الدين والقانون، بحث في أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية

من Jawdat Said

اذهب إلى: تصفح, ابحث
كتب جودت سعيد

الدين والقانون


Aldeenwalkanon.gif
تحميل الكتاب
المقدمة
أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية
الإنسان في الدين والقرآن
وحدة النبوات
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
العلماء ورثة الأنبياء
ختم النبوة
الخروج من الخوارق إلى السننية
ارتباط آيات الآفاق والأنفس بآيات الكتاب
كلمة السواء
لا إكراه في الدين
قانون النسخ
السلطة للجهاز العصبي
قصة آدم وزوجه
قصة ابني آدم
ما الدين وما القانون؟
السلام العالمي
شروط القتال في الإسلام
عصر الفتن


للبحث في القانون والدين ينبغي أن نبحث في الإنسان الذي يفرض كينونته الخاصة : الدين والقانون . وسأحاول تناول الموضوع من جانبين :

1- من الناحية البيولوجية والنفسية والتاريخية .

2- من الناحية الدينية كما يعرض القرآن لهذه القضية ، من وجهة نظري الخاصة في التفسير فقد يتداخل الجانبان أثناء البحث ، وإن كنت سأحرص على البقاء في الفصل بينهما والاستعانة بهما معاً . في البدء ينبغي أن نحدد هذين الجانبين اللذين أتحدث عنهما والذين سميتهما الناحية البيولوجية والناحية الدينية ، ولأحدد هذين الجانبين بدقة أكثر يمكن أن أقول : إن الموضوع يتعلق بالواقع الذي نتعامل معه ، فهو أمامنا بذاته وبماديته ، والذي نحن جزء منه أيضاً ، وتعلق بتصورنا نحن لهذا الواقع ، فمن هذا الجانب أجعل الدين أيضاً تصوراً مهما كان مصدره ، لأنه لا يمكن أن يصل إلينا إلا تصوراً وبواسطة الرموز .

ولأزيد الموضوع وضوحاً أكثر ليكون انطلاقنا من أرضية صلبة وواضحة ينبغي أن نفرق بين الموضوعات التي أمامنا وبين الصور الذهبية التي تتكون عندنا نحوها ، ولأزيد الموضوع وضوحاً ينبغي أن أضرب مثلاً : ففي الإنجيل : « كلم به يسوع الجموع بأمثال ، وبدون مثل لم يكن يكلمهم » متى ( 13:24 ) .

وفي القرآن : ( وتِلكَ الأمثالُ نَضْرِبُها للناسِ وما يعقلُها إلا العالمونَ ) ] العنكبوت : 29/43 [ .

ومن غير أن نخوض في الجدلية القائمة بين القاعدة والمثال ، ينبغي أن نعرف أن الأمثلة منها تستنبط القواعد ، وأن القاعدة مصدرها الوقائع ، والوقائع هي الأمثلة ، والمثل الذي أريد أن أضربه هنا لأفصل بين الوقائع والصور الذهنية الشّمسُ التي يضرب بها المثل في الوضوح والظهور في جانب كم كانت الصُّور الذهنية للبشر خاطئة في تفسير ظاهرة الليل والنهار ، وكيف أخطأ البشر جميعاً في فهم الظاهرة التي كانوا يعيشونها .

حتى إن الإنسان هو الذي كشف خطأ تصور الناس في ظنهم أن الشمس تدور حولنا ، وأن الأمر بالعكس تماماً ، فنحن الذين ندور حولها وأمامها ، وليست هي التي تدور حولنا .

إن هذه الصورة الذهنية القديمة كان الناس حريصين عليها ، وعندهم استعداد لأن يموتوا من أجلها ، وأن يرسلوا الآخرين إلى الموت بسببها .

فإذا كانت هذه الشمس مضرب المثل في الوضوح صارت أيضاً مضرب المثل في الخفاء ، إذا كان في الإمكان الوقوع في الخطأ إلى هذه الدرجة من قبل الناس جميعاً ، فما هو التفسير الذي يمكن أن نقول عنه : إنه لا يتطرق إليه الخطأ حتى نسمح لأنفسنا بأن نحكم على الناس بالموت لأجل أفكارهم (صورهم الذهنية) ؟ كما حدث مع جاليلو الذي أظهر تراجعه ، ويده على الكتاب المقدس أمام العالم الذي أنكر رؤيته .

بهذا التسلسل الذي قدمته ، والمثل الذي ضربته ، يمكن لنا أن نفرق بين العالم الذي نعيش فيه ونحن جزء منه أيضاً . فهذا الاتصال والانفصال بين العالمين عالم الواقع والخيال ، أو الصورة الذهنية البيولوجية بواسطة الجهاز العصبي عند الإنسان موضعُ جدلٍ وبحث من قبل الإنسان .

