس الآيات التي سقتها لك من سورة الأنعام في محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه، إبراهيم الذي شعر بسلامة الأفكار، وسلامة الفهم، والإدراك الصحيح للمشكلة؛ حدثت له الاستنارة والهداية: (أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ)، عن الشعور بالهداية، وبالهيمنة الفكرية؛ يزيل الشعور بالخوف، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: (ولا أَخَافُ)، هذا الشعور يعبّر عن حالة فكرية رائعة، لا يمكن حدوثها بالادعاء، ولا تتأتى إلا بتوافق تام بين الشعور واللاشعور في موضوع الأمن، لهذا علينا أن نفهم كلمة: (لا أَخَافُ)، وأن نحللها ونفككها، ونجزئها إلى عناصرها الأولية.
حين قال إبراهيم كلمة: (لا أَخَافُ)؛ حاول أن يشرحها ويحللها أيضاً فقال: (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) الأنعام: 6/80-81، أين سلطان الخوف، وأين سلطان الأمن؟ من ذا الذي يتسلط عليه الخوف، ومن ذا الذي يأتيه الأمن؟
الخوف في التحليل: هو الخشية من وقوع الخسارة في مالٍ أو شرف أو مكانة، وهو يحدث من تقدير الموقف، ومن التصورات التي يمتلكها الإنسان على ما يتمتع به، وأنه لن يسلب شيئاً يملكه، وقد علل إبراهيم عليه السلام حدوث الخوف وعدمه،ولكن علينا أن نُرجع معنى الشرك أيضاً إلى عناصره الأولية.
لقد كان إبراهيم منسجماً مع نفسه وأفكاره، من البداية وحتى النهاية، فهو الذي واجه الأصنام وعبادتها في مجتمعه بالتساؤل الإبراهيمي الكبير: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ويَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ قَالُوا: بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) الشعراء: 26/72-74، كان يعود إلى المرجعية الأساسية، إلى مرجعية النفع والضرر، وبهذا المعنى كان إبراهيم هو البراغماتي الأول الذي سأل عن نفع الأشياء وضررها، أما الذين كانوا يحاجونه؛ فكانت مرجعيتهم تستند إلى الآباء: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
لم يضيع إبراهيم المرجعية الأساسية، ألا وهي قانون الله في معرفة الحق والباطل: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) الرعد: 13/17، هذا هو القانون الذي يحكم العالم، إنه روح العالم الذي تجسد في الإنسان، وهو يعني أن الأنفع هو الذي سيبقى، وأن الأقل نفعاً سيزول مهما طالت حياته، ومهما امتد عرضاً وعمقاً.
الخير والأبقى هو الذي سوف يستمر، والزبد سوف يذهب جفاءً غير مأسوفٍ عليه، ولن تبكي عليه أرض ولا سماء، لأن الذي سيأتي بدلاً منه هو الأنفع.
إن الذي يدرك قانون التاريخ وسنة الله وميزان النفع والضرر؛ يتخلص من الشرك، ويزول عنه الخوف، ويصبح مثل إبراهيم عليه السلام الذي قال: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْن) الأنعام: 6/81.
بعد هذا التحليل، نعلم مقام إبراهيم عليه السلام في تاريخ النبوة، وفي تاريخ المرجعية التي تفصل الحق عن الباطل: (أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) آل عمران: 3/68، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) التوبة: 9/114.