ويمكن أن نشبه فكر الإنسان في هذا الموضوع برؤيته البصرية فالأشياء البعيدة جداً تنفصل عنا ، ولا نراها ، ولا نحس بها ، ولا نعترف بها ، والأشياء القريبة جداً قد ننغمس فيها ، ولا تعود لنا القدرة على رؤيتها لقربها وانغماسنا فيها ، فلابد من مسافة معينة لتكون في متناول إحساسنا وتأملنا وتعاملنا معها . ويوسع الإنسان هذه المسافة التي يمكن فيها من التعامل مع الوجود المحيط به وذاته .

والآن سأتناول ما سبق أن طرحته عناوين بالإضاءة مستعيناً بالرؤية التاريخية للإنسان ، والرؤية الدينية النبوية من خلال القرآن ، ويهمني إضاءة مشكلة العنف التاريخي والديني حيث إن الإنسان محور أساسي في بحث أي مشكلة وجودية . فمن دون الإنسان لا يوجد بحث .

فما هو الإنسان في التاريخ وفي الدين وفي القرآن ذاته ؟ .

أولاً من الناحية التاريخية إن الناس قبل قرون قليلة لم يكونوا يعرفون عن تاريخ الإنسان قبل آلاف قليلة شيئاً . ولكن علم الإنسان بالإنسان في القرون الأخيرة امتد إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين ، كما دلّت عظام (لوسي) ، وعلم الإنسان عن الإنسان أنه عاش قبل أن يعرف إيقاد النار ، وقبل أن يستأنس الحيوان ، وقبل أن يعرف الزراعة ، إلى درجة أنه يمكن أن نقول إن الإنسان كان كبقية الكائنات الحية ، لم يكن يتدخل في توجيه حياته ، ولم يكن ينتج غذاءه ، ولكن هذه القوة الجديدة الممنوحة للإنسان متى بدأت وكيف انفصل الإنسان عن بقية الكائنات بهذه الإمكانية ؟ .

إن الإنسان مكبّ على التعرف على مسيرة خلق الإنسان بدأب لا يعرف التوقف ، وكل يوم يزداد علماً وسيطرة .

إن هذه الإمكانية العجيبة في سلطة الإنسان كامنة في جهازه العصبي النامي القابل للاستيعاب ، ولعل القابلية لنقل التجربة إلى الآخر بواسطة الكلام أو تسمية الأشياء هي الإمكانية العجيبة التي انضافت إلى الإنسان ، وبهذا انفصل الإنسان عن بقية الكائنات هذا الانفصال البعيد والمنقطع ، ويمكن أن نقول : إن كل الكائنات الحية الأخرى تولد وهي تحمل في جيناتها سلوكها والمعرفة التي ستعيش بها ، ولكن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يولد ولا تولد معه المعرفة التي سيعيش بها ، وإنما يكتسبها بعد ذلك ، وإنه يحمل الاستعداد للتلقي والاستيعاب هو الشيء المدهش الذي جعل سلطان وقدرة الإنسان على التزايد المستمر ، لمعرفة الكون الذي نعيش فيه ، ولمعرفة ذاته . فقد امتدت معرفته بالوجود إلى حافة الزمان والمكان . وامتد زمانه ومكانه إلى ما يزيد عن عشرين ملياراً من السنين زماناً ومكاناً ، ودخل إلى داخل الذرة في الوجود ، كما دخل إلى سر وجوده في جيناته إلى أن قالوا : بدأ اليوم الثامن في توسع معرفة الإنسان ، وهذه المعرفة التي اكتسبها الإنسان تبعث فينا الخبال ؛ لأن نفكر في الكائنات التي كانت تعمر الأرض قبل سبعين مليون سنة ، تلك الكائنات الضخمة الهائلة الجثة والصغيرة الدماغ حيث الإنسان الآن يعيش ، هذا الكائن الصغير الجسد وكبير الدماغ ، فماذا يمكن أن يكون عليه الكائن الذي سيعمر الأرض بعد سبعين مليون سنة من تاريخنا الآن ؟

لابد أن الإنسان سيكون له دوره الواعي في تطور ذلك الكائن الذي سيكون .

وعلى قدر عمق معرفة الإنسان بالماضي كيف كان وكيف ازداد نموه ستكون قدرة معرفته للمستقبل وإمكاناته الكامنة فيه . وهذه المعرفة العميقة في الماضي والممتدة في المستقبل ، تكسب الإنسان تفاؤلاً وإعجاباً بالإبداع للنظام الذي يحكم الكون ويخرجه من التشاؤم . فالطفل العاجز عن خدمة نفسه لا يعتبر ناقصاً في الإبداع ، حين نعرف ما يمكن أن يتحول إليه ، فلهذا إن الرؤية اللحظية تجعل الإنسان في ريبة وتشوش ويأس يقلل من فعاليته . لذا يمكن أن نقول : إن الإنسان إنسان بقدر ما يعلم من تاريخ الإنسان برسوخ ووضوح .

وإن المعرفة التاريخية الممتدة المستوعبة هي روح الإنسان ، واستخدام جهازه العصبي القابل للاستيعاب يكافئه ، ومن دون هذه المعرفة ورسوخها يكون النقص والفساد والعكس بالعكس . وغياب هذه الصورة الشاملة عند كثير من الأسماء اللامعة ، يجعلها مبعث تشاؤم ورؤية لجوانب النقص وعجز عن رؤية جوانب الإبداع المستمر الذي لم يفقد هدفه قط خلال تاريخ الإنسان ، وتاريخ الوجود مع كل القصور الذي يمكن أيضاً بوضوح .

الإنسان في الدين والقرآن :

وهنا قبل أن أبدأ بعرض الفكرة الدينية عن الوجود والإنسان بعد العرض التاريخي ، مفيد أن نلفت النظر إلى أهمية التطور الحاسم الذي فصل الإنسان عن بقية الأحياء ، وهو الجهاز العصبي المستوعب ، وجهاز النطق المرسل ، حيث ترتب على هذا الإبداع المبهر إمكانية نقل الخبرة (المعرفة) من الجهاز العصب إلى الجهاز العصبي الآخر بالرمز الصوتي ، فإن الجهاز العصبي يستوعب الأشياء بالرمز الضّوئي (رؤية الأشياء) ، ولكن ما استوعبه الفرد بخبرته الخاصة ورؤيته الضّوئية ، يمكن أن ينقله إلى الآخر بالرمز الصوتي الكلامي . ثم ابتكر الإنسان المبدع تحويل الرموز الصوتية إلى رموز ضوئية بالكتابة ، فهنا حدث اقتصاد كبير للتبديد الذي كان يتم بموت الإنسان وموت خبرته معه ، فقد ابتكر وسيلة يحفظ فيها خبرته ولا تموت بموته ، وهذا الابتكار حديث في حياة البشر ، حيث لا يزيد عمر الكتابة عن خمسة آلاف عام ، أما عمر الورق الذي سهل الكتابة فمنذ ألف عام أو يزيد قليلاً ، وأما الحفظ الإلكتروني فمنذ عقود قليلة .

فالخبرة لا تنتقل من دماغ إلى آخر إلا بواسطة الترميز بالضوء أو الصوت ، ومع إمكان الخطأ في تفسير المرئي والمسموع فإن هذا الخطأ يمكن تلافيه ، وهذا شيء مهم جداً أرى أنه لم يتم الانتباه إليه ، ففقدوا الثقة وتشككوا في إمكان الفهم ، ووصلوا إلى العدمية الحديثة كالسوفسطائية القديمة .

فقد نخطئ في فهم ورؤية حركة الشمس ونخطئ في فهم العبارة التي تدل على المعنى . ولكن الشمس لن تخطئ في حركتها من أجل خطئنا في فهمها ، ولن تبالي بخطئنا بل ستظل تتبع قانونها .

وقد نخطئ في فهم الكلام المسموع والمقروء ولكن لن يخطئ المعنى الذي يتعلق بالوجود الذي يحتفظ بقوانينه ، فهذا الخطأ المحتمل في قصور الرمز ونقصان كفاءته في نقل الخبرة ، يكمل ويصحح بالعودة إلى المرموز إليه ، وليس إلى الرمز ، ولا إلى الصورة الذهنية ، وإنما إلى الواقع الخارجي الحي النابض الذي لن يخرج على قوانينه ، وكلما عدت إليها تجدها كما هي ، فقوانين الوجود لا تخطئ مهما أخطأنا نحن في فهمها وتفسيرها ، وبهذا نكون حللنا مشكلة النص والرمز والدلالة وهو شيء مهم جداً في الدخول إلى عالم الدين .

ولقد قلت من قبل العبارة التالية وأعيدها هنا لتأكيدها :

( إن الموضوع يتعلق بالواقع الذي نتعامل معه ، فهو أمامنا بذاته وبماديته والذي نحن جزء منه أيضاً ، ثم بتصورنا نحن لهذا الواقع . فمن هذا الجانب أجعل الدين أيضاً تصوراً مهما كان مصدره ؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلينا إلا تصّوراً وبواسطة الرموز ) .

ويكون التأكد منه بالعودة إلى الموضوع الذي يتحدث عنه .

وهنا يمكن أن نرى العلاقة بين الوجود الذي يحتفظ بقوانينه التي لا تتغير ، وبين صورنا الذهنية وكلامنا المنطوق أو المكتوب علاقة لا فكاك منها ، فلا فائدة من الرموز من دون خبرات ، ولا فائدة من الخبرات إلا إذا أمكن نقلها بالرموز ، فهذا موضوع الإبداع في الإنسان الذي تحرر من قيود نقل الخبرة بواسطة الجينات ، إلى التمكن من النقل بواسطة الرموز الضوئية والصوتية .

إذن فالوحي أو الفكرة المتولدة من الخبرة كلاهما لا يمكن نقلهما إلى الآخر إلا بواسطة الرمز الضوئي أو الصوتي . فالنبي المرسل والكتاب المنزل ، والإنسان الذي يستقبل ذلك ، معرض لما تعرضت له الشمس من الفهم الخاطئ نفسه ، وبغير العودة إلى الواقع الذي كونّا عنه صورنا الذهنية ، لا يمكن التعويل على صورة ذهنية ، ولا رمز ضوئي ، ولا صوتي . وحتى سمعنا وبصرنا لا يغني عنا شيئاً حين نفقد التعامل مع الوقائع ، وهذا الفصل والوصل في آنٍ واحدٍ ، بين الوقائع والصور الذهنية أمر جوهري في حياة الإنسان ، وخاصة في المجال الديني حيث كان الفصل أصعب ، ويمكن أن نقول : إن الدين أو المتعالي أو المقدس خاطبنا بلغتين : لغة الوقائع والقوانين التي تحكم وجودنا ، ولغة الرموز التي تعبر بالتأويل عن الوقائع ، ولابد من الفصل بينهما وأنهما ليسا شيئاً واحداً ، ولو كانت كلمة النار ناراً واقعية لحرقت اللسان الذي ينطق بها ، والورق الذي يكتب عليه ، ولابد من الوصل بين النار الموقدة خارج كلمة النار ، وكلمة النار التي لا يمكن نقل المعلومات والخبرات عنها إلا بواسطة الكلام . وليكون الفصل والوصل حقيقياً ومفيداً ، فإن المرجع هو الوقائع لزيادة المعرفة ، والرموز أو الكتب هي المرجع في تحصيل المعرفة التي سبق أن حصل الناس عليها .

فهذه المزدوجة هي ما امتاز بها الإنسان ليخرج عن بقية الكائنات الحية ، وليستمر في معرفة سنن التسخير وحفظ قوانينه بالرموز ، وبالكتب ، بوسائل نقل المعرفة وحفظها .

والتعامل مع الوقائع له قوانينه ومراجعه بإحصاء العواقب النافعة ، وكذلك التعامل مع الرموز له قوانينه ، ومع عظم فائدته واستحالة الاستغناء عنه ، فإن المرجعية الحقّة إنّما ترجع إلى إحصاء العواقب النافعة . وعلم الرموز والدلالة والألسنيات والسيميائيات ، ألقت أضواء نافعة على كيفية حدوث الوقائع ، وأسلوب التواصل لنقل المعرفة وتعميمها .

والتمكن من عرض هذا الموضوع بتبسيط مقنع واختصار للجهد والزمن ورفع للمردود غاية تحقيق إنسانية الإنسان وإبراز إمكاناته التي لما تبرز إلى الوجود إلا قليلاً .

وبعد هذه الرؤية التاريخية للوضع الإنساني سأحاول إلقاء بعض ما توصلتُ إليه من الرؤية الدينية للمشكلة الإنسانية من خلال القرآن .

وفي بادئ الأمر ينبغي أن نفصل ونصل أيضاً بين المتعالي الخالق الأعلى ، وبين الكون الذي نعيشه ، كما فصلنا ووصلنا بين الوجود الكوني والمتعالي ، بين الرمز والمرموز إليه ويمكن أن نعتبر الكون كله رمزاً للخالق المتعالي المقدس . ولكن في هذه المرة الأمر بالعكس فإن التعرف على المتعالي يكون بواسطة الكوني ، ومن خلاله تحصل لدينا المعرفة بالمتعالي .

الآن سأبدأ التعامل مع نصوص القرآن للتعامل مع الوجود الكوني والإنساني